مناظرات الشيخ

مناظرات ابن تيمية للرافضة:
المناظرة الأولى:

جادل ابن تيمية أحد شيوخ الرافضة، وكان الجدل والبحث في مسألة دعوى عصمة الإمام، وأن أمير المؤمنين على بن أبي طالب - رضي الله عنه - معصوم من الصغائر والكبائر فحاجّه شيخ الإسلام في أن العصمة لم تثبت إلا للأنبياء عليهم السلام، وأن علياً وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما اختلفا في مسائل وقعت، وأن تلك المسائل عُرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فصوّب فيها قول ابن مسعود - رضي الله عنه [1]

المناظرة الثانية :

ساق ابن تيمية مناظرته لشيخ رافضي في إحدى مسائل الإمامة فقال:

"ولقد طلب أكابر شيوخهم الفضلاء أن يخلو بي، وأتكلم معه في ذلك، فخلوتُ به وقررت له ما يقولونه في هذا الباب، كقولهم: إن الله أمر العباد، ونهاهم، فيجب أن يفعل بهم اللطف الذي يكونون عنده أقرب إلى فعل الواجب وترك القبيح.. وهذا أخذوه من المعتزلة. ثم قالوا: والإمام لطف؛ لأن الناس إذا كان لهم إمام يأمرهم بالواجب وينهاهم عن القبيح، كانوا أقرب إلى فعل المأمور، وترك المحظور، فيجب أن يكون لهم إمام، ولابد أن يكون معصوماً، لأنه إذا لم يكن معصوماً لم يحصل به المقصود، ولم تدع العصمة لأحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا لعليّ، فتعيّن أن يكون هو إياه للإجماع على انتفاء ما سواه، وبسطت له العبارة في هذه المعاني.

ثم قالوا: وعليّ نصّ على الحسن، والحسن على الحسين، إلى أن انتهت النوبة إلى المنتظر محمد بن الحسن فاعترف بأن هذا تقرير مذهبهم على غاية الكمال.

قلت له: فأنا وأنت طالبان للعلم والحق، وهم يقولون: من لم يؤمن بالمنتظر فهو كافر، فهذا المنتظر هل رأيته؟ أو رأيت من رآه؟ أو تعرف شيئاً من كلامه الذي قاله هو؟ أو ما أمر به أو ما نهى عنه مأخوذاً كما يؤخذ عن الأئمة؟.

قال: لا.

قلت: فأي فائدة في إيماننا هذا؟ وأي لطف يحصل لنا بهذا؟ ثم كيف يجوز أن يكلفنا الله بطاعة شخص، ونحن لا نعلم ما يأمرنا به، ولا ما ينهانا عنه، ولا طريق لنا إلى معرفة ذلك بوجه من الوجوه؟ وهم من أشد الناس إنكاراً لتكليف ما لا يطاق، فهل يكون في تكليف ما لا يطاق أبلغ من هذا؟ [2]

مناظرات ابن تيمية لنفاة الصفات:
المناظرة الأولى:

كان موضوع " الرسالة المدنية" [3] ومحتواها: مناظرة ابن تيمية لبعض الناس في مسألة تأويل الصفات، وخلاصة المناظرة: أن شيخ الإسلام قرر لمخالفه مذهب أهل السنة في مسألة الصفات، ومعنى قولهم: ظاهر نصوص الصفات مراد أو ليس مراداً، وأن الظاهر مراد إذا كان المقصود إثبات الصفات لله تعالى، كما يليق بجلاله وعظمته، فأقرّ المناظر على ذلك، ثم ساق ابن تيمية شروطاً في صرف نصوص الصفات عن ظاهرها، فلا يجوز أن يكون في نصوص الوحيين كلام يراد به خلاف ظاهره، إلا وقد نُصِب دليل يمنع من حمله على ظاهره، حيث سلّم ذلك الرجل بهذا التقرير، ثم ساق شيخ الإسلام صفة اليد لله تعالى مثالاً وأنموذجاً لذلك، وحكى تأويلات المخالفين، واعترف الرجل بها، ثم أجاب شيخ الإسلام عن تأويلاتهم بحجج من القرآن والسنة واللغة والعقل، ثم اعترض المخالف بأن إضافة اليد لله كناقة الله وبيت الله، فأجاب ابن تيمية عن الاعتراض، ثم ختم مناظرته بإيراد أحاديث في إثبات صفة اليد لله تعالى، ثم خاطب مناظره قائلاً: " هل تقبل هذه الأحاديث تأويلاً؟ أو هي نصوص قاطعة؟ وهذه أحاديث تلقتها الأمة بالقبول والتصديق [4] "فأظهر الرجل التوبة، وتبيّن له الحق " [5]

المناظرة الثانية :

كتب شيخ الإسلام مناظراته بشأن العقيدة الواسطية، ونظراَ لطولها فسنوردها بتصرف وإيجاز شديد على النحو الآتي:

جرت هذه المناظرات في ثلاثة مجالس سنة 705هـ [6] ، حيث أُحضرت العقيدة الواسطية، وقرئت بتمامها على الحاضرين [7] ، وبين الشيخ سبب تأليفها، وأجاب عما أورده الحاضرون من إشكالات واعتراضات.

وبيّن أن هذه عقيدة السلف الصالح جميعاً، فليس للإمام أحمد اختصاص بها [8] وأزال شيخ الإسلام اللبس عند الحاضرين في مسألة الحرف والصوف، والفرق بين تكلم الله بصوت، وبين صوت العبد [9] فأسكت بهذا التفصيل طائفة من المعاندين المتجهمة [10] ولما قرر ابن تيمية أن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئاً، لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً، استحسن الحاضرون هذا الكلام وعظموه، واعترفوا بزوال الشبهة عنهم [11] ثم ساق مجموع اعتراضاتهم، وأجاب عنها

وافتتح شيخ الإسلام المجلس الثاني بأهمية الجماعة، والنهي عن الفرقة ، ثم قال الشيخ المقدم من المعترضين: "لا ريب أن الإمام أحمد إمام عظيم القدر، لكن قد انتسب إليه أناس ابتدعوا أشياء" فقال ابن تيمية: "أما هذا فحق، وليس هذا من خصائص أحمد، بل ما من إمام إلا وقد انتسب إليه أقوام هو منهم بريئ "

وذبّ عن أئمة الحنابلة، وبيّن كذب ما ادّعاه ابن الخطيب [12] وأكّد أن هذه العقيدة لا تختص بالإمام أحمد، وإنما هذا اعتقاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسلف الأمة، وخاطب أكابر الشافعية بأن ما قرره في هذه العقيدة هو قول أئمة أصحاب الشافعي ولما عزم بعضهم على الطعن في حديث الأوعال، بادر ابن تيمية بإثبات الحديث وقبوله، ولما أحضر بعضهم كتاب الأسماء والصفات للبيهقي، وأن فيه تأويل الوجه، فعاجله الشيخ بالجواب وبيّن جواز تأويل الوجه بالجهة والقبلة في قوله تعالى: {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} (البقرة: 115) فلا محذور فيه، وكما جاء عن مجاهد والشافعي في تفسير الآية، ولكن هذه الآية ليست من آيات الصفات ومن مناظراته نفاة الصفات ما حكاه قائلاً: " وقد ناظرت غير واحد من هؤلاء من نفاة الصفات ومحرّ فيها من شيعي ومعتزلي وغيرهما، وذكرت لهم الشبهة التي تذكرها نفاة الرؤية، فقلت هي كلها مبنية على مقدمتين:

إحداهما: أن الرؤية تستلزم كذا وكذا كالمقابلة والتحيز وغيرهما.

والثاني: أن هذه اللوازم منتفية عن الله تعالى، فكل ما يذكره هؤلاء فأحد الأمرين فيه لازم، إما أن لا يكون لازماً بل يمكن الرؤية مع عدمه، وهذا المسلك سلكه الأشعري وغيره، لكن أكثر العقلاء يقولون: إن من ذلك ما هو معلوم الفساد بالضرورة.

وإما أن يكون لازماً، فلا يكون محالاً، فليس في العقل، ولا في السمع ما يحيله، بل إذا قّدر أنه لازم للرؤية فهو حق؛ لأن الرؤية حق، قد علم ذلك بالاضطرار عن خير البرية، أهل العلم بالأخبار النبوية

ومن تلك المناظرات ما أورده بقوله:

" وقد يحكى عن بعضهم أن سُمع كلام لا معنى له في نفس الأمر، كما حكى الرازي في "محصوله" عمّن سماهم بحشوية، أنهم قالوا: يجوز أن يتكلم الله بكلام ولا يعنى به شيئاً، لكن هذا القول لا أعرف به قائلاً، بل لم يقل هذا أحد من طوائف المسلمين.

ولهذا كنا مرة في مجلس، فجرت هذه المسألة، فقلت: هذا لم يقله أحد من طوائف المسلمين، وإن كان أحد ذكره فليس فيما ذكره حجة على إبطاله، فقال بعض الذابين عنه: هذا قالته الكرامية، فقلت: هذا لم يقله لا كرّامي ولا غير كرّامي، ولا أحد من أهل المذاهب الأربعة ولا غيرهم، وبتقدير أن يكون قولاً، فإنما احتج على فساده بأن هذا عبث، والعبث على الله محال، وهذه الحجة فاسدة على أصله، لأن النزاع إنما هو في الحروف المؤلفة، هل يجوز أن ينزل حروفاً لا معنى لها، والحروف عنده من المخلوقات، وعنده يجوز أن يخلق الله كل شيء؛ لأنه فعله لا يتوقف على الحكمة والمصلحة، فليس فيما ذكره حجة على بطلان هذا، وإنما النزاع المشهور: هل يجوز أن ينزِّل الله تعالى ما لا يُفهم معناه، والرازي ممن يجوّز هذا في أحد قوليه".

خاتمة :

نخلص في نهاية هذا البحث إلى النتائج التالية:

- كثرة مناظرات ومخاطبات شيخ الإسلام لأهل الملل والنحل، لا سيما الاتحادية وأهل وحدة الوجود، والرافضة، فقد جرى بينه وبينهم مناظرات ومخاطبات يطول وصفها.. ومد تضمن هذا البحث سبع عشرة مناظرة، فضلاً عن المناظرات والمخاطبات الواردة في ثنايا التعليقات.

- مشروعية المناظرة وضابطها، مع بيان أحوال المناظرة المشروعية، وأن المناظرة قد تكون ممنوعة إن كان المناظر ضعيف العلم أو معانداً.

- ما تحلى به شيخ الإسلام في تلك المناظرات - وكذا سائر مواقفه العلمية والعملية - من عدل وإنصاف لمخالفيه، وكما شهد بذلك خصومه، ولعل عدله كان سبباً في إفحام مخالفيه، واعترافهم بما معه من الحق.

ويشهد لذلك قوله - رحمه الله - " إن الإنسان إذا اتبع العدل نُصر على خصمه، وإذا خرج عنه طمع فيه خصمه" وتحقيقاً لكمال العدل فإن ابن تيمية يتنزل مع مناظريه - كما سبق في مناظرته للنصارى والاتحادية - وكان يقول: "التنزل في المناظرات من تمام الإنصاف، ومن الداعي للنظر في الأدلة والبراهين المرجحة، وفيه دعوة لطيفة لأهل الانحراف، كما هو معروف بالتأمل "

- مع ما في هذه المناظرات من صدع بالحق، وإزهاق للباطل، وفضح للمنافقين، ومباهلة، إلا إنها لا تنفك عن رحمة بالمخالف، ومحبة الخير لهم، والترفق بهم من أجل هدايتهم، ومراعاة عوارض الأهلية كالجهل والتأويل ونحوهما.

- أن ما يورده شيخ الإسلام من تقرير وتأصيل - تبعه - في تلك المناظرات - بالتطبيق والتحقيق، فإذا كان بابن تيمية يقرر - مثلاً - أن أهل السنة يعلمون الحق، ويرحمون الخلق، فقد حقق ذلك والتزمه في تلك المناظرات، ولما ساق في مناظرته المذكورة في الرسالة المدنية، شروط صرف الكلام عن ظاهره، أتبعه بالمثال والتطبيق..

- تميّز شيخ الإسلام بقوة حجته، وظهور أدلته، ووضوح براهنيه. وكان يقول: "قد لا يتأتى في المناظرات تفسير المجملات، خوفاً من لدد الخصم، فيؤتى بالواضحات

- ما كان عليه شيخ الإسلام من حضور الحجة، وسرعة البديهة، فمع أن جملة من المناظرات يقع بغتة، إلا أن حجته حاضرة وظاهرة، فلم يناظر أحداً إلا غلبه - كما قال ابن الزمكاني -.

ومن ذلك أنه فسّر كتاب "لوح الأصالة " لابن سبعين وبيّن فساده، مع أنه لم يره من قبل، ومع أن المجلس الأول من المناظرة في شأن " الواسطية " كان بغتة، إلا أن الله تعالى أظهر به قيام الحجة، وظهور السنة.

- يقترن بتلك المناظرات جوانب عملية من الاحتساب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاستتابة، والتأديب.


  1. العقود الدرية ص 122
  2. منهاج السنة النبوبة 1 /101-103 = باختصار، وانظر: التسعينية لابن تيمية، ت: محمد العجلان، ط 1، 1420هـ، مكتبة المعارف، الرياض 2/ 628.
  3. طبعت "الرسالة المدنية " مفردة بتحقيق: د. الوليد الفريان، وهي موجود ضمن مجموع الفتاوى 6/ 351 - 373
  4. الرسالة المدنية ص 66
  5. الرسالة المدنية، وانظر تفصيل المناظرة في الرسالة المدنية ص 28 -66
  6. مجموع الفتاوى 3/ 161.
  7. مجموع الفتاوى 3/ 164.
  8. مجموع الفتاوى 3/169.
  9. مجموع الفتاوى 3/170
  10. مجموع الفتاوى 3/172.
  11. مجموع الفتاوى 3/176
  12. ابن الخطيب هو الفخر الرازي
1234