منهج الشيخ

منهج ابن تيمية في المنطق:

إن الحديث عن منهج ابن تيمية في المنطق هو حديث عن منهج مزدوج أحدهما سالب والآخر موجب وإن شئت قل احدهما هدم والآخر بناء ، الأول وهو الذي اسميناه بالهدم (أو السلب) ينقد فيه ابن تيمية المنطق الارسطي في محاولة لهدمه ، والجانب الثاني هو البناء وهو الذي يقوم فيه ابن تيمية بمحاولة بناء منطق اسلامي يستند في أسسه الى الطريقة الاسلامية والاساليب القرآنية بالاستدلال والبرهان ، ولكي يؤكد ابن تيمية منهجه الايجابي يفند ويدحض الطريقة غير الصحيحة بعد أن يناقش سبب خطئها ثم يقوم ببناء طريقة أخرى تكون بذلك هي البديل [1] ومما تجدر الاشارة اليه ان مثل هذه الطريقة في اثبات صحة البديل الآخر ، عن طريق نقد البديل الأول هي التي بدأ المفكرون الغربيون بالسير على نهجها منذ القرن السابع عشر في موقفهم من المنطق الارسطي ، فمثلاً " ديكارت " العالم والفيلسوف الرياضي ينقد منطق ارسطو ويقترح بديلا له الطريقة الرياضية في التفكير ، وكذلك الحال عند " فرنسيس بيكون" الذي انتقد منطق ارسطو واقترح بديلا آخر هو المنهج الاستقرائي المتبع في العلوم الطبيعية [2] وفي مايأتي عرض لنقد ابن تيمية المنطق الارسطي بشكل عام محاولين تفصيل هذا النقد بالشرح والتحليل : – أولاً - بدأ ابن تيمية في نقده المنطق الارسطي بقوله : " اني كنت أعلم ان المنطق اليوناني لا يحتاج اليه الذكي ، ولا ينتفع به البليد "فالمنطق لدى ابن تيمية بحسب عبارته السابقة ، منطق عديم الجدوى للانسان إذ لا يحتاج اليه الذكي، ولا ينتفع منه البليد [3].

الا ان ابن تيمية لا يريد ان يتخذ قرارا حاسما بشأن المنطق من أول لحظة ، بل يريد ان يكون منصفا أزاء ذلك وليس متعصبا ازاء الحقيقة التي يريد ايصالها ، فهو يناقش كل ما يصدر عنه من رأي ، لذلك فانه يرى ان بعض قضايا المنطق القديم صادقة ، إلا ان صدق بعض هذه القضايا لا يعني صدق جميعها " كنت احسب ان قضاياه صادقة لما رأيت صدق كثير منها ، ثم يتبين لي فيما بعد خطأ طائفة من قضاياه "[4] ، ولما تبين له كذب بعضها الآخر وبطلانها ، أنكر على المنطق ان يكون اداة تعصم الفكر من الوقوع في الخطأ كما كان يظن دعاته .

وقد فسر لنا ابن تيمية سبب دراسته للمنطق والبحث فيه ، وذلك عندما زعم اصحاب المنطق ودعاته ان المنطق اداة تعصم الذهن من الوقوع في الخطأ ، مما جعله يدرس المنطق ليثبت صحة هذه الدعوى او بطلانها " الكلام في المنطق انما وقع لما زعموا انه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن ان يزل في فكره ، فاحتجنا ان ننظر في هذه الآلة ، هل هي كما قالوا ، أو ليس الأمر كذلك ؟" [5].

وقد بين لنا ابن تيمية انه لا يوجد مانع أو عارض ان يكون منطق ارسطو على خطأ ، ولاسيما ان ارسطو نفسه قد اثبت خطأ من جاءوا قبله وفي هذا الصدد يقول " فان الفلسفة التي كانت قبل ارسطو ، وتلقاها من قبله بالقبول طعن ارسطو في كثير منها وبين خطأها"… وهكذا فان ابن تيمية ينتهي الى ان المنطق القديم لافائدة منه ولا جدوى من ورائه ، بل انه فيما يرى ابن تيمية يصرف الاذهان عن المعرفة الحقة ، وهو في هذا يقول عن أهل المنطق " انهم يسلكون الطرق الصعبة الطويلة ، والعبارات المتكلفة المائلة ، وليس لذلك فائدة ، الا تضييع الزمان ، واتعاب الاذهان ، وكثرة الهذيان ، ودعوى التحقيق بالكذب والبهتان ، وشغل النفوس بما لا ينفعها [6].

واذا قارنا كلام ابن تيمية بكلام بعض المحدثين والمعاصرين من الغربيين في نقدهم المنطق الارسطي ، مثل فرنسيس بيكون ، الذي ذهب الى ان المنطق القديم لا يساعد على التوصل الى علوم جديدة او الكشف عنها ، بل ان بيكون لم يقتصر في وضعه المنطق القديم بأنه مجرد أداة عقيم ، غير مثمرة في التفكير العلمي بل انه يراه عقبة في طريق التفكير وكذلك الحال عند برتراندرسل الذي ذهب الى الرأي نفسه وذلك بحسب قوله " كل من اراد في عصرنا الحاضر ان يدرس المنطق ، فوقته ضائع سدى لو قرأ لأرسطو ، ولاحد تلامذته" [7]

العقل عند ابن تيمية :

يتوضح مفهوم ابن تيمية للعقل من ناحيتين :

الناحية الأولى : موقفه من العقل في مفهومه العام عنصراً مستقلا من عناصر الاستدلال أو جوهراً قائما بنفسه فهو في كتابه الرد على المنطقيين يقول " العقل في لغة المسلمين مصدر عقل يعقل عقلا وهو ايضا غريزة في الانسان " فمسماه من باب الاعراض لا من باب الجواهر القائمة بنفسها ، اما عند الفلاسفة من النوع الثاني أي القائم بنفسه "[8] فهو بهذا التعريف كما اسلفنا سابقا يختلف مع الفلاسفة الذين يقولون بالعقل جوهرا قائما بنفسه ، كما ان العقل لدى ابن تيمية هو غريزة في الانسان وهي كذلك عند المحاسبي واحمد بن حنبل وغيرهما ممن قالوا ان العقل غريزة في الانسان، واذا كان ابن تيمية يسمى العقل من باب الاعراض لا من باب الجواهر ، فلأن الجواهر القائمة بنفسها انما تفعل ولا تنفعل ، تحكم ولا يحكم عليها ، والغرائز الانسانية لا تخرج عن كونها ادوات محركة للنشاط البشري وفاعلة في كثير من الميادين الانسانية ، بحيث انها تدفع الكائن نحو اشباعها لتهدأ وتستقر ، والغريزة تنفعل ازاء ما يثير فيها من المطالب المسلمة فتتأثر بنشاط الفرد وتؤثر في نشاطه ، وكل ذلك في حلقة متصلة اوثق الاتصال بقطب الدائرة التي تدور … رفض ابن تيمية العقل جوهراً وأكد كل ما سوى الله هو مخلوق [9]، ولم يعترف ابن تيمية بالاحاديث النبوية التي تذكر العقل بمعناه الفلسفي وترفعه الى اعلى مراتب القداسة وتجعله مسلطاً بأمر الله على شؤون الناس وامورهم وعد هذه الاحاديث موضوعة باتفاق اهل المعرفة بالحديث ومن تلك الاحاديث ما نسب الى النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) انه قال اول ماخلق الله العقل ، قال له اقبل ، فأقبل ، ثم قال ادبر فأدبر ، فقال وعزتي ما خلقت خلقا اكرم علي منك ، بك أخذ وبك اعطي ، وبك الثواب وبك العقاب [10].

أما من الناحية الثانية في فهم ابن تيمية للعقل :

فهي التوفيق بين العقل والنقل وازالة ما بينهما من تعارض وهذا قد فصلنا القول فيه في الصفحات الآتية من المبحث الآتي :

ابن تيمية ومحاولة التوفيق بين العقل والنقل :

ان جل واعظم ما توصل اليه شيخ الاسلام ابن تيمية في كل ما كتب والف وهو ان صريح المعقول لا يخالف صحيح المنقول بل يوافقه ، حتى ان هذا جعله عنواناً لأحد كتبه الذي هو :

" موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول " وكذلك كتابة الاشهر " درء تعارض العقل والنقل " .. ولعل بعضهم وللأسف لا يفهم منهج ابن تيمية ويعده منهجاً معتمداً جل الاعتماد على النص ، وانه أهمل العقل في منهجه ومؤلفاته ودراساته .. وهذا خطأ صريح وقع ويقع فيه دراسو فكر ابن تيمية ، ولعل الحقيقة في منهجية هذا الفكر تكمن في انطلاقه من نقطتين اساسيتين هما :

النقل الصحيح ... والعقل الصريح

لذلك فان ابن تيمية في طريقة التفسير العقلية اعتمد على منهجية التوفيق بين العقل والنقل وهذه المنهجية هي : – تكامل الوحي – الخبر الصادق – ويكون مقابل فرضية البحث في العلوم التجريبية ، ولكنه صادق (يقيني) ولا احتمال في صدقه .

تكون وظيفة العقل تحري تفاصيل الخبر الصادق في الآفاق وهو بمثابة المختبر على الفكر الاسلامي اذ يستعمل قواه الثلاث " العقل – السمع – البصر ، ثم يقارن النتائج التي توصل اليها ،فتكامل الوحي والعقل في منهج المعرفة لدى ابن تيمية ليؤدي الى اليقين الصادق ، ويقول ابن تيمية في تحليله هذه المنهجية ( ان صحيح النقل لا يتعارض قطعا مع صريح العقل ) وبهذا يكون ابن تيمية قد نجح في التقليل من حدة الخلاف بين العقل والنقل ، فهو لا يثق في العقل مطلقا ولا يشك فيه مطلقا ، بل يجعله احدى طرق العلم الصحيحة ، وليس هو الطريق الوحيدة الى اليقين. فكيف نجح ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل وكيف كانت منهجيته في ذلك ؟[11]


  1. نقض المنطق لابن تيمية : ، ص16.
  2. المصدر نفسه ، ص16-17.
  3. الرد على المنطقيين ، ابن تيمية : ، ص2.
  4. المصدر نفسه ، ص3.
  5. جهد القريحة في تجريد النصيحة ، ابن تيمية ، 1947، ص395.
  6. المصدر نفسه ، ص296.
  7. جهد القريحة لابن تيمية : ، ص208.
  8. منطق ابن تيمية لمحمد حسني الزين ، ص182-183.
  9. التفسير الكبير لابن تيمية ، جـ1 ، ص119.
  10. مجموع الفتاوى لابن تيمية : ج3 ، القاهرة ، 1951 ، ص327 وما بعدها.
  11. منهج ابن تيمية في التفسير لسعدي زيدان ، ص188.
123456789