تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ : - يَا سَادَةَ الْعُلَمَاءِ : أَفْتُونَا بِمَا يَشْفِي الْغَلِيلَ فَمَاءُ صَبْرِي آسِنٌ عَنْ قَوْلِ نَاظِمِ عِقْدِ أَصْلِ عَقِيدَةٍ فِي حَقِّ حَقِّ الْحَقِّ لَيْسَ يُدَاهِنُ يَا مُنْكِرًا أَنَّ الْإِلَهَ مُبَايِنٌ لِلْخَلْقِ يَا مَفْتُونُ بَلْ يَا فَاتِنُ هَبْ قَدْ ضَلَلْت فَأَيْنَ أَنْتَ ؟ فَإِنْ تَكُنْ أَنْتَ الْمُبَايِنُ فَهُوَ أَيْضًا بَائِنُ أَوْ قُلْت : لَسْت مُبَايِنًا . قُلْنَا : إذَنْ فَبِالِاتِّحَادِ أَوْ الْحُلُولِ تُشَاحِنُ أَوْ قُلْت : يَلْزَمُ مِنْهُ شَيْءٌ دَاخِلًا قُلْنَا : نَعَمْ مَا الرَّبُّ فِينَا سَاكِنٌ إنْ قُلْت : يَلْزَمُ أَنَّهُ فِي حَيِّزٍ أَوْ صَارَ فِي جِهَةٍ فَعَقْلُك وَاهِنٌ فَلَقَدْ كَذَبْت فَإِنَّهُ لَا حَيِّزٌ إلَّا مَكَانٌ وَهُوَ مِنْهُ بَائِنٌ وَكَذَا الْجِهَاتُ فَإِنَّهَا عَدَمِيَّةٌ فِي حَقِّهِ وَالْحَقُّ فِي ذَا بَائِنُ إذْ لَيْسَ فَوْقَ الْحَقِّ ذَاتٌ غَيْرُهُ حَتَّى تُقَدِّرَ وَهُوَ فِيهَا قَاطِنُ أَوْ قُلْت : مَا هُوَ دَاخِلٌ أَوْ خَارِجٌ هَذَا يَدُلُّ بِأَنَّ مَا هُوَ كَائِنُ إذْ قَدْ جَمَعْت نقائضا وَوَصَفْته عَدَمًا بِهَا هَلْ أَنْتَ عَنْهَا ظَاعِنُ مَا قَالَ : مَا هُوَ ظَاهِرٌ أَوْ بَاطِنٌ لَكِنَّهُ هُوَ ظَاهِرٌ هُوَ بَاطِنُ فَارْجِعْ وَتُبْ مَنْ قَالَ مِثْلُك إنَّهُ لَمُعَطِّلٌ وَالْكُفْرُ فِيهِ كَامِنُ وَتَفَضَّلُوا بِجَوَابِهِ مَنْ نَظْمِكُمْ هَلْ صَادَقَ فِيمَا ادَّعَى أَوْ ماين فَصْلًا بِفَصْلِ ظَاهِرٍ فَاَللَّهُ لل مُفْتِي الْمُصِيبِ بِخَيْرِ آخِرٍ ضَامِنُ
123
فَأَجَابَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . جَوَابُ الْمُنَازِعِينَ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ هَذَا الْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا : الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى مُبَايِنٌ لِلْعَالَمِ خَارِجٌ عَنْهُ . ( وَالثَّانِي : الْجَوَابُ عَنْ حُجَّةِ مَنْ نَفَى ذَلِكَ وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْقَوْلَ بِالتَّحَيُّزِ وَالْجِهَةِ وَهُمَا بَاطِلَانِ وَبُطْلَانُ اللَّازِمِ يَقْتَضِي بُطْلَانَ الْمَلْزُومِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ فَإِنَّ مَضْمُونَهُ أَنَّك إمَّا أَنْ تَكُونَ مُبَايِنًا لِلْخَالِقِ وَإِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ مُبَايِنًا فَإِنْ قُلْت : إنَّك مُبَايِنٌ لَزِمَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لَك ; لِأَنَّ الْمُبَايَنَةَ مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ الَّتِي يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِهَا مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ ثُبُوتُهَا فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ عَقْلًا وَكَذَلِكَ هُوَ فِي اللُّغَةِ إلَّا فِي مَوَاضِعَ قِيلَ إنَّهَا مُسْتَثْنَاةٌ بَلْ مُتَأَوَّلَةٌ : مِثْلُ قَوْلِهِمْ : عَاقَبْت اللِّصَّ وداققت النَّعْلَ وَعَافَاك اللَّهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَإِنْ قُلْت : لَسْت مُبَايِنًا لَهُ لَزِمَك الْقَوْلُ بِالْحُلُولِ أَوْ الِاتِّحَادِ ; فَإِنَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ مُبَايِنًا لِغَيْرِهِ مُتَمَيِّزًا عَنْهُ كَانَ مُجَامِعًا لَهُ مُدَاخِلًا لَهُ بِحَيْثُ هُوَ يحايثه وَيُجَامِعُهُ وَيُدَاخِلُهُ كَمَا تحايث الصِّفَةُ مَحَلَّهَا الَّذِي قَامَتْ بِهِ وَالصِّفَةُ الْمُشَارِكَةُ لَهَا بِالْقِيَامِ بِهِ ; فَإِنَّ التُّفَّاحَةَ مَثَلًا طَعْمُهَا وَلَوْنُهَا لَيْسَ هُوَ بِمُبَايِنِ لَهَا بَلْ هُوَ محايث لَهَا وَمُجَامِعٌ لَهَا وَذَلِكَ الطَّعْمُ محايث اللَّوْنِ وَالْمُبَايَنَةُ هِيَ الْمُفَارَقَةُ وَهِيَ ضِدُّ الْمُجَامَعَةِ فَلَمَّا كَانَتْ الصِّفَةُ الَّتِي تُسَمَّى الْعَرَضَ تحايث مَحَلَّهَا - الَّذِي يُسَمَّى الْجِسْمُ - وتحايث عَرَضًا آخَرَ كَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا مُنْتَفٍ عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ; فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعَرَضِ وَلَا صِفَةٍ مِنْ الصِّفَاتِ ; بَلْ هُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ مُسْتَغْنٍ عَنْ مَحَلٍّ يَقُومُ بِهِ فَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ محايثة الْمَخْلُوقَاتِ وَالْحُلُولِ ; إذْ الْقَوْلُ بِنَفْيِ الْجِسْمِ مَعَ إثْبَاتِ هَذَا التَّقْسِيمِ تَنَاقُضٌ بَيِّنٌ . وَإِذَا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مُسْتَلْزِمًا لِلتَّجْسِيمِ لَزِمَهُ مَا يَلْزَمُ الْقَائِلِينَ بِالتَّجْسِيمِ وَقَدْ خَاطَبَ نفاة ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ مَفْتُونُونَ وَفَاتِنُونَ وَادَّعَى أَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُعَطِّلٌ وَأَنَّ " الْكُفْرَ فِي قَوْلِهِ كَامِنٌ " . وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ تَكْفِيرَ مَنْ نَفَى التَّجْسِيمَ وَقَدْ عُلِمَ مَا فِي الْقَوْلِ مِنْ الْوَبَالِ الْعَظِيمِ . قَالَتْ الْمُثْبِتَةُ نَحْنُ نُجِيبُكُمْ بِجَوَابَيْنِ : إجْمَالِيٌّ وَتَفْصِيلِيٌّ . ( أَمَّا الْجَوَابُ الْإِجْمَالِيُّ فَإِنَّا نَقُولُ قَوْلَكُمْ : " لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ ضَرُورِيَّةٌ " مَنْعٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ ; فَإِنَّ الْمُقَدِّمَاتِ الضَّرُورِيَّةَ لَا يَجُوزُ مَنْعُهَا وَلَوْ جَازَ مَنْعُ الضَّرُورِيَّاتِ لَمْ يُمْكِنْ الِاسْتِدْلَالُ وَلَا إقَامَةُ حُجَّةٍ عَلَى مُنْكِرٍ ; فَإِنَّ الْمُسْتَدِلَّ غَايَتُهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِدَلِيلِ مُؤَلَّفٍ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ ضَرُورِيَّةٍ ; فَلَوْ جَازَ مَنْعُ الضَّرُورِيَّةِ لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَالُ ; وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِضَرُورِيَّةٍ أَوْ لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ لَا يُقْبَلُ أَيْضًا ; فَإِنَّ الضَّرُورِيَّاتِ هِيَ الْأَصْلُ لِلنَّظَرِيَّاتِ ; فَلَوْ جَازَ الْقَدْحُ فِي الضَّرُورِيَّاتِ بِالنَّظَرِيَّاتِ لَكَانَ ذَلِكَ قَدْحًا فِي الْأَصْلِ بِفَرْعِهِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ جَمِيعًا ; فَإِنَّ الْفَرْعَ إذَا كَانَ فَاسِدًا لَمْ تَجُزْ الْمُعَارَضَةُ بِهِ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ صَحِيحًا ; فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَادِحًا فِي الْأَصْلِ . فَثَبَتَ أَنَّهُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَجُوزُ مُعَارَضَةُ الضَّرُورِيَّاتِ بِالنَّظَرِيَّاتِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَبْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْمُقَدِّمَاتِ الضَّرُورِيَّةِ أَنْ تُمَانَعَ وَلَا أَنْ تُعَارَضَ بِالنَّظَرِيَّاتِ ; فَإِذَا ادَّعَى الْمُسْتَدِلُّ عَلَى أَنَّ الْمُقَدِّمَةَ ضَرُورِيَّةٌ فَهَلْ يَكُونُ قَوْلُهُ حُجَّةً عَلَى مُنَاظِرِهِ . قِيلَ : لَيْسَ مُجَرَّدُ دَعْوَاهُ الضَّرُورِيَّةَ حُجَّةً عَلَى خَصْمِهِ لَكِنْ مَنْ عَلِمَ أَنَّ الْقَضِيَّةَ ضَرُورِيَّةٌ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ وَهُوَ لَا يُكَابِرُ نَفْسَهُ ; وَسَوَاءٌ عَلِمَهَا غَيْرُهُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهَا ; وَسَوَاءٌ سَلَّمَهَا لَهُ أَوْ نَازَعَهُ فِيهَا . فَمَا عَلِمَهُ هُوَ ضَرُورَةً لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَشُكَّ فِيهِ . وَأَمَّا طَرِيقُ إلْزَامِهِ لِمُنَازِعِهِ فَإِنَّهُ يَسْتَشْهِدُ عَلَى ذَلِكَ بِتَسْلِيمِ أَرْبَابِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ الَّتِي لَمْ يُعَارِضْهَا عَقْدٌ وَلَا قَصْدٌ يُخَالِفُ فِطْرَتَهَا فَإِذَا كَانَ أَهْلُ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ الَّتِي لَا هَوَى لَهَا وَلَا اعْتِقَادَ يُخَالِفُ ذَلِكَ تُقِرُّ بِأَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ مَعْلُومَةٌ عِنْدَهُمْ بِالضَّرُورَةِ عَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ وَأَنَّ الْمُنَازِعَ فِيهَا قَدْ تَغَيَّرَتْ فِطْرَتُهُ الَّتِي فُطِرَ عَلَيْهَا لِاعْتِقَادِ أَوْ هَوًى فَإِنَّ الْحِسَّ كَمَا قَدْ يَعْرِضُ لَهُ مَا يُوجِبُ غَلَطَهُ فَكَذَلِكَ الْعَقْلُ يَعْرِضُ لَهُ مَا يُوجِبُ غَلَطَهُ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ حَقٌّ أَنَّ جَمِيعَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ السَّمَاءِ وَجَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ جَاءُوا بِمَا يُوَافِقُهَا لَا بِمَا يُخَالِفُهَا وَكَذَلِكَ " سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ " مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ يُوَافِقُونَ مُقْتَضَاهَا ; لَا يُخَالِفُونَهَا . وَلَمْ يُخَالِفْ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ الضَّرُورِيَّةَ مَنْ لَهُ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ ; بَلْ أَكْثَرُ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ يَقُولُونَ بِمُوجِبِهَا وَإِنَّمَا خَالَفَهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ : كَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ ; وَاَلَّذِينَ خَالَفُوهَا - عُقَلَاؤُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ - تَنَاقَضُوا فِي ذَلِكَ وَادَّعَوْا الضَّرُورَةَ فِي قَضَايَا مَنْ جِنْسِهَا وَهِيَ أَبْيَنُ مِنْهَا وَمَنْ أَنْكَرَ مِنْهُمْ ذَلِكَ أَدَّى بِهِ الْأَمْرُ إلَى جَحْدِ عَامَّةِ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحِسِّيَّاتِ فَالْمُنْكِرُ لِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ الضَّرُورِيَّةِ هُوَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَسْتَلْزِمَ جَحْدَ عَامَّةِ الضَّرُورِيَّاتِ وَإِمَّا أَنْ يُقِرَّ بِقَضَايَا - مِنْ جِنْسِهَا ضَرُورِيَّةً - دُونَ هَذِهِ فِي الْقُوَّةِ وَالْجَلَاءِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا : إنَّ الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ لَيْسَ هُوَ جِسْمٌ وَلَا مُتَحَيِّزٌ تَنَازَعُوا بَعْدَ ذَلِكَ : هَلْ هُوَ فَوْقَ الْعَالَمِ أَمْ لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ ؟ فَقَالَ طَوَائِفُ كَثِيرَةٌ : هُوَ فَوْقَ الْعَالَمِ بَلْ هُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَهُوَ مَعَ هَذَا لَيْسَ بِجِسْمِ وَلَا مُتَحَيِّزٍ . وَهَذَا يَقُولُهُ طَوَائِفُ مِنْ الكلابية والكرامية وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَطَوَائِفَ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي حَكَاهُ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ . وَقَالَ طَوَائِفُ مِنْهُمْ : لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ وَلَا فَوْقَ الْعَالَمِ شَيْءٌ أَصْلًا وَلَا فَوْقَ الْعَرْشِ شَيْءٌ . وَهَذَا قَوْلُ الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ وَطَوَائِفَ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ النفاة ; وَالْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ أَوْ أَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِذَاتِهِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ عُبَّادِهِمْ وَمُتَكَلَّمِيهِمْ وَصُوفِيَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَيْسَ هُوَ دَاخِلًا فِيهِ وَلَا خَارِجًا عَنْهُ وَلَا حَالًّا فِيهِ وَلَيْسَ فِي مَكَانٍ مِنْ الْأَمْكِنَةِ ; فَهَؤُلَاءِ يَنْفُونَ عَنْهُ الْوَصْفَيْنِ الْمُتَقَابِلَيْنِ جَمِيعًا وَهَذَا قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ مُتَكَلِّمِيهِمْ وَنُظَّارِهِمْ . وَ ( الْأَوَّلُ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى عَامَّتِهِمْ وَعُبَّادِهِمْ وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّحْقِيقِ مِنْهُمْ وَ ( الثَّانِي هُوَ الْغَالِبُ عَلَى نُظَّارِهِمْ وَمُتَكَلِّمِيهِمْ وَأَهْلِ الْبَحْثِ مِنْهُمْ وَالْقِيَاسِ فِيهِمْ . وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَجْمَعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ ; فَفِي حَالِ نَظَرِهِ وَبَحْثِهِ يَقُولُ بِسَلْبِ الْوَصْفَيْنِ الْمُتَقَابِلَيْنِ كِلَيْهِمَا فَيَقُولُ : لَا هُوَ دَاخِلُ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجُهُ . وَفِي حَالِ تَعَبُّدِهِ وَتَأَلُّهِهِ يَقُولُ بِأَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى يُصَرِّحُونَ بِالْحُلُولِ فِي كُلِّ مَوْجُودٍ - مِنْ الْبَهَائِمِ وَغَيْرِهَا - بَلْ " بِالِاتِّحَادِ " بِكُلِّ شَيْءٍ ; بَلْ يَقُولُونَ " بِالْوَحْدَةِ " الَّتِي مَعْنَاهَا أَنَّهُ عَيْنُ وُجُودِ الْمَوْجُودَاتِ . وَسَبَبُ ذَلِكَ : أَنَّ الدُّعَاءَ وَالْعِبَادَةَ وَالْقَصْدَ وَالْإِرَادَةَ وَالتَّوَجُّهَ يَطْلُبُ مَوْجُودًا ; بِخِلَافِ النَّظَرِ وَالْبَحْثِ وَالْكَلَامِ ; فَإِنَّ الْعِلْمَ وَالْكَلَامَ وَالْبَحْثَ وَالْقِيَاسَ وَالنَّظَرَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْقَلْبُ فِي عِبَادَةٍ وَتَوَجُّهٍ وَدُعَاءٍ سَهُلَ عَلَيْهِ النَّفْيُ وَالسَّلْبُ وَأَعْرَضَ عَنْ الْإِثْبَاتِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِي حَالِ الدُّعَاءِ وَالْعِبَادَةِ فَإِنَّهُ يَطْلُبُ مَوْجُودًا يَقْصِدُهُ وَيَسْأَلُهُ وَيَعْبُدُهُ وَالسَّلْبُ لَا يَقْتَضِي إلَّا النَّفْيَ وَالْعَدَمَ فَلَا يَنْفِي فِي السَّلْبِ مَا يَكُونُ مَقْصُودًا أَوْ مَعْبُودًا . فَالْمُخَالِفُ لِهَذَا النَّظْمِ إذَا كَانَ مِنْ النفاة لِلْمُتَقَابِلِينَ يَقُولُ : أَنَا أَقُولُ : لَا هُوَ مُبَايِنٌ وَلَا أَقُولُ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ فَلِمَ قُلْت : إنِّي إذَا لَمْ أَقُلْ بِالْمُبَايَنَةِ يَلْزَمُنِي الْقَوْلُ بِالْحُلُولِ أَوْ الِاتِّحَادِ ؟ هَذَا هُوَ الَّذِي يَقُولُهُ أَئِمَّةُ النفاة لِمِثْلِ هَذَا النَّاظِمِ ; وَحِينَئِذٍ فَيَقُولُ الْمُثْبِتَةُ الْقَائِلُونَ بِالْمُبَايَنَةِ وَالْخُرُوجِ - وَمَنْ قَالَ مِنْ النفاة إنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ - وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِمْ وَقَوْلِ مُحَقِّقِيهِمْ وَعَارِفِيهِمْ - نَحْنُ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْمَوْجُودَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِغَيْرِهِ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ محايثا وَنَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مَنْ أَثْبَتَ مَوْجُودَيْنِ لَيْسَ أَحَدُهُمَا دَاخِلًا فِي الْآخَرِ - محايثا لَهُ - وَلَا خَارِجًا عَنْهُ - مُبَايِنًا لَهُ - فَقَدْ خَالَفَ ضَرُورَةَ الْعَقْلِ ; وَهَذَا الْعِلْمُ مَرْكُوزٌ فِي فِطَرِ جَمِيعِ النَّاسِ إلَّا مَنْ يُقَلِّدُ قَوْلَ النفاة . وَنَفْيُ هَذَيْنِ جَمِيعًا هُوَ مِنْ أَقْوَالِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ الَّذِينَ هُمْ أَئِمَّةُ الجهمية ; فَإِنَّ جَهْمًا مَعَ الْقَرَامِطَةِ وَغُلَاةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ يَقُولُونَ : لَا نَقُولُ : هُوَ شَيْءٌ وَلَا لَيْسَ بِشَيْءِ كَمَا يَقُولُونَ : لَا نَقُولُ : هُوَ مَوْجُودٌ وَلَا مَعْدُومٌ وَلَا حَيٌّ وَلَا مَيِّتٌ وَلَا عَالِمٌ وَلَا جَاهِلٌ وَلَا قَدِيمٌ وَلَا مُحْدَثٌ . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . وَهَذِهِ الْمَقَالَاتُ فَسَادُهَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَوَاطَأَ عَلَيْهَا جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ ; فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ الَّذِينَ يُقَلِّدُونَ مَذْهَبًا تَلَقَّاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ - يَجُوزُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى جَحْدِ الضَّرُورِيَّاتِ كَمَا يَجُوزُ الِاتِّفَاقُ عَلَى الْكَذِبِ مَعَ المواطئة وَالِاتِّفَاقِ ; وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ كَالنَّصَارَى وَالرَّافِضَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ مَنْ يُصِرُّ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالضَّرُورَةِ . وَإِنَّمَا الْمُمْتَنِعُ مَا يَمْتَنِعُ عَلَى " أَهْلِ التَّوَاتُرِ " وَهُوَ اتِّفَاقُ الْجَمَاعَةِ الْعَظِيمَةِ عَلَى الْكَذِبِ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ وَلَا اتِّفَاقٍ فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ جَحْدُ مَا يُعْلَمُ ثُبُوتُهُ بِالِاضْطِرَارِ وَإِثْبَاتُ مَا يُعْلَمُ نَفْيُهُ بِالِاضْطِرَارِ ; لِأَنَّ هَذَا اتِّفَاقٌ عَلَى الْكَذِبِ . وَأَهْلُ التَّوَاتُرِ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُمْ الْكَذِبُ ; فَأَمَّا إذَا لُقِّنُوا قَوْلًا بِشُبْهَةِ وَحُجَجٍ وَاعْتَقَدُوا صِحَّتَهُ جَازَ أَنْ يُصِرُّوا عَلَى اعْتِقَادِهِ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً عَظِيمَةً ; وَلِهَذَا يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكُفَّارِ فَلَا يَعْرِفُونَ الْحَقَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ الضَّرُورِيَّاتُ مِنْ الْقُلُوبِ السَّلِيمَةِ وَالْعُقُولِ الْمُسْتَقِيمَةِ : الَّتِي لَمْ تَمْرَضْ بِمَا تَقَلَّدَتْهُ مِنْ الْعَقَائِدِ وَتَعَوَّدَتْهُ مِنْ الْمَقَاصِدِ . وَالْمُثْبِتَةُ يَقُولُونَ : مَنْ ذُكِرَ لَهُ قَوْلُ النفاة - مِنْ أَجْنَاسِ بَنِي آدَمَ السَّلِيمَةِ الْفِطَرِ - عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ فَسَادُهُ ; وَكُلَّمَا كَانَ أَذْكَى وَاحِدٍ ذِهْنًا كَانَ عِلْمُهُ بِفَسَادِهِ أَشَدَّ ; بَلْ هُمْ يَقُولُونَ : إنَّ الْعِلْمَ بِالْقَضِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ الْمَطْلُوبَ إثْبَاتُهَا " وَهُوَ عُلُوُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعَالَمِ " مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ وَالضَّرُورَةِ وَيَعْلَمُونَ بُطْلَانَ نَقِيضِهَا بِالْفِطْرَةِ وَالضَّرُورَةِ ; فَيَعْلَمُونَ بِالضَّرُورَةِ الْقَضِيَّةَ الْعَامَّةَ وَالْقَضِيَّةَ الْخَاصَّةَ فَيَعْلَمُونَ أَنَّ الْخَالِقَ فَوْقَ الْعَالَمِ وَيَعْلَمُونَ امْتِنَاعَ وُجُودِ مَوْجُودَيْنِ لَيْسَ أَحَدُهُمَا مُبَايِنًا لِلْآخَرِ وَلَا مُدَاخِلًا لَهُ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُبَايِنًا كَانَ مُدَاخِلًا محايثا فَيُلْزَمُ الْحُلُولُ وَالِاتِّحَادُ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأُمَمِ مِنْ بَنِي آدَمَ أَمَّا مَنْ يُثْبِتُ الْعُلُوَّ وَالْمُبَايَنَةَ فَقَوْلُهُ ظَاهِرٌ وَأَمَّا الَّذِينَ لَا يُقِرُّونَ بِالْعُلُوِّ وَالْمُبَايَنَةِ فَجُمْهُورُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ضِدَّ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَلَوْ عُرِضَ عَلَيْهِمْ نَفْيُ هَذَا وَهَذَا لَمْ يَتَصَوَّرُوهُ وَلَمْ يَعْقِلُوهُ وَبِهَذَا احْتَجَّ أَهْلُ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ - مِنْ مُحَقِّقِيهِمْ - كَالصَّدْرِ القونوي وَأَمْثَالِهِ عَلَى نفاة ذَلِكَ مِنْهُمْ فَقَالَ : قَدْ سَلَّمْتُمْ لَنَا أَنَّهُ لَيْسَ خَارِجَ الْعَالَمِ وَلَا مُبَايِنًا لَهُ ; وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يُعْقَلْ إلَّا أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْمُمْكِنَاتِ أَوْ فِي وُجُودِ الْمُمْكِنَاتِ ; إذْ لَا يُعْقَلُ إلَّا هَذَا ; أَوْ هَذَا . ثُمَّ هَذَا وَأَمْثَالُهُ يَقُولُونَ : هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ وَإِنَّ فَرْقَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَشْيَاءِ فَرْقُ مَا بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُعَيَّنِ وَهَذَا يُشْبِهُ الْفَرْقَ بَيْنَ جِنْسِ الْإِنْسَانِ وَأَعْيَانِ النَّاسِ وَجِنْسِ الْحَيَوَانِ وَأَعْيَانِ الْحَيَوَانِ فَيَكُونُ الرَّبُّ مِثْلَ الْجِنْسِ أَوْ الْعَرَضِ الْعَامِّ لِسَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ لَهُ وُجُودٌ مُتَمَيِّزٌ بِنَفْسِهِ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقَاتِ ; إذْ الْكُلِّيَّاتُ - كَالْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالْفَصْلِ وَالْخَاصَّةِ وَالْعَرَضِ الْعَامِّ - لَا تُوجَدُ فِي الْخَارِجِ مُنْفَصِلَةً عَنْ الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ . وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ وَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ وَإِنَّمَا يُحْكَى الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ عَنْ شِيعَةِ أَفْلَاطُونَ " وَنَحْوِهِ : الَّذِينَ يَقُولُونَ بِإِثْبَاتِ " الْمُثُلِ الأفلاطونية " وَهِيَ الْكُلِّيَّاتُ الْمُجَرَّدَةُ عَنْ الْأَعْيَانِ خَارِجَ الذِّهْنِ وَعَنْ شِيعَةِ " فيثاغورس فِي إثْبَاتِ الْعَدَدِ الْمُطْلَقِ خَارِجَ الذِّهْنِ . وَالْمُعَلِّمُ الْأَوَّلُ أَرِسْطُو " وَأَتْبَاعُهُ مُتَّفِقُونَ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فَلَوْ ظَنُّوا أَنَّ الْبَارِيَ تَعَالَى هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَوَقَعُوا فِيمَا فَرُّوا مِنْهُ ; فَإِنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ مُبَايَنَتَهُ لِوُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ وَانْفِصَالِهِ عَنْهَا ; مَعَ أَنَّ عَاقِلًا لَا يَقُولُ : إنَّ صِفَةً تَكُونُ مُبْدِعَةً لِلْمَوْصُوفِ وَلَا إنَّ " الْكُلِّيَّاتِ " هِيَ الْمُبْدِعَةُ لِمُعَيِّنَاتِهَا . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ جَمَاهِيرَ الْخَلَائِقِ مِنْ مُثْبِتَةِ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ وَمِنْ نفاة ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِمْ يَقُولُونَ بِإِثْبَاتِ هَذَا التَّقْسِيمِ وَالْحَصْرِ وَهُوَ أَنَّ الشَّيْءَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِغَيْرِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ محايثا مُدَاخِلًا ; فَإِذَا انْتَفَى أَحَدُهُمَا ثَبَتَ الْآخَرُ . وَيَقُولُونَ : إنَّ هَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ قَالَ النفاة : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ ضَرُورِيَّةٌ ; بِدَلِيلِ أَنَّا نَعْقِلُ الْإِنْسَانِيَّةَ الْمُشْتَرَكَةَ بَيْنَ الْأَنَاسِيِّ وَغَيْرِهَا مِنْ الْكُلِّيَّاتِ الْمَعْقُولَةِ وَغَيْرِهَا وَلَيْسَتْ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَأَيْضًا فَإِنَّ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعَهُ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ . وَطَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَثْبَتُوا أَنَّ النَّفْسَ النَّاطِقَةَ كَذَلِكَ وَالْعُقُولَ وَالنُّفُوسَ وَلَمْ يَكُونُوا قَائِلِينَ بِمَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالضَّرُورَةِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ يَعْلَمُ تَقْسِيمَ الشَّيْءِ إلَى مُبَايِنٍ ومحايث وَمَا لَيْسَ بِمُبَايِنِ وَلَا محايث وَتَقْسِيمَهُ إلَى دَاخِلٍ وَخَارِجٍ وَمَا لَيْسَ بِدَاخِلِ وَلَا خَارِجٍ وَتَقْسِيمِهِ إلَى مُتَحَيِّزٍ وَقَائِمٍ بِالْمُتَحَيِّزِ وَمَا لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ وَلَا قَائِمٍ بِمُتَحَيِّزِ . وَلَا يُعْلَمُ فَسَادُ هَذَا التَّقْسِيمِ بِالِاضْطِرَارِ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ . وَأَيْضًا فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ لُزُومِ الْمُبَايَنَةِ والمحايثة وَالدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ إنَّمَا يُعْقَلُ فِيمَا هُوَ جِسْمٌ مُتَحَيِّزٌ فَإِذَا قَدَّرْنَا مُتَحَيِّزَيْنِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا إمَّا دَاخِلًا فِي الْآخَرِ أَوْ خَارِجًا مِنْهُ فَأَمَّا إذَا قَدَّرْنَا مَوْجُودًا لَيْسَ بِجِسْمِ وَلَا مُتَحَيِّزٍ لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِغَيْرِهِ وَلَا محايثا لَهُ وَلَا دَاخِلًا فِيهِ وَلَا خَارِجًا عَنْهُ بَلْ يُنْفَى عَنْ الْقِسْمَيْنِ وَحِينَئِذٍ فَهَذَا التَّقْسِيمُ وَالْحَصْرُ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الْبَارِي جِسْمًا مُتَحَيِّزًا فِي جِهَةٍ وَذَلِكَ بَاطِلٌ . وَلَا نُرِيدُ بِالتَّحَيُّزِ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَحَاطَ بِهِ " حَيِّزٌ " وُجُودِيٌّ كَمَا أَجَابَ عَنْهُ النَّاظِمُ وَلَا بِالْجِهَةِ أَنْ يَكُونَ فِي " أَيْنَ " مَوْجُودٌ كَمَا أَجَابَ النَّاظِمُ أَيْضًا بَلْ نُرِيدُ بِالتَّحَيُّزِ الَّذِي فِي الْجِهَةِ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يُشَارُ إلَيْهِ بِالْحِسِّ أَنَّهُ هَاهُنَا أَوْ هُنَاكَ وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَا كَانَ فَوْقَ الْعَالَمِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُشَارَ إلَيْهِ بِأَنَّهُ هُنَاكَ وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ بِالتَّحَيُّزِ وَالْجِهَةِ عِنْدَنَا . وَإِذَا كَانَ هَذَا التَّقْسِيمُ مُسْتَلْزِمًا لِإِثْبَاتِ الْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ لَمْ يَكُنْ هَذَا التَّقْسِيمُ صَحِيحًا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ بِالْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ صَحِيحًا وَالنَّاظِمُ لَمْ يَذْكُرْ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالتَّحَيُّزِ وَالْجِهَةِ وَالْجِسْمِ