تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ : - يَا سَادَةَ الْعُلَمَاءِ : أَفْتُونَا بِمَا يَشْفِي الْغَلِيلَ فَمَاءُ صَبْرِي آسِنٌ عَنْ قَوْلِ نَاظِمِ عِقْدِ أَصْلِ عَقِيدَةٍ فِي حَقِّ حَقِّ الْحَقِّ لَيْسَ يُدَاهِنُ يَا مُنْكِرًا أَنَّ الْإِلَهَ مُبَايِنٌ لِلْخَلْقِ يَا مَفْتُونُ بَلْ يَا فَاتِنُ هَبْ قَدْ ضَلَلْت فَأَيْنَ أَنْتَ ؟ فَإِنْ تَكُنْ أَنْتَ الْمُبَايِنُ فَهُوَ أَيْضًا بَائِنُ أَوْ قُلْت : لَسْت مُبَايِنًا . قُلْنَا : إذَنْ فَبِالِاتِّحَادِ أَوْ الْحُلُولِ تُشَاحِنُ أَوْ قُلْت : يَلْزَمُ مِنْهُ شَيْءٌ دَاخِلًا قُلْنَا : نَعَمْ مَا الرَّبُّ فِينَا سَاكِنٌ إنْ قُلْت : يَلْزَمُ أَنَّهُ فِي حَيِّزٍ أَوْ صَارَ فِي جِهَةٍ فَعَقْلُك وَاهِنٌ فَلَقَدْ كَذَبْت فَإِنَّهُ لَا حَيِّزٌ إلَّا مَكَانٌ وَهُوَ مِنْهُ بَائِنٌ وَكَذَا الْجِهَاتُ فَإِنَّهَا عَدَمِيَّةٌ فِي حَقِّهِ وَالْحَقُّ فِي ذَا بَائِنُ إذْ لَيْسَ فَوْقَ الْحَقِّ ذَاتٌ غَيْرُهُ حَتَّى تُقَدِّرَ وَهُوَ فِيهَا قَاطِنُ أَوْ قُلْت : مَا هُوَ دَاخِلٌ أَوْ خَارِجٌ هَذَا يَدُلُّ بِأَنَّ مَا هُوَ كَائِنُ إذْ قَدْ جَمَعْت نقائضا وَوَصَفْته عَدَمًا بِهَا هَلْ أَنْتَ عَنْهَا ظَاعِنُ مَا قَالَ : مَا هُوَ ظَاهِرٌ أَوْ بَاطِنٌ لَكِنَّهُ هُوَ ظَاهِرٌ هُوَ بَاطِنُ فَارْجِعْ وَتُبْ مَنْ قَالَ مِثْلُك إنَّهُ لَمُعَطِّلٌ وَالْكُفْرُ فِيهِ كَامِنُ وَتَفَضَّلُوا بِجَوَابِهِ مَنْ نَظْمِكُمْ هَلْ صَادَقَ فِيمَا ادَّعَى أَوْ ماين فَصْلًا بِفَصْلِ ظَاهِرٍ فَاَللَّهُ لل مُفْتِي الْمُصِيبِ بِخَيْرِ آخِرٍ ضَامِنُ
123
فَصْلٌ وَهَذَا " التَّقْسِيمُ " الَّذِي ذَكَرَهُ السَّائِلُ هُوَ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةُ يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى الجهمية النفاة : كَمُبَايَنَتِهِ لِخَلْقِهِ وَعُلُوِّهِ عَلَى عَرْشِهِ قَالَ ( الْإِمَامُ أَحْمَد فِي كِتَابِهِ الَّذِي كَتَبَهُ فِي " الرَّدِّ عَلَى الجهمية وَالزَّنَادِقَةِ " . ( بَيَانُ مَا أَنْكَرَتْ الجهمية الضُّلَّالُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَلَى الْعَرْشِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَقَالَ : { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } فَقَالُوا هُوَ تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ كَمَا هُوَ عَلَى الْعَرْشِ فَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ وَفِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ وَفِي كُلِّ مَكَانٍ لَا يَخْلُو مِنْهُ مَكَانٌ وَلَا يَكُونُ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ وَيَتْلُونَ آيَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ : { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ } . قُلْنَا : قَدْ عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ أَمَاكِنَ كَثِيرَةً لَيْسَ فِيهَا مِنْ عَظِيمِ الرَّبِّ شَيْءٌ فَقَالُوا : أَيُّ شَيْءٍ ؟ قُلْنَا : أَحْشَاؤُكُمْ وَأَجْوَافُكُمْ وَأَجْوَافُ الْخَنَازِيرِ وَالْحُشُوشِ وَالْأَمَاكِنُ الْقَذِرَةُ لَيْسَ فِيهَا مِنْ عَظِيمِ الرَّبِّ شَيْءٌ ; وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ فَقَالَ : { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } وَقَدْ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ } وَقَالَ تَعَالَى : { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { ذِي الْمَعَارِجِ } { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } . قَالَ فَهَذَا خَبَرُ اللَّهِ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ . وَوَجَدْنَا كُلَّ شَيْءٍ فِي أَسْفَلُ مَذْمُومًا يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ } . وَقُلْنَا لَهُمْ : أَلَيْسَ تَعْلَمُونَ أَنَّ إبْلِيسَ مَكَانُهُ مَكَانٌ وَالشَّيَاطِينَ مَكَانُهُمْ مَكَانٌ ؟ . فَلَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَجْتَمِعَ هُوَ وَإِبْلِيسُ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ وَلَكِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ } يَقُولُ : هُوَ إلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَإِلَهُ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ اللَّهُ عَلَى الْعَرْشِ وَقَدْ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِمَا دُونَ الْعَرْشِ ; لَا يَخْلُو مِنْ عِلْمِ اللَّهِ مَكَانٌ وَلَا يَكُونُ عِلْمُ اللَّهِ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } . وَقَالَ مِنْ الِاعْتِبَارِ فِي ذَلِكَ : لَوْ أَنَّ رَجُلًا كَانَ فِي يَدِهِ قَدَحٌ مِنْ قَوَارِيرَ صَافٍ وَفِيهِ شَيْءٌ صَافٍ لَكَانَ نَظَرُ ابْنِ آدَمَ قَدْ أَحَاطَ بِالْقَدْحِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ابْنُ آدَمَ فِي الْقَدَحِ وَاَللَّهُ - وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى - قَدْ أَحَاطَ بِجَمِيعِ خَلْقِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ . وَخَصْلَةٌ أُخْرَى : لَوْ أَنَّ رَجُلًا بَنَى دَارًا بِجَمِيعِ مَرَافِقِهَا ثُمَّ أَغْلَقَ بَابَهَا وَخَرَجَ . كَانَ ابْنُ آدَمَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ كَمْ بَيْتٌ فِي دَارِهِ وَكَمْ سِعَةُ كُلِّ بَيْتٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الدَّارِ فِي جَوْفِ الدَّارِ فَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ - وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى - قَدْ أَحَاطَ بِجَمِيعِ مَا خَلَقَ وَعَلِمَ كَيْفَ هُوَ ؟ وَمَا هُوَ ؟ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي شَيْءٍ مِمَّا خَلَقَ . وَمَا تَأَوَّلَ الجهمية مِنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ } فَقَالُوا : إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَعَنَا وَفِينَا . وَقُلْنَا : لِمَ قَطَعْتُمْ الْخَبَرَ مِنْ قَوْلِهِ ؟ إنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إلَّا هُوَ مَعَهُمْ } يَعْنِي بِعِلْمِهِ فِيهِمْ { أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فَفَتَحَ الْخَبَرَ بِعِلْمِهِ وَخَتَمَهُ بِعِلْمِهِ . وَيُقَالُ للجهمي : إنَّ اللَّهَ إذَا كَانَ مَعَنَا بِعَظَمَةِ نَفْسِهِ : هَلْ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ ؟ فَإِنْ قَالَ نَعَمْ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُبَايِنٌ خَلْقَهُ وَأَنَّ خَلْقَهُ دُونَهُ . وَإِنْ قَالَ : لَا كَفَرَ . قَالَ : وَإِذَا أَرَدْت أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الجهمي كَاذِبٌ عَلَى اللَّهِ حِينَ زَعَمَ أَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَلَا يَكُونُ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ فَقُلْ لَهُ : أَلَيْسَ اللَّهُ كَانَ وَلَا شَيْءَ ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ . فَقُلْ لَهُ : حِينَ خَلَقَ الشَّيْءَ خَلَقَهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ خَارِجًا عَنْ نَفْسِهِ ؟ فَإِنَّهُ يَصِيرُ إلَى " ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ " : وَاحِدٌ مِنْهَا : إنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ فِي نَفْسِهِ قَدْ كَفَرَ حِينَ زَعَمَ أَنَّهُ خَلَقَ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالشَّيَاطِينَ فِي نَفْسِهِ . وَإِنْ قَالَ : خَلَقَهُمْ خَارِجًا مِنْ نَفْسِهِ ثُمَّ دَخَلَ فِيهِمْ : كَانَ هَذَا أَيْضًا كُفْرًا حِينَ زَعَمَ أَنَّهُ دَخَلَ فِي مَكَانٍ رِجْسٍ وَقَذِرٍ رَدِيءٍ . وَإِنْ قَالَ : خَلَقَهُمْ خَارِجًا عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِمْ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ أَجْمَعَ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ . فَقَدْ بَيَّنَ الْإِمَامُ أَحْمَد مَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ الصَّرِيحِ وَالْفِطْرَةِ الْبَدِيهِيَّةِ ; مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَلْقُ الْخَلْقِ دَاخِلًا فِي نَفْسِهِ أَوْ خَارِجًا عَنْهُ وَأَنَّهُ إذَا كَانَ خَارِجًا عَنْ نَفْسِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَلَّ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَزَلْ مُبَايِنًا فَذَكَرَ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ . وَقَالَ أَيْضًا فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ : فَلَمَّا ظَهَرَتْ الْحُجَّةُ عَلَى الجهمي بِمَا ادَّعَى عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ مَعَ خَلْقِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُمَاسًّا لِلشَّيْءِ وَلَا مُبَايِنًا لَهُ فَقُلْنَا إذَا كَانَ غَيْرَ مُبَايِنٍ أَلَيْسَ هُوَ مُمَاسًّا ؟ قَالَ : لَا . قُلْنَا : فَكَيْفَ يَكُونُ فِي شَيْءٍ غَيْرِ مُمَاسٍّ لَهُ وَلَا مُبَايِنٍ ؟ فَلَمْ يُحْسِنْ الْجَوَابَ . فَقَالَ : بِلَا كَيْفٍ . فَخَدَعَ الْجُهَّالَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ وَمَوَّهَ عَلَيْهِمْ . وَكَذَلِكَ قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْمَكِّيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ صَاحِبُ " الْحَيْدَةِ " الْمَشْهُورَةِ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ والجهمية قَالَ : بَابُ قَوْلِ الجهمية فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } . زَعَمَتْ الجهمية أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } إنَّمَا الْمَعْنَى اسْتَوْلَى كَقَوْلِ الْعَرَبِ اسْتَوَى فُلَانٌ عَلَى مِصْرَ اسْتَوَى عَلَى الشَّامِ يُرِيدُ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا . بَابُ الْبَيَانِ لِذَلِكَ يُقَالُ لَهُ : أَيَكُونُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَتَتْ عَلَيْهِ مُدَّةٌ لَيْسَ اللَّهُ بِمُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ فَإِذَا قَالَ : لَا . قِيلَ : فَمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ قَالَ : مَنْ زَعَمَ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ . يُقَالُ لَهُ : يَلْزَمُك أَنْ تَقُولَ : إنَّ الْعَرْشَ قَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ مُدَّةٌ لَيْسَ اللَّهُ بِمُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ الْعَرْشَ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بَعْدَ خَلْقِهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا } وَقَوْلُهُ : { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } وَقَوْلُهُ : { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } وَقَوْلُهُ ; { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ فَيَلْزَمُك أَنْ تَقُولَ : الْمُدَّةُ الَّذِي كَانَ الْعَرْشُ فِيهَا قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَيْسَ اللَّهُ بِمُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ إذْ كَانَ { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } مَعْنَاهُ عِنْدَك اسْتَوْلَى فَإِنَّمَا اسْتَوْلَى بِزَعْمِك فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا قَبْلَهُ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ قَالُوا : بَشَّرْتنَا فَأَعْطِنَا . قَالَ : اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ قَالُوا ; قَبِلْنَا فَأَخْبِرْنَا عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ كَيْفَ كَانَ ؟ قَالَ : كَانَ اللَّهُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي اللَّوْحِ ذِكْرَ كُلِّ شَيْءٍ } " وَرُوِيَ عَنْ { أَبِي رَزِينٍ العقيلي - وَكَانَ يُعْجِبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْأَلَتُهُ - أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ؟ قَالَ : فِي عَمَاءٍ فَوْقَهُ هَوَاءٌ وَتَحْتَهُ هَوَاءٌ } . فَيُقَالُ : أَخْبِرْنِي كَيْفَ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ؟ أَهُوَ كَمَا يَقُولُ : اسْتَوَى فُلَانٌ عَلَى السَّرِيرِ ; فَيَكُونُ السَّرِيرُ قَدْ حَوَى فُلَانًا وَحْدَهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ ؟ فَيَلْزَمُك أَنْ تَقُولَ : إنَّ الْعَرْشَ قَدْ حَوَى اللَّهَ وَحْدَهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّا لَا نَعْقِلُ الشَّيْءَ عَلَى الشَّيْءِ إلَّا هَكَذَا . فَيُقَالُ : أَمَّا قَوْلُك : كَيْفَ اسْتَوَى ؟ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجْرِي عَلَيْهِ كَيْفَ وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ { اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } وَلَمْ يُخْبِرْنَا كَيْفَ اسْتَوَى . لِأَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْهُمْ كَيْفَ ذَلِكَ وَلَمْ تَرَهُ الْعُيُونُ فِي الدُّنْيَا فَتَصِفُهُ بِمَا رَأَتْ وَحَرُمَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا عَلَيْهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ فَآمَنُوا بِخَبَرِهِ عَنْ الِاسْتِوَاءِ ثُمَّ رَدُّوا عِلْمَ كَيْفَ اسْتَوَى إلَى اللَّهِ تَعَالَى . وَلَكِنْ يَلْزَمُك أَيُّهَا الجهمي أَنْ تَقُولَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَحْدُودٌ وَقَدْ حَوَتْهُ الْأَمَاكِنُ إذْ زَعَمْت فِي دَعْوَاك أَنَّهُ فِي الْأَمَاكِنِ ; لِأَنَّهُ لَا يُعْقَلُ شَيْءٌ فِي مَكَانٍ إلَّا وَالْمَكَانُ قَدْ حَوَاهُ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ : فُلَانٌ فِي الْبَيْتِ وَالْمَاءُ فِي الْجُبِّ فَالْبَيْتُ قَدْ حَوَى فُلَانًا وَالْجُبُّ قَدْ حَوَى الْمَاءَ . وَيَلْزَمُك أَشْنَعُ مِنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّك قُلْت أَفْظَعَ مِمَّا قَالَتْ بِهِ النَّصَارَى وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا : إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي عِيسَى وَعِيسَى بَدَنُ إنْسَانٍ وَاحِدٍ فَكَفَرُوا بِذَلِكَ وَقِيلَ لَهُمْ : مَا عَظَّمْتُمْ اللَّهَ إذْ جَعَلْتُمُوهُ فِي بَطْنِ مَرْيَمَ . وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ : إنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَفِي بُطُونِ النِّسَاءِ كُلِّهِنَّ وَبَدَنِ عِيسَى وَأَبْدَانِ النَّاسِ كُلِّهِمْ . وَيَلْزَمُك أَيْضًا أَنْ تَقُولَ : إنَّهُ فِي أَجْوَافِ الْكِلَابِ وَالْخَنَازِيرِ لِأَنَّهَا أَمَاكِنُ وَعِنْدَك أَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا . قَالَ : فَلَمَّا شَنَّعْت مَقَالَتَهُ قَالَ : أَقُولُ : إنَّ اللَّهَ فِي كُلِّ مَكَانٍ لَا كَالشَّيْءِ فِي الشَّيْءِ وَلَا كَالشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ وَلَا كَالشَّيْءِ خَارِجًا عَنْ الشَّيْءِ وَلَا مُبَايِنًا لِلشَّيْءِ . قَالَ : يُقَالُ لَهُ : أَصْلُ قَوْلِك الْقِيَاسُ وَالْمَعْقُولُ فَقَدْ دَلَّلْت بِالْقِيَاسِ وَالْمَعْقُولِ عَلَى أَنَّك لَا تَعْبُدُ شَيْئًا ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَيْئًا دَاخِلًا فِي الْقِيَاسِ وَالْمَعْقُولِ لَأَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي الشَّيْءِ أَوْ خَارِجًا عَنْهُ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِك شَيْئًا اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ فِي الشَّيْءِ أَوْ خَارِجًا مِنْ الشَّيْءِ فَوَصَفْت - لَعَمْرِي - مُلْتَبِسًا لَا وُجُودَ لَهُ وَهُوَ دِينُك وَأَصْلُ مَقَالَتِك التَّعْطِيلُ . فَهَذَا " عَبْدُ الْعَزِيزِ الْمَكِّيُّ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْقِيَاسَ وَالْمَعْقُولَ يُوجِبُ أَنَّ مَا لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي الشَّيْءِ وَلَا خَارِجًا مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ شَيْئًا وَأَنَّ ذَلِكَ صِفَةُ الْمَعْدُومِ الَّذِي لَا وُجُودَ لَهُ فَالْقِيَاسُ هُوَ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ وَالْمَعْقُولُ الْعُلُومُ الضَّرُورِيَّةُ . وَكَذَلِكَ قَالَ : أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ إمَامُ الْمُتَكَلِّمَةِ الصفاتية : كالقلانسي وَالْأَشْعَرِيِّ وَأَتْبَاعِهِ فِيمَا جَمَعَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فورك مِنْ كَلَامِ الْأَشْعَرِيِّ أَيْضًا فَذَكَرَ ابْنُ فورك كَلَامَ ابْنِ كُلَّابٍ أَنَّهُ قَالَ : وَأَخْرَجَ مِنْ النَّظَرِ وَالْخَبَرِ قَوْلَ مَنْ قَالَ : لَا هُوَ فِي الْعَالَمِ وَلَا خَارِجٌ مِنْهُ فَنَفَاهُ نَفْيًا مُسْتَوِيًا ; لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ لَهُ : صِفْهُ بِالْعَدَمِ مَا قَدَرَ أَنْ يَقُولَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا وَرَدَّ أَخْبَارَ اللَّهِ نَصًّا وَقَالَ فِي ذَلِكَ مَا لَا يَجُوزُ فِي نَصٍّ وَلَا مَعْقُولٍ وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا هُوَ التَّوْحِيدُ الْخَالِصُ وَالنَّفْيُ الْخَالِصُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْإِثْبَاتُ الْخَالِصُ وَهُمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ قَيَّاسُونَ . قَالَ : فَإِنْ قَالُوا : هَذَا إفْصَاحٌ بِخُلُوِّ الْأَمَاكِنِ مِنْهُ وَانْفِرَادِ الْعَرْشِ بِهِ قِيلَ : إنْ كُنْتُمْ تَعْنُونَ بِخُلُوِّ الْأَمَاكِنِ مِنْ تَدْبِيرِهِ وَأَنَّهُ عَالِمٌ فَلَا . وَإِنْ كُنْتُمْ تَذْهَبُونَ إلَى خُلُوِّهِ مِنْ اسْتِوَائِهِ عَلَيْهَا كَمَا اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ فَنَحْنُ لَا نَحْتَشِمُ أَنْ نَقُولَ : اسْتَوَى اللَّهُ عَلَى الْعَرْشِ وَنَحْتَشِمُ أَنْ نَقُولَ : اسْتَوَى عَلَى الْأَرْضِ وَاسْتَوَى عَلَى الْجِدَارِ وَفِي صَدْرِ الْبَيْتِ . وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ كُلَّابٍ أَيْضًا : يُقَالُ لَهُمْ : أَهُوَ فَوْقَ مَا خَلَقَ : فَإِنْ قَالُوا : نَعَمْ . قِيلَ : مَا تَعْنُونَ بِقَوْلِكُمْ إنَّهُ فَوْقَ مَا خَلَقَ فَإِنْ قَالُوا : بِالْقُدْرَةِ وَالْعِزَّةِ . قِيلَ لَهُمْ : لَيْسَ هَذَا سُؤَالُنَا . وَإِنْ قَالُوا : الْمَسْأَلَةُ خَطَأٌ . قِيلَ لَهُمْ : فَلَيْسَ هُوَ فَوْقُ فَإِنْ قَالُوا : نَعَمْ لَيْسَ هُوَ فَوْقُ قِيلَ لَهُمْ : وَلَيْسَ هُوَ تَحْتُ فَإِنْ قَالُوا : وَلَا تَحْتُ أَعْدَمُوهُ ; لِأَنَّ مَا كَانَ لَا تَحْتُ وَلَا فَوْقُ فَعَدَمٌ . وَإِنْ قَالُوا : هُوَ تَحْتُ وَهُوَ فَوْقُ قِيلَ لَهُمْ : فَوْقُ تَحْتُ وَتَحْتُ فَوْقُ . وَقَالَ ابْنُ كُلَّابٍ أَيْضًا : يُقَالُ لَهُمْ : إذَا قُلْنَا : الْإِنْسَانُ لَا مُمَاسَّ وَلَا مُبَايِنَ لِلْمَكَانِ فَهَذَا مُحَالٌ فَلَا بُدَّ مِنْ نَعَمْ قِيلَ لَهُمْ . فَهُوَ لَا مُبَايِنٌ وَلَا مُمَاسٌّ ؟ فَإِذَا قَالُوا نَعَمْ قِيلَ لَهُمْ : فَهُوَ بِصِفَةِ الْمُحَالِ الَّذِي لَا يَكُونُ وَلَا يَثْبُتُ فِي الْوَهْمِ ؟ فَإِذَا قَالُوا : نَعَمْ قِيلَ : فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِصِفَةِ الْمُحَالِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ كَمَا كَانَ بِصِفَةِ الْمُحَالِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ . وَقِيلَ لَهُمْ : أَلَيْسَ لَا يُقَالُ لِمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الْإِنْسَانِ لَا مُمَاسَّ وَلَا مُبَايِنَ ؟ فَإِذَا قَالُوا : نَعَمْ قِيلَ : فَأَخْبِرُونَا عَنْ مَعْبُودِكُمْ مُمَاسٌّ هُوَ أَوْ مُبَايِنٌ ؟ فَإِذَا قَالُوا : لَا يُوصَفُ بِهِمَا قِيلَ لَهُمْ : فَصِفَةُ إثْبَاتِ الْخَالِقِ كَصِفَةِ عَدَمِ الْمَخْلُوقِ فَلِمَ لَا يَقُولُونَ عَدَمٌ كَمَا يَقُولُونَ لِلْإِنْسَانِ عَدَمٌ ; إذَا وَصَفْتُمُوهُ بِصِفَةِ الْعَدَمِ ؟ . وَقِيلَ لَهُمْ : إذَا كَانَ عَدَمُ الْمَخْلُوقِ وُجُودًا لَهُ كَانَ جَهْلُ الْمَخْلُوقِ عِلْمًا لَهُ ; لِأَنَّكُمْ وَصَفْتُمْ الْعَدَمَ الَّذِي هُوَ لِلْمَخْلُوقِ وُجُودًا لَهُ وَإِذَا كَانَ الْعَدَمُ وُجُودًا كَانَ الْجَهْلُ عِلْمًا وَالْعَجْزُ قُدْرَةً . وَقَالَ ابْنُ كُلَّابٍ أَيْضًا : وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ صَفْوَةُ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ وَخِيرَتُهُ مِنْ بَرِيَّتِهِ وَأَعْلَمُهُمْ جَمِيعًا يُجِيزُ " الْأَيْنَ " وَيَقُولُهُ وَيَسْتَصْوِبُ قَوْلَ الْقَائِلِ : إنَّهُ فِي السَّمَاءِ وَشَهِدَ لَهُ بِالْإِيمَانِ عِنْدَ ذَلِكَ ; وَجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَأَصْحَابُهُ لَا يُجِيزُونَ " الْأَيْنَ " وَيُحَرِّمُونَ الْقَوْلَ بِهِ . قَالَ : وَلَوْ كَانَ خَطَأً كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقَّ بِالْإِنْكَارِ لَهُ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لَهَا : لَا تَقُولِي ذَلِكَ فَتَوَهَّمِي أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَحْدُودٌ وَأَنَّهُ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ . وَلَكِنْ قُولِي إنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ ; لِأَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ دُونَ مَا قُلْت . كَلَّا فَلَقَدْ أَجَازَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عِلْمِهِ بِمَا فِيهِ وَأَنَّهُ أَصْوَبُ الْإِيمَانِ بَلْ الْأَمْرُ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْإِيمَانُ لِقَائِلِهِ وَمِنْ أَجْلِهِ شَهِدَ لَهَا بِالْإِيمَانِ حِينَ قَالَتْهُ وَكَيْفَ يَكُونُ الْحَقُّ فِي خِلَافِ ذَلِكَ وَالْكِتَابُ نَاطِقٌ بِهِ وَشَاهِدٌ لَهُ ؟ قَالَ : وَلَوْ لَمْ يَشْهَدْ بِصِحَّةِ مَذْهَبِ الْجَمَاعَةِ فِي هَذَا الْفَنِّ خَاصَّةً إلَّا مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَكَانَ فِيهِ مَا يَكْفِي وَقَدْ غَرَسَ فِي تَبَيُّنِهِ فِي الْفِطْرَةِ وَمَعَارِفِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا شَيْءَ أَبْيَنُ مِنْهُ وَلَا أَوْكَدُ ; لِأَنَّك لَا تَسْأَلُ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ عَنْهُ عَرَبِيًّا وَلَا عَجَمِيًّا وَلَا مُؤْمِنًا وَلَا كَافِرًا فَتَقُولُ : أَيْنَ رَبُّك ؟ إلَّا قَالَ فِي السَّمَاءِ . إنْ أَفْصَحَ أَوْ أَوْمَأَ بِيَدِهِ أَوْ أَشَارَ بِطَرْفِهِ - إنْ كَانَ لَا يُفْصِحُ ; وَلَا يُشِيرُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَرْضٍ وَلَا سَهْلٍ وَلَا جَبَلٍ . وَلَا رَأَيْنَا أَحَدًا إذَا دَعَاهُ إلَّا رَافِعًا يَدَهُ إلَى السَّمَاءِ وَلَا وَجَدْنَا أَحَدًا غَيْرَ الجهمية يُسْأَلُ عَنْ رَبِّهِ فَيَقُولُ : فِي كُلِّ مَكَانٍ كَمَا يَقُولُونَ وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ النَّاسِ كُلِّهِمْ فَتَاهَتْ الْعُقُولُ وَسَقَطَتْ الْأَخْبَارُ وَاهْتَدَى جَهْمٌ وَرَجُلَانِ مَعَهُ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ . فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ كَلَامُ ابْنِ كُلَّابٍ وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَتْبَاعِهِ وَعَنْهُ أَخَذَ الْحَارِثُ الْمُحَاسَبِيُّ هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الْحَارِثُ الْمُحَاسَبِيُّ فِي كِتَابِ " فَهْمِ الْقُرْآنِ " هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; فَإِنَّ كَلَامَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .