تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَّنْ يَقُولُ : إنَّ النُّصُوصَ تَظَاهَرَتْ ظَوَاهِرُهَا عَلَى مَا هُوَ جِسْمٌ أَوْ يَشْعُرُ بِهِ وَالْعَقْلُ دَلَّ عَلَى تَنْزِيهِ الْبَارِي عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ ; فَالْأَسْلَمُ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَقُولَ : هَذَا " مُتَشَابِهٌ " لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ . فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ : هَذَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ضَابِطٍ وَهُوَ الْفَرْقُ فِي الصِّفَاتِ بَيْنَ الْمُتَشَابِهِ وَغَيْرِهِ ; لِأَنَّ دَعْوَى التَّأْوِيلِ فِي كُلِّ الصِّفَاتِ بَاطِلٌ وَرُبَّمَا أَفْضَى إلَى الْكُفْرِ وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يُعْلَمَ لِصِفَةِ مِنْ صِفَاتِهِ مَعْنًى فَلَا بُدَّ حِينَئِذٍ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يُتَأَوَّلُ وَمَا لَا يُتَأَوَّلُ فَقَالَ : كُلُّ مَا دَلَّ دَلِيلُ الْعَقْلِ عَلَى أَنَّهُ تَجْسِيمٌ كَانَ ذَلِكَ مُتَشَابِهًا . فَهَلْ هَذَا صَحِيحٌ أَمْ لَا ؟ اُبْسُطُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ .
12345
فَأَجَابَ : - الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . هَذِهِ " مَسْأَلَةٌ " كَبِيرَةٌ عَظِيمَةُ الْقَدْرِ اضْطَرَبَ فِيهَا خَلَائِقُ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين مِنْ أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ فَأَمَّا الْمِائَةُ الْأُولَى فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ اضْطِرَابٌ فِي هَذَا وَإِنَّمَا نَشَأَ ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ لَمَّا ظَهَرَ " الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ وَصَاحِبُهُ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَمَنْ اتَّبَعَهُمَا مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى إنْكَارِ الصِّفَاتِ . فَظَهَرَتْ مَقَالَةُ الجهمية النفاة - نفاة الصِّفَاتِ - قَالُوا : لِأَنَّ إثْبَاتَ الصِّفَاتِ يَسْتَلْزِمُ التَّشْبِيهَ وَالتَّجْسِيمَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّ " الصِّفَاتِ " الَّتِي هِيَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ أَعْرَاضٌ وَمَعَانٍ تَقُومُ بِغَيْرِهَا وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِجِسْمِ ; لِأَنَّ الْأَجْسَامَ لَا تَخْلُو مِنْ الْأَعْرَاضِ الْحَادِثَةِ وَمَا لَا يَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ مُحْدَثٌ . قَالُوا : وَبِهَذَا اسْتَدْلَلْنَا عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ ; فَإِنْ بَطَلَ هَذَا بَطَلَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ فَيَبْطُلُ الدَّلِيلُ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ فَيَبْطُلُ الدَّلِيلُ عَلَى إثْبَاتِ الصِّفَاتِ . قَالُوا : وَإِذَا كَانَتْ الْأَعْرَاضُ الَّتِي هِيَ الصِّفَاتُ لَا تَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ وَالْجِسْمُ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَائِهِ وَالْمُرَكَّبُ مُفْتَقِرٌ إلَى غَيْرِهِ وَلَا يَكُونُ غَنِيًّا عَنْ غَيْرِهِ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ غَيْرِهِ وَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ الْجِسْمَ مَحْدُودٌ مُتَنَاهٍ ; فَلَوْ كَانَ لَهُ صِفَاتٌ لَكَانَ مَحْدُودًا مُتَنَاهِيًا ; وَذَلِكَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مُخَصِّصٌ خَصَّصَهُ بِقَدْرِ دُونَ قَدْرٍ وَمَا افْتَقَرَ إلَى مُخَصِّصٍ لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا قَدِيمًا وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ لَوْ قَامَتْ بِهِ الصِّفَاتُ لَكَانَ جِسْمًا وَلَوْ كَانَ جِسْمًا لَكَانَ مُمَاثِلًا لِسَائِرِ الْأَجْسَامِ فَيَجُوزُ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهَا وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهَا وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى . وَزَاد الْجَهْمُ فِي ذَلِكَ هُوَ وَالْغُلَاةُ - مِنْ الْقَرَامِطَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ - نَحْوَ ذَلِكَ فَقَالُوا : وَلَيْسَ لَهُ اسْمٌ كَالشَّيْءِ وَالْحَيِّ وَالْعَلِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ اسْمٌ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِمَعْنَى الِاسْمِ كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ ; فَإِنَّ صِدْقَ الْمُشْتَقِّ مُسْتَلْزِمٌ لِصِدْقِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ ; وَذَلِكَ يَقْتَضِي قِيَامَ الصِّفَاتِ بِهِ وَذَلِكَ مُحَالٌ ; وَلِأَنَّهُ إذَا سُمِّيَ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ فَهِيَ مِمَّا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُهُ . وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ مُشَابَهَةِ الْغَيْرِ . وَزَادَ آخَرُونَ بِالْغُلُوِّ فَقَالُوا : لَا يُسَمَّى بِإِثْبَاتِ وَلَا نَفْيٍ وَلَا يُقَالُ : مَوْجُودٌ وَلَا لَا مَوْجُودٌ وَلَا حَيٌّ وَلَا لَا حَيٌّ ; لِأَنَّ فِي الْإِثْبَاتِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْمَوْجُودَاتِ وَفِي النَّفْيِ تَشَبُّهًا لَهُ بِالْمَعْدُومَاتِ وَكُلُّ ذَلِكَ تَشْبِيهٌ . فَلَمَّا ظَهَرَ هَؤُلَاءِ الجهمية أَنْكَرَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ مَقَالَتَهُمْ وَرَدُّوهَا وَقَابَلُوهَا بِمَا تَسْتَحِقُّ مِنْ الْإِنْكَارِ الشَّرْعِيِّ وَكَانَتْ خَفِيَّةً إلَى أَنْ ظَهَرَتْ وَقَوِيَتْ شَوْكَةُ الجهمية فِي أَوَاخِرِ " الْمِائَةِ الْأُولَى " وَأَوَائِلِ " الثَّانِيَةِ " فِي دَوْلَةِ أَوْلَادِ الرَّشِيدِ فَامْتَحَنُوا النَّاسَ الْمِحْنَةَ الْمَشْهُورَةَ الَّتِي دَعَوْا النَّاسَ فِيهَا إلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَلَوَازِمِ ذَلِكَ : مِثْلَ إنْكَارِ الرُّؤْيَةِ وَالصِّفَاتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَعْرَاضِ ; فَلَوْ قَامَ بِذَاتِ اللَّهِ لَقَامَتْ بِهِ الْأَعْرَاضُ فَيَلْزَمُ التَّشْبِيهُ وَالتَّجْسِيمُ . وَحَدَثَ مَعَ الجهمية قَوْمٌ شَبَّهُوا اللَّهَ تَعَالَى بِخَلْقِهِ ; فَجَعَلُوا صِفَاتِهِ مِنْ جِنْسِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فَأَنْكَرَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ عَلَى الجهمية الْمُعَطِّلَةِ وَعَلَى الْمُشَبِّهَةِ الْمُمَثِّلَةِ وَكَانَ إمَامُ الْمُعْتَزِلَةِ " أَبُو الهذيل الْعَلَّافُ وَنَحْوُهُ مِنْ نفاة الصِّفَاتِ قَالُوا : يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جِسْمًا وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ . قَالَ هَؤُلَاءِ : بَلْ هُوَ جِسْمٌ وَالْجِسْمُ هُوَ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ أَوْ الْمَوْجُودُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَالَاتِ وَطَعَنُوا فِي أَدِلَّةِ نفاة الْجِسْمِ بِكَلَامِ طَوِيلٍ لَا يَتَّسِعُ لَهُ الْجَوَابُ هُنَا . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ : هُوَ جِسْمٌ كَالْأَجْسَامِ وَمِنْهُمْ مَنْ وَصَفَهُ بِخَصَائِصِ الْمَخْلُوقَاتِ وَحُكِيَ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ مَقَالَاتٌ شَنِيعَةٌ . وَجَاءَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ كُلَّابٍ فَقَالَ هُوَ وَأَتْبَاعُهُ : هُوَ الْمَوْصُوفُ بِالصِّفَاتِ وَلَكِنْ لَيْسَتْ الصِّفَاتُ أَعْرَاضًا ; إذْ هِيَ قَدِيمَةٌ بَاقِيَةٌ لَا تَعْرِضُ وَلَا تَزُولُ وَلَكِنْ لَا يُوصَفُ بِالْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ بِهِ كَالْحَرَكَاتِ ; لِأَنَّهَا تَعْرِضُ وَتَزُولُ . فَقَالَ ابْنُ كَرَّامٍ وَأَتْبَاعُهُ : لَكِنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالصِّفَاتِ وَإِنْ قِيلَ إنَّهَا أَعْرَاضٌ وَمَوْصُوفٌ بِالْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهِ وَإِنْ كَانَتْ حَادِثَةً . وَلَمَّا قِيلَ لَهُمْ : هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جِسْمًا قَالُوا : نَعَمْ هُوَ جِسْمٌ كَالْأَجْسَامِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا دَائِمًا وَإِنَّمَا الْمُمْتَنِعُ أَنْ يُشَابِهَ الْمَخْلُوقَاتِ فِيمَا يَجِبُ وَيَجُوزُ وَيَمْتَنِعُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : أَطْلَقَ لَفْظَ الْجِسْمِ لَا مَعْنَاهُ . وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ النُّظَّارِ بُحُوثٌ طَوِيلَةٌ مُسْتَوْفَاةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَأَمَّا " السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ " فَلَمْ يَدْخُلُوا مَعَ طَائِفَةٍ مِنْ الطَّوَائِفِ فِيمَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ نَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ بَلْ اعْتَصَمُوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَرَأَوْا ذَلِكَ هُوَ الْمُوَافِقُ لِصَرِيحِ الْعَقْلِ فَجَعَلُوا كُلَّ لَفْظٍ جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ حَقًّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ وَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ حَقِيقَةُ مَعْنَاهُ وَكُلُّ لَفْظٍ أَحْدَثَهُ النَّاسُ فَأَثْبَتَهُ قَوْمٌ وَنَفَاهُ آخَرُونَ فَلَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نُطْلِقَ إثْبَاتَهُ وَلَا نَفْيَهُ حَتَّى نَفْهَمَ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ حَقًّا مُوَافِقًا لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ : مِنْ نَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ قُلْنَا بِهِ ; وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا مُخَالِفًا لِمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ نَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ مَنَعْنَا الْقَوْلَ بِهِ وَرَأَوْا أَنَّ الطَّرِيقَةَ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُوَافِقَةُ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ . وَأَنَّ الرُّسُلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ جَاءُوا بِنَفْيٍ مُجْمَلٍ وَإِثْبَاتٍ مُفَصَّلٍ ; وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فَسَبَّحَ نَفْسَهُ عَمَّا وَصَفَهُ بِهِ الْمُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ لِسَلَامَةِ مَا قَالُوهُ مِنْ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ وَطَرِيقَةُ الرُّسُلِ هِيَ مَا جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ وَاَللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ يُثْبِتُ الصِّفَاتِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ وَيَنْفِي عَنْهُ - عَلَى طَرِيقِ الْإِجْمَالِ - التَّشْبِيهَ وَالتَّمْثِيلَ . فَهُوَ فِي الْقُرْآنِ يُخْبِرُ أَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَأَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وَأَنَّهُ غَفُورٌ وَدُودٌ وَأَنَّهُ تَعَالَى - عَلَى عِظَمِ ذَاتِهِ - يُحِبُّ الْمُؤْمِنِينَ وَيَرْضَى عَنْهُمْ وَيَغْضَبُ عَلَى الْكُفَّارِ وَيَسْخَطُ عَلَيْهِمْ وَأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَأَنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا وَأَنَّهُ تَجَلَّى لِلْجَبَلِ فَجَعَلَهُ دَكًّا ; وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . وَيَقُولُ فِي النَّفْيِ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } { فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ } { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } { اللَّهُ الصَّمَدُ } { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } فَيُثْبِتُ الصِّفَاتِ وَيَنْفِي مُمَاثَلَةَ الْمَخْلُوقَاتِ . وَلَمَّا كَانَتْ طَرِيقَةُ السَّلَفِ : أَنْ يَصِفُوا اللَّهَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ رُبَّمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ . وَمُخَالِفُو الرُّسُلِ يَصِفُونَهُ بِالْأُمُورِ السَّلْبِيَّةِ : لَيْسَ كَذَا لَيْسَ كَذَا . فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ : فَأَثْبِتُوهُ . قَالُوا : هُوَ وُجُودٌ مُطْلَقٌ أَوْ ذَاتٌ بِلَا صِفَاتٍ . وَقَدْ عُلِمَ " بِصَرِيحِ الْمَعْقُول " أَنَّ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي الْأَذْهَانِ ; لَا فِي الْأَعْيَانِ وَأَنَّ الْمُطْلَقَ لَا بِشَرْطِ لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ مُطْلَقًا لَا يُوجَدُ إلَّا مُعَيَّنًا وَلَا يَكُونُ لِلرَّبِّ عِنْدَهُمْ حَقِيقَةً مُغَايِرَةً لِلْمَخْلُوقَاتِ بَلْ إمَّا أَنْ يُعَطِّلُوهُ أَوْ يَجْعَلُوهُ وُجُودَ الْمَخْلُوقَاتِ أَوْ جُزْأَهَا أَوْ وَصْفَهَا وَالْأَلْفَاظُ الْمُجْمَلَةُ يَكُفُّونَ عَنْ مَعْنَاهَا . فَإِذَا قَالَ قَوْمٌ : إنَّ اللَّهَ فِي جِهَةٍ أَوْ حَيِّزٍ وَقَالَ قَوْمٌ : إنَّ اللَّهَ لَيْسَ فِي جِهَةٍ وَلَا حَيِّزٍ اسْتَفْهَمُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَائِلِينَ عَنْ مُرَادِهِ ; فَإِنَّ لَفْظَ الْجِهَةِ وَالْحَيِّزِ فِيهِ إجْمَالٌ وَاشْتِرَاكٌ . فَيَقُولُونَ : مَا ثَمَّ مَوْجُودٌ إلَّا الْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ بَائِنٌ عَنْ مَخْلُوقَاتِهِ ; فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْمَخْلُوقَاتِ بَائِنَةً عَنْهُ مُتَمَيِّزَةً عَنْهُ خَارِجَةً عَنْ ذَاتِهِ لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُبَايِنًا لَكَانَ إمَّا مُدَاخِلًا لَهَا حَالًّا فِيهَا أَوْ مَحَلًّا لَهَا وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ . وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مُبَايِنًا لَهَا وَلَا مُدَاخِلًا لَهَا فَيَكُونَ مَعْدُومًا وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ . والجهمية نفاة الصِّفَاتِ تَارَةً يَقُولُونَ بِمَا يَسْتَلْزِمُ الْحُلُولَ وَالِاتِّحَادَ أَوْ يُصَرِّحُونَ بِذَلِكَ وَتَارَةً بِمَا يَسْتَلْزِمُ الْجُحُودَ وَالتَّعْطِيلَ فَنُفَاتُهُمْ لَا يَعْبُدُونَ شَيْئًا وَمُثْبِتَتُهُمْ يَعْبُدُونَ كُلَّ شَيْءٍ وَيُقَالُ أَيْضًا فَإِذَا كَانَ مَا ثَمَّ مَوْجُودٌ إلَّا الْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُ فَالْخَالِقُ بَائِنٌ عَنْ الْمَخْلُوقِ . فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ : هُوَ فِي جِهَةٍ أَوْ لَيْسَ فِي جِهَةٍ . قِيلَ لَهُ : الْجِهَةُ أَمْرٌ مَوْجُودٌ أَوْ مَعْدُومٌ فَإِنْ كَانَ أَمْرًا مَوْجُودًا ; وَلَا مَوْجُودَ إلَّا الْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُ وَالْخَالِقُ بَائِنٌ عَنْ الْمَخْلُوقِ لَمْ يَكُنْ الرَّبُّ فِي جِهَةٍ مَوْجُودَةٍ مَخْلُوقَةٍ . وَإِنْ كَانَتْ الْجِهَةُ أَمْرًا مَعْدُومًا بِأَنْ يُسَمَّى مَا وَرَاءَ الْعَالَمِ جِهَةً فَإِذَا كَانَ الْخَالِقُ مُبَايِنًا الْعَالَمَ وَكَانَ مَا وَرَاءَ الْعَالَمِ جِهَةً مُسَمَّاةً وَلَيْسَ هُوَ شَيْئًا مَوْجُودًا كَانَ اللَّهُ فِي جِهَةٍ مَعْدُومَةٍ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ . لَكِنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْل الْقَائِلِ : هُوَ فِي مَعْدُومٍ ; وَقَوْلُهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ غَيْرِهِ ; فَإِنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ شَيْئًا بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ لَفْظَ الْجِهَةِ يُرِيدُونَ بِهِ تَارَةً مَعْنًى مَوْجُودًا وَتَارَةً مَعْنًى مَعْدُومًا بَلْ الْمُتَكَلِّمُ الْوَاحِدُ يَجْمَعُ فِي كَلَامِهِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فَإِذَا أُزِيلَ الِاحْتِمَالُ ظَهَرَ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ : لَوْ كَانَ فِي جِهَةٍ لَكَانَتْ قَدِيمَةً مَعَهُ . قِيلَ لَهُ : هَذَا إذَا أُرِيدَ بِالْجِهَةِ أَمْرٌ مَوْجُودٌ سِوَاهُ فَاَللَّهُ لَيْسَ فِي جِهَةٍ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ . وَإِذَا قَالَ : لَوْ رُئِيَ لَكَانَ فِي جِهَةٍ وَذَلِكَ مُحَالٌ ; قِيلَ لَهُ : إنْ أَرَدْت بِذَلِكَ : لَكَانَ فِي جِهَةٍ مَوْجُودَةٍ فَذَلِكَ مُحَالٌ ; فَإِنَّ الْمَوْجُودَ يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَوْجُودٍ غَيْرِهِ : كَالْعَالَمِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ رُؤْيَةُ سَطْحِهِ وَلَيْسَ هُوَ فِي عَالَمٍ آخَرَ . وَإِنْ قَالَ : أَرَدْت أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيمَا يُسَمَّى جِهَةً وَلَوْ مَعْدُومًا ; فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ سُمِّيَ مَا وَرَاءَ الْعَالَمِ جِهَةً . قِيلَ لَهُ : فَلِمَ قُلْت : إنَّهُ إذَا كَانَ فِي جِهَةٍ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَانَ مُمْتَنِعًا ؟ فَإِذَا قَالَ : لِأَنَّ مَا بَايَنَ الْعَالَمَ وَرُئِيَ لَا يَكُونُ إلَّا جِسْمًا أَوْ مُتَحَيِّزًا عَادَ الْقَوْلُ إلَى لَفْظِ الْجِسْمِ وَالْمُتَحَيِّزُ كَمَا عَادَ إلَى لَفْظِ الْجِهَةِ . فَيُقَالُ لَهُ : الْمُتَحَيِّزُ يُرَادُ بِهِ مَا حَازَهُ غَيْرُهُ وَيُرَادُ بِهِ مَا بَانَ عَنْ غَيْرِهِ - فَكَانَ مُتَحَيِّزًا عَنْهُ - فَإِنْ أَرَدْت بِالْمُتَحَيِّزِ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ سُبْحَانَهُ مُتَحَيِّزًا لِأَنَّهُ بَائِنٌ عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ لَا يَحُوزُهُ غَيْرُهُ وَإِنْ أَرَدْت الثَّانِيَ فَهُوَ سُبْحَانَهُ بَائِنٌ عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ مُنْفَصِلٌ عَنْهَا لَيْسَ هُوَ حَالًّا فِيهَا وَلَا مُتَّحِدًا بِهَا . فَبِهَذَا التَّفْصِيلِ يَزُولُ الِاشْتِبَاهُ وَالتَّضْلِيلُ وَإِلَّا فَكُلُّ مَنْ نَفَى شَيْئًا مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ سُمِّيَ مَنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ مُجَسِّمًا قَائِلًا بِالتَّحَيُّزِ وَالْجِهَةِ . فَالْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُمْ يُسَمَّوْنَ الصفاتية - الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيٌّ بِحَيَاةِ عَلِيمٌ بِعِلْمِ قَدِيرٌ بِقُدْرَةِ سَمِيعٌ بِسَمْعِ بَصِيرٌ بِبَصَرِ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامِ يُسَمُّونَهُمْ - مُجَسِّمَةً مُشَبِّهَةً حَشْوِيَّةً والصفاتية هُمْ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَجَمِيعُ الطَّوَائِفِ الْمُثْبِتَةِ لِلصِّفَاتِ : كالكلابية والكرامية وَالْأَشْعَرِيَّةِ والسالمية وَغَيْرِهِمْ مِنْ طَوَائِفِ الْأُمَّةِ قَالَتْ نفاة الصِّفَاتِ مَنْ الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ وَطَائِفَةٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ لِهَؤُلَاءِ : إذَا أَثْبَتُّمْ لَهُ حَيَاةً وَقُدْرَةً وَكَلَامًا فَهَذِهِ أَعْرَاضٌ وَالْأَعْرَاضُ لَا تَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ وَإِذَا قُلْتُمْ : يُرَى فَالرُّؤْيَةُ لَا تَكُونُ إلَّا لِمُعَايَنِ فِي جِهَةٍ وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ التَّجْسِيمَ . فَإِذَا قَالَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ : نَحْنُ نُثْبِتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَلَا نُسَمِّيهَا أَعْرَاضًا ; لِأَنَّ الْعَرَضَ مَا يَعْرِضُ لِمَحَلِّهِ وَهَذِهِ الصِّفَاتُ بَاقِيَةٌ لَا تَزُولُ . قَالَتْ لَهُمْ النفاة : هَذَا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ ; فَإِنَّ الْعَرَضَ عِنْدَكُمْ يَنْقَسِمُ إلَى لَازِمٍ لِمَحَلِّهِ لَا يُفَارِقُهُ - مَا دَامَ الْمَحَلُّ مَوْجُودًا - وَإِلَى مَا يَجُوزُ أَنْ يُفَارِقَ مَحَلَّهُ فَالْأَوَّلُ كَالتَّحَيُّزِ لِلْجِسْمِ بَلْ وكالحيوانية والناطقية لِلْإِنْسَانِ فَإِنَّهُ مَا دَامَ إنْسَانًا لَا تُفَارِقُهُ هَذِهِ الصِّفَةُ . وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : إنَّ الْعَرَضَ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ فَهَذَا شَيْءٌ انْفَرَدْتُمْ بِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْعُقَلَاءِ : وَكَابَرْتُمْ بِهِ الْحِسَّ لِتَنْجُوَا بالمغاليط عَنْ هَذِهِ الْإِلْزَامَاتِ الْمُفْحِمَةِ ثُمَّ إنَّكُمْ تَقُولُونَ بِتَجَدُّدِ أَمْثَالِهِ فَهَذَا هُوَ مَعْنَى بَقَاءِ الْعَرَضِ وَهَذَا كَمَا قُلْتُمْ إنَّهُ يُرَى بِلَا مُوَاجَهَةٍ وَلَا مُدَابَرَةٍ وَلَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ الرَّائِي بِجِهَةِ مِنْ جِهَاتِهِ فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا انْفَرَدْتُمْ بِهِ عَنْ الْعُقَلَاءِ وَكَابَرْتُمْ بِهِ الْحِسَّ وَالْعَقْلَ . قَالَتْ لَهُمْ النفاة : فَأَثْبَتُّمْ مَا يَسْتَلْزِمُ التَّجْسِيمَ وَالتَّشْبِيهَ وَالْحَشْوَ أَوْ نَفَيْتُمْ التَّلَازُمَ فَخَالَفْتُمْ صَرِيحَ الْعَقْلِ وَالضَّرُورَةِ . وَلِهَذَا صَارَ حُذَّاقُكُمْ إلَى أَنَّكُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مُوَافِقُونَ لَنَا عَلَى نَفْيِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ أَظْهَرْتُمْ إثْبَاتَهَا لِكَوْنِهِ الْمَشْهُورَ عِنْدَ " الْحَشْوِيَّةِ " الْمَشْهُورِينَ بِالسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ; لِيُقَالَ : إنَّكُمْ مِنْهُمْ أَوْ أَثْبَتُّمْ ذَلِكَ تَنَاقُضًا مِنْكُمْ فَأَنْتُمْ دَائِرُونَ بَيْنَ الْمُنَاقَضَةِ وَالْمُدَاهَنَةِ . فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِمَّنْ يُوَافِقُ نفاة الصِّفَاتِ وَيُثْبِتُ أَسْمَاءَ اللَّهِ الْحُسْنَى - كَمَا تَفْعَلُ الْمُعْتَزِلَةُ وَهُمْ أَئِمَّةُ الْكَلَامِ - سَمَّاهُ نفاة أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى مُشَبِّهًا حَشْوِيًّا مُجَسِّمًا : كَمَا فَعَلَتْ الْقَرَامِطَةُ الْحَاكِمِيَّةُ الْبَاطِنِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ وَقَالُوا : إذَا قُلْتُمْ إنَّهُ مَوْجُودٌ عَلِيمٌ حَيٌّ قَدِيرٌ فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ بِالتَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ وَالْحَشْوِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُشَابَهَةٌ لِغَيْرِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَلِأَنَّهُ لَا يُعْقَلُ مَوْجُودٌ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ إلَّا جِسْمًا وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ تَسْتَلْزِمُ الصِّفَاتِ . وَالصِّفَاتُ تَسْتَلْزِمُ التَّجْسِيمَ . فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِمَّنْ يَنْفِي الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ - كَمَا تَفْعَلُهُ غُلَاةُ الجهمية وَالْقَرَامِطَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ - فَلَا بُدَّ لَهُ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّهُ مَوْجُودٌ . وَحِينَئِذٍ فَتَقُولُ لَهُ النفاة : أَنْتَ مُجَسِّمٌ مُشَبِّهٌ حَشْوِيٌّ ; لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَوْجُودًا فَقَدْ شَارَكَهُ غَيْرُهُ فِي مَعْنَى الْوُجُودِ وَهُوَ التَّشْبِيهُ ; لِأَنَّهُ لَا يُعْقَلُ مَوْجُودٌ إلَّا جِسْمٌ أَوْ قَائِمٌ بِجِسْمِ ; فَحِينَئِذٍ يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ : لَا مَوْجُودَ وَلَا مَعْدُومَ وَلَا حَيَّ وَلَا مَيِّتَ أَوْ لَا مَوْجُودَ وَلَا لَا مَوْجُودَ وَلَا حَيَّ وَلَا لَا حَيَّ فَيَلْزَمُ نَفْيُ النَّقِيضَيْنِ جَمِيعًا وَمَا هُوَ فِي مَعْنَى النَّقِيضَيْنِ وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ الْبَاطِلَةِ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ مَعَ أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمْ تَشْبِيهُهُ بِالْمُمْتَنِعَاتِ ; لِأَنَّ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودِ وَلَا مَعْدُومٍ لَا يَكُونُ لَهُ حَقِيقَةً أَصْلًا - لَا مَوْجُودَةً وَلَا مَعْدُومَةً - بَلْ هُوَ أَمْرٌ مُقَدَّرٌ فِي الْأَذْهَانِ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْأَعْيَانِ هَذَا مَعَ مَا الْتَزَمَهُ مِنْ الْكُفْرِ الصَّرِيحِ . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ نَفَى الْوُجُودَ الْوَاجِبَ الْقَدِيمَ بِالْكُلِّيَّةِ لَكَانَ مَعَ الْكُفْرِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ كُلِّ كُفْرٍ قَدْ كَابَرَ الْقَضَايَا الضَّرُورِيَّةَ فَإِنَّا نَشْهَدُ الْمَوْجُودَاتِ وَنَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ إمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا مُحْدَثٌ وَإِمَّا وَاجِبٌ مَوْجُودٌ بِنَفْسِهِ وَإِمَّا مُمْكِنٌ بِنَفْسِهِ مَوْجُودٌ بِغَيْرِهِ . وَكُلُّ مُحْدَثٍ وَمُمْكِنٍ بِنَفْسِهِ مَوْجُودٌ بِغَيْرِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَدِيمٍ وَاجِبٍ بِنَفْسِهِ فَالْوُجُودُ بِالضَّرُورَةِ يَسْتَلْزِمُ إثْبَاتَ مَوْجُودٍ قَدِيمٍ . وَمِنْ الْوُجُودِ مَا هُوَ مُمْكِنٌ مُحْدَثٌ : كَمَا نَشْهَدُهُ فِي الْمُحْدَثَاتِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ . فَإِذَا عُلِمَ بِضَرُورَةِ الْعُقُولِ أَنَّ الْوُجُودَ فِيهِ مَا هُوَ مَوْجُودٌ قَدِيمٌ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ وَفِيهِ مَا هُوَ مُحْدَثٌ مَوْجُودٌ مُمْكِنٌ بِنَفْسِهِ فَهَذَانِ الْمَوْجُودَانِ اتَّفَقَا فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ وَامْتَازَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَنْ الْآخَرِ بِخُصُوصِ وُجُودِهِ فَمَنْ لَمْ يُثْبِتْ مَا بَيْنَ الْمَوْجُودَيْنِ مِنْ الِاتِّفَاقِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الِافْتِرَاقِ وَإِلَّا لَزِمَهُ أَنْ تَكُونَ الْمَوْجُودَاتُ كُلُّهَا قَدِيمَةً وَاجِبَةً بِأَنْفُسِهَا أَوْ مُحْدَثَةً مُمْكِنَةً مُفْتَقِرَةً إلَى غَيْرِهَا وَكِلَاهُمَا مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالِاضْطِرَارِ . فَتَعَيَّنَ إثْبَاتُ الِاتِّفَاقِ مِنْ وَجْهٍ وَالِامْتِيَازُ مِنْ وَجْهٍ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مَا امْتَازَ بِهِ الْخَالِقُ الْمَوْجُودُ عَنْ سَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ أَعْظَمُ مِمَّا تَمْتَازُ بِهِ سَائِرُ الْمَوْجُودَاتِ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ فَإِذَا كَانَ " الْمَلِكُ " وَ " الْبَعُوضُ " قَدْ اشْتَرَكَا فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ وَالْحَيِّ مَعَ تَفَاوُتِ مَا بَيْنَهُمَا فَالْخَالِقُ سُبْحَانَهُ أَوْلَى بِمُبَايَنَتِهِ لِلْمَخْلُوقَاتِ ; وَإِنْ حَصَلَتْ الْمُوَافَقَةُ فِي بَعْضِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ .