تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَّنْ يَقُولُ : إنَّ النُّصُوصَ تَظَاهَرَتْ ظَوَاهِرُهَا عَلَى مَا هُوَ جِسْمٌ أَوْ يَشْعُرُ بِهِ وَالْعَقْلُ دَلَّ عَلَى تَنْزِيهِ الْبَارِي عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ ; فَالْأَسْلَمُ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَقُولَ : هَذَا " مُتَشَابِهٌ " لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ . فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ : هَذَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ضَابِطٍ وَهُوَ الْفَرْقُ فِي الصِّفَاتِ بَيْنَ الْمُتَشَابِهِ وَغَيْرِهِ ; لِأَنَّ دَعْوَى التَّأْوِيلِ فِي كُلِّ الصِّفَاتِ بَاطِلٌ وَرُبَّمَا أَفْضَى إلَى الْكُفْرِ وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يُعْلَمَ لِصِفَةِ مِنْ صِفَاتِهِ مَعْنًى فَلَا بُدَّ حِينَئِذٍ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يُتَأَوَّلُ وَمَا لَا يُتَأَوَّلُ فَقَالَ : كُلُّ مَا دَلَّ دَلِيلُ الْعَقْلِ عَلَى أَنَّهُ تَجْسِيمٌ كَانَ ذَلِكَ مُتَشَابِهًا . فَهَلْ هَذَا صَحِيحٌ أَمْ لَا ؟ اُبْسُطُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ .
12345
فَصْلٌ : مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ طَرِيقَةَ اتِّبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ " أَهْلِ السُّنَّةِ " هِيَ الْمُوَصِّلَةُ إلَى الْحَقِّ دُونَ طَرِيقَةِ مَنْ خَالَفَهُمْ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ والمتكلمين : أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْعِلْمُ وَطَرِيقُهُ هُوَ الدَّلِيلُ وَالْأَنْبِيَاءُ جَاءُوا بِالْإِثْبَاتِ الْمُفَصَّلِ وَالنَّفْيِ الْمُجْمَلِ كَإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ لِلَّهِ مُفَصَّلَةً وَنَفْيِ الْكُفُؤِ عَنْهُ . وَ " الْفَلَاسِفَةُ " يَجِيئُونَ بِالنَّفْيِ الْمُفَصَّلِ : لَيْسَ بِكَذَا وَلَا كَذَا . فَإِذَا جَاءَ الْإِثْبَاتُ أَثْبَتُوا وُجُودًا مُجْمَلًا وَاضْطَرَبُوا فِي " أَوَّلِ مَقَامَاتِ ثُبُوتِهِ " وَهُوَ أَنَّ وُجُودَهُ هُوَ عَيْنُ ذَاتِهِ أَوْ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لَهَا أَوْ عَرَضِيَّةٌ ؟ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ النِّزَاعَاتِ الذِّهْنِيَّةِ اللَّفْظِيَّةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّفْيَ لَا وُجُودَ لَهُ وَلَا يُعْلَمُ النَّفْيُ وَالْعَدَمُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالثُّبُوتِ وَالْوُجُودِ حَتَّى إنَّ طَائِفَةً مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ نَفَوْا الْعِلْمَ بِالْمَعْدُومِ إلَّا إذَا جُعِلَ شَيْئًا لِأَنَّ الْعِلْمَ - فِيمَا زَعَمُوا - لَا بُدَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِشَيْءِ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعَدَمِ يَحْصُلُ بِوَاسِطَةِ الْعِلْمِ بِالْمَوْجُودِ فَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّهُ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " تَصَوَّرْنَا إلَهًا مَوْجُودًا . وَعَلِمْنَا عَدَمَ مَا تَصَوَّرْنَاهُ إلَّا عَنْ اللَّهِ . وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا نَنْفِيهِ لَا بُدَّ أَنْ نَتَصَوَّرَهُ أَوَّلًا ثُمَّ نَنْفِيَهُ وَلَا نَتَصَوَّرَهُ إلَّا بَعْدَ تَصَوُّرِ شَيْءٍ مَوْجُودٍ ثُمَّ نَتَصَوَّرَ مَا شَابَهَهُ أَوْ مَا يَتَرَكَّبُ مِنْ أَجْزَائِهِ كَتَصَوُّرِ بَحْرِ زِئْبَقٍ وَجَبَلِ يَاقُوتٍ وَآلِهَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ : ثُمَّ نَنْفِيَهُ ; وَإِلَّا فَتَصَوُّرٌ مَعْدُومٌ مُبْتَدَعٌ لَا يُنَاسِبُ الْمَوْجُودَاتِ بِوَجْهِ لَا يُمْكِنُ الْعَقْلُ إبْدَاعَهُ ; سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ أَوْ الْعِلْمِيَّةِ كَتَصَوُّرِ الْفَاعِلِ مَا يَفْعَلُهُ قَبْلَ فِعْلِهِ . فَإِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ تَصَوُّرٌ مَعْدُومٌ ; لِيُوجَدَ ; كَمَا أَنَّ غَيْرَهُ تَصَوُّرٌ مَعْدُومٌ مُمْكِنٌ أَوْ مُمْتَنِعٌ يُوجَدُ أَوْ لَا يُوجَدُ فَالْمَعْدُومُ الْفِعْلِيُّ وَغَيْرُ الْفِعْلِيِّ لَا يَبْتَدِعُهُ عَقْلُ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ مَادَّةٍ وُجُودِيَّةٍ كَمَا لَا تُبْدِعُ قُدْرَتُهُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ مَادَّةٍ وُجُودِيَّةٍ وَإِنَّمَا الْإِبْدَاعُ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ . وَكَيْفَ يَعْلَمُ ؟ وَكَيْفَ يَفْعَلُ ؟ بَابٌ آخَرُ . فَتَبَيَّنَ بِهَذَا : أَنَّ الْعِلْمَ بِالْمَوْجُودِ وَصِفَاتِهِ هُوَ الْأَصْلُ وَأَنَّ الْعِلْمَ بِالْعَدَمِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ تَبَعٌ لَهُ وَفَرْعٌ عَلَيْهِ . وَأَيْضًا فَالْعِلْمُ بِالْعَدَمِ لَا فَائِدَةَ لِلْعَالِمِ بِهِ إلَّا لِتَمَامِ الْعِلْمِ بِالْمَوْجُودِ وَتَمَامِ الْمَوْجُودِ فِي نَفْسِهِ ; إذْ تَصَوُّرُ " لَا شَيْءَ " لَا يَسْتَفِيدُ بِهِ الْعَالِمُ صِفَةَ كَمَالٍ لَكِنَّ عِلْمَهُ بِانْتِفَاءِ النَّقَائِصِ مَثَلًا عَنْ الْمَوْجُودِ عِلْمٌ بِكَمَالِهِ . وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِنَفْيِ الشُّرَكَاءِ عَنْهُ عِلْمٌ بِوَحْدَانِيِّتِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ الْكَمَالِ وَكَذَلِكَ تَصَوُّرُ مَا يُرَادُ فِعْلُهُ مُفْضٍ إلَى وُجُودِ الْفِعْلِ وَتَصَوُّرُ مَا يُرَادُ تَرْكُهُ مُفْضٍ إلَى التَّرْكِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الشَّرِّ الَّذِي يَكْمُلُ الْمَوْجُودُ بِعَدَمِهِ . وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْته فِي الْعِلْمِ وَالْقَوْلِ يُقَالُ مِثْلُهُ فِي الْإِرَادَةِ وَالْعَمَلِ ; فَإِنَّ الْإِرَادَةَ مُتَوَجِّهَةٌ إلَى الْمَوْجُودِ بِنَفَسِهِ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ وَمُتَوَجِّهَةٌ إلَى الْعَدَمِ الَّذِي هُوَ التَّرْكُ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ لِدَفْعِ الْفَسَادِ عَنْ الْمَقْصُودِ الْمَوْجُودِ .