وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَّا وَرَدَ فِي ثَوَابِ صِيَامِ الثَّلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَمَا تَقُولُ فِي الِاعْتِكَافِ فِيهَا وَالصَّمْتِ . هَلْ هُوَ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ ؟ أَمْ لَا ؟
وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَصْلٌ قَوْلُ عَائِشَةَ : " { مَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ } هَذَا إشَارَةٌ إلَى مُقَامِهِ فِي الْمَدِينَةِ وَأَنَّهُ كَانَ يَعْتَكِفُ أَدَاءً أَوْ قَضَاءً فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ مَرَّةً فَطَلَبَ نِسَاؤُهُ الِاعْتِكَافَ مَعَهُ فَرَأَى أَنَّ مَقْصُودَ بَعْضِهِنَّ الْمُبَاهَاةُ فَأَمَرَ بِالْخِيَامِ فَقُوِّضَتْ وَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ ذَلِكَ الْعَامَ حَتَّى قَضَاهُ مِنْ شَوَّالٍ . وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَصُمْ رَمَضَانَ إلَّا تِسْعَ مَرَّاتٍ فَإِنَّهُ فُرِضَ فِي الْعَامِ الثَّانِي مِنْ الْهِجْرَةِ بَعْدَ أَنْ صَامَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ السَّنَةِ الْأُولَى . وَقَدْ تَقَدَّمَ عَاشُورَاءُ فَلَمْ يَأْمُرْ ذَلِكَ الْعَامَ بِصِيَامِهِ فَلَمَّا أَهَلَّ الْعَامُ الثَّانِي أَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ وَهَلْ كَانَ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ أَمْرَ إيجَابٍ اُبْتُدِئَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ مِنْ اللَّيْلِ فَلَمَّا كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ - رَجَبٍ أَوْ غَيْرِهِ - فُرِضَ شَهْرُ رَمَضَانَ وَغَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ذَلِكَ الْعَامَ - أَوَّلُ شَهْرٍ فُرِضَ - غَزْوَةَ بَدْرٍ وَكَانَتْ يَوْمَ الْجُمْعَةِ لسبع عَشَرَةَ خَلَتْ مِنْ الشَّهْرِ فَلَمَّا نَصَرَهُ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ بَعْدَ الْفَتْحِ ثَلَاثًا فَدَخَلَ عَلَيْهِ الْعَشْرُ وَهُوَ فِي السَّفَرِ فَرَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ الْعَشْرِ إلَّا أَقَلُّهُ فَلَمْ يَعْتَكِفْ ذَلِكَ الْعَشْرَ بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ فِي تَمَامِهِ مَشْغُولًا بِأَمْرِ الْأَسْرَى وَالْفِدَاءِ . وَلَمَّا شَاوَرَهُمْ فِي الْفِدَاءِ قَامَ فَدَخَلَ بَيْتَهُ ثُمَّ خَرَجَ . وَأَحْوَالُهُ الْمَنْقُولَةُ عَنْهُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْتَكِفْ تَمَامَ ذَلِكَ الْعَشْرِ لَكِنْ يُمْكِنُ أَنَّهُ قَضَى اعْتِكَافَهُ كَمَا قَضَى صِيَامَهُ وَكَمَا قَضَى اعْتِكَافَ الْعَامِ الَّذِي أَرَادَ نِسَاؤُهُ الِاعْتِكَافَ مَعَهُ فِيهِ فَهَذَا عَامُ بَدْرٍ . وَأَيْضًا فَعَامُ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ كَانَ قَدْ سَافَرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَدَخَلَ مَكَّةَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ وَقَدْ بَقِيَ مِنْهُ أَقَلُّهُ وَهُوَ فِي مَكَّةَ مُشْتَغِلٌ بِآثَارِ الْفَتْحِ وَتَسْرِيَةِ السَّرَايَا إلَى مَا حَوْلَ مَكَّةَ وَتَقْرِيرِ أُصُولِ الْإِسْلَامِ بِأُمِّ الْقُرَى وَالتَّجَهُّزِ لِغَزْوِ هَوَازِنَ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّهُمْ قَدْ جَمَعُوا لَهُ مَعَ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النضري . وَقَدْ أَقَامَ بِمَكَّةَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ تِسْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً يَقْصُرُ الصَّلَاةَ . قَالُوا : لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَجْمَعَ الْمُقَامَ بِمَكَّةَ لِأَجْلِ غَزْوِ هَوَازِنَ فَكَانَ مُسَافِرًا فِيهَا غَيْرَ مُتَفَرِّغٍ لِلِاعْتِكَافِ بِمَكَّةَ ذَلِكَ الْعَامِ . فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَعْوَامٍ لَمْ يَعْتَكِفْ فِيهَا فِي رَمَضَانَ بَلْ قَضَى الْعَامَ الْوَاحِدَ الَّذِي أَرَادَ اعْتِكَافَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ وَأَمَّا الْآخَرَانِ - فَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَقَضَاهُمَا مَعَ الصَّوْمِ أَمْ لَمْ يَقْضِهَا مَعَ شَطْرِ الصَّلَاةِ . فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " { إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ } وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ } أَيْ الصَّوْمَ أَدَاءً وَالشَّطْرَ أَدَاءً وَقَضَاءً فَالِاعْتِكَافُ مُلْحَقٌ بِأَحَدِهِمَا . وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى اعْتِكَافًا فَاتَهُ فِي السَّفَرِ فَلَا يَثْبُتُ الْجَوَازُ إلَّا أَنَّهُ لِعُمُومِ حَدِيثِ عَائِشَةَ يَبْقَى فِيهِ إمْكَانٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .