تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ بَقِيَّةُ السَّلَفِ الْكِرَامِ الْعَلَّامَةُ الرَّبَّانِيُّ وَالْحُجَّةُ النُّورَانِيُّ أَوْحَدُ عَصْرِهِ وَفَرِيدُ دَهْرِهِ حِلْيَةُ الطَّالِبِينَ وَنُخْبَةُ الرَّاسِخِينَ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنُ تيمية الحراني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَثَابَهُ الْجَنَّةَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ فَقِيلَ : - يَا أَيُّهَا الْحَبْرُ الَّذِي عِلْمُهُ وَفَضْلُهُ فِي النَّاسِ مَذْكُورُ كَيْفَ اخْتِيَارُ الْعَبْدِ أَفْعَالَهُ وَالْعَبْدُ فِي الْأَفْعَالِ مَجْبُورُ لِأَنَّهُمْ قَدْ صَرَّحُوا : أَنَّهُ عَلَى الْإِرَادَاتِ لَمَقْسُورُ وَلَمْ يَكُنْ فَاعِلَ أَفْعَالِهِ حَقِيقَةً وَالْحُكْمُ مَشْهُورُ وَمِنْ هُنَا لَمْ يَكُنْ لِلْفِعْلِ فِي مَا يَلْحَقُ الْفَاعِلَ تَأْثِيرُ ( وَمَا تَشَاءُونَ دَلِيلٌ لَهُ فِي صِحَّةِ الْمَحْكِيِّ تَقْرِيرُ وَ ( كُلُّ شَيْءٍ ثُمَّ لَوْ سَلَّمْت لَمْ يَكُ لِلْخَالِقِ تَقْدِيرُ أَوْ كَانَ فَاللَّازِمُ مِنْ كَوْنِهِ حُدُوثَهُ وَالْقَوْلُ مَهْجُورُ وَلَا يُقَالُ : عِلْمُ اللَّهِ مَا يُخْتَارُ فَالْمُخْتَارُ مَسْطُورُ وَالْجَبْرُ - إنْ صَحَّ - يَكُنْ مُكْرَهًا وَعِنْدَكَ الْمُكْرَهُ مَعْذُورُ نِعْمَ ذَلِكَ الْجَبْرُ كُنْتَ امْرَأً لَهُ إلَى نَحْوِكَ تَشْمِيرُ أَسْقَمَنِي الشَّوْقُ وَلَكِنَّنِي تُقْعِدُنِي عَنْكَ الْمَقَادِيرُ
12345678910111213
فَصْلٌ وَمِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا مَعَ إيمَانِهِمْ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّهُ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَأَنَّ الْعِبَادَ لَهُمْ مَشِيئَةٌ وَقُدْرَةٌ يَفْعَلُونَ بِمَشِيئَتِهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ مَا أَقْدَرَهُمْ اللَّهُ عَلَيْهِ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّ الْعِبَادَ لَا يَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ . كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { كَلَّا إنَّهَا تَذْكِرَةٌ } { فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ } { وَمَا يَذْكُرُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلًا } { وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } وَقَالَ : { إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } { وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } . وَالْقُرْآنُ قَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّ الْعِبَادَ يُؤْمِنُونَ وَيَكْفُرُونَ وَيَفْعَلُونَ وَيَعْمَلُونَ وَيَكْسِبُونَ وَيُطِيعُونَ وَيَعْصُونَ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيَحُجُّونَ وَيَعْتَمِرُونَ وَيَقْتُلُونَ وَيَزْنُونَ وَيَسْرِقُونَ وَيَصْدُقُونَ وَيَكْذِبُونَ وَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيُقَاتِلُونَ وَيُحَارِبُونَ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِفَاعِلِ وَلَا مُخْتَارٍ وَلَا مُرِيدٍ وَلَا قَادِرٍ . وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ : إنَّهُ فَاعِلٌ مَجَازًا بَلْ مَنْ تَكَلَّمَ مِنْهُمْ بِلَفْظِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ فَاعِلٌ حَقِيقَةً وَاَللَّهُ تَعَالَى خَالِقُ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ . وَأَوَّلُ مَنْ ظَهَرَ عَنْهُ إنْكَارُ ذَلِكَ هُوَ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَأَتْبَاعُهُ فَحُكِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : إنَّ الْعَبْدَ مَجْبُورٌ وَأَنَّهُ لَا فِعْلَ لَهُ أَصْلًا وَلَيْسَ بِقَادِرِ أَصْلًا وَكَانَ الْجَهْمُ غَالِيًا فِي تَعْطِيلِ الصِّفَاتِ فَكَانَ يَنْفِي أَنْ يُسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى بِاسْمِ يُسَمَّى بِهِ الْعَبْدُ فَلَا يُسَمَّى شَيْئًا وَلَا حَيًّا وَلَا عَالِمًا وَلَا سَمِيعًا وَلَا بَصِيرًا . إلَّا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ . وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُسَمِّي اللَّهَ تَعَالَى قَادِرًا ; لِأَنَّ الْعَبْدَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِقَادِرِ فَلَا تَشْبِيهَ بِهَذَا الِاسْمِ عَلَى قَوْلِهِ . وَكَانَ هُوَ وَأَتْبَاعُهُ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ حِكْمَةٌ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَأَنْ يَكُونَ لَهُ رَحْمَةٌ وَيَقُولُونَ : إنَّمَا فَعَلَ بِمَحْضِ مَشِيئَةٍ لَا رَحْمَةَ مَعَهَا وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَأَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ إلَى الْجَذْمَى فَيَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَيَقُولُ : أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ يَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا بِهَؤُلَاءِ وَكَانَ يَقُولُ : الْعِبَادُ مَجْبُورُونَ عَلَى أَفْعَالِهِمْ لَيْسَ لَهُمْ فِعْلٌ وَلَا اخْتِيَارٌ . وَكَانَ ظُهُورُ جَهْمٍ وَمَقَالَتِهِ فِي تَعْطِيلِ الصِّفَاتِ وَفِي الْجَبْرِ وَالْإِرْجَاءِ فِي أَوَاخِرِ دَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ بَعْدَ حُدُوثِ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّ الْقَدَرِيَّةَ حَدَثُوا قَبْلَ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ فَلَمَّا حَدَثَتْ مَقَالَتُهُ الْمُقَابِلَةُ لِمَقَالَةِ الْقَدَرِيَّةِ أَنْكَرَهَا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ كَمَا أَنْكَرُوا قَوْلَ الْقَدَرِيَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَبَدَّعُوا الطَّائِفَتَيْنِ حَتَّى فِي لَفْظِ " الْجَبْرِ " أَنْكَرُوا عَلَى مَنْ قَالَ : جَبَرَ وَعَلَى مَنْ قَالَ : لَمْ يَجْبُرْ . وَالْآثَارُ بِذَلِكَ مَعْرُوفَةٌ عَنْ الأوزاعي وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا ; كَمَا ذَكَرَ طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " هُوَ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ يَجْمَعُ أَقْوَالَ السَّلَفِ وَقَالَ الأوزاعي وَالزُّبَيْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَفْظُ جَبَرَ وَإِنَّمَا فِي السُّنَّةِ لَفْظُ جَبَلَ كَمَا فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ مِنْ الْبَحْرَيْنِ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ وَإِنَّا لَا نَصِلُ إلَيْكَ إلَّا فِي شَهْرٍ حَرَامٍ فَمُرْنَا بِأَمْرِ فَصْلٍ نَعْمَلُ بِهِ وَنَأْمُرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا . فَقَالَ : آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ . أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ . وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ } . وَنَهَاهُمْ عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ الَّتِي يُسْرِعُ إلَيْهَا السُّكْرُ . حَتَّى قَدْ يَشْرَبُ الرَّجُلُ وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ شَرِبَ مُسْكِرًا ; بِخِلَافِ الظُّرُوفِ الَّتِي توكأ فَإِنَّهَا إذَا اشْتَدَّ الشَّرَابُ انْشَقَّتْ وَنَهَى عَنْ الدُّبَّاءِ وَهُوَ الْقَرْعُ وَالْحَنْتَمِ وَهُوَ مَا يُصْنَعُ مِنْ الْمَدَرِ كَالْجِرَارِ وَالْمُزَفَّتِ - وَهِيَ الظُّرُوفُ الْمُزَفَّتَةُ - وَالنَّقِيرِ وَهُوَ الْخَشَبُ الْمَنْقُورُ ثُمَّ قَدْ قِيلَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاحَ ذَلِكَ بَعْدَ هَذَا النَّهْيِ ; وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا النَّهْيِ هَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عِنْدَ أَحْمَد وَالْقَوْلُ بِالنَّسْخِ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ هَذَا كَانَ لَمْ يُنْسَخْ مَذْهَبُ مَالِكٍ ; لَكِنَّ مَالِكَ لَا يَنْهَى إلَّا عَنْ صِنْفَيْنِ فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ حَرَّمَ ذَيْنِكَ الصِّنْفَيْنِ وَأَبَاحَ الْآخَرَيْنِ بَعْدَ النَّهْيِ وَأَمَّا مُسْلِمٌ فَرَوَى فِي صَحِيحِهِ النَّسْخَ فِي الْجَمِيعِ فَلِهَذَا اخْتَلَفَ قَوْلُ أَحْمَد لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ بِالنَّهْيِ مُتَوَاتِرَةٌ وَحَدِيثُ النَّسْخِ لَيْسَ مِثْلَهَا ; فَلِهَذَا صَارَ لِلنَّاسِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ وَهَؤُلَاءِ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ كَانُوا بِالْبَحْرَيْنِ أَسْلَمُوا طَوْعًا . كَمَا أَسْلَمَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَوَّلُ جُمُعَةٍ جُمِعَتْ فِي الْإِسْلَامِ فِي قَرْيَةٍ عِنْدَهُمْ مِنْ قُرَى الْبَحْرَيْنِ . وَالْمَقْصُودُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ : إنَّ فِيكَ لَخُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ : الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ . فَقَالَ : أَخُلُقَيْنِ تَخَلَّقْتُ بِهِمَا ؟ أَمْ خُلُقَيْنِ جُبِلْتُ عَلَيْهِمَا ؟ فَقَالَ : بَلْ خُلُقَيْنِ جُبِلْتَ عَلَيْهِمَا . فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى مَا يُحِبُّ } فَقَالَ الأوزاعي وَالزُّبَيْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ السَّلَفِ لَفْظُ " الْجَبْلِ " جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فَيُقَالُ جَبَلَ اللَّهُ فُلَانًا عَلَى كَذَا ; وَأَمَّا لَفْظُ " الْجَبْرِ " فَلَمْ يَرِدْ ; وَأَنْكَرَ الأوزاعي وَالزُّبَيْدِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمْ لَفْظَ " الْجَبْرِ " فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ . وَذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَ " الْجَبْرِ " مُجْمَلٌ فَإِنَّهُ يُقَالُ جَبَرَ الْأَبُ ابْنَتَهُ عَلَى النِّكَاحِ وَجَبَرَ الْحَاكِمُ الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ لِوَفَاءِ دَيْنِهِ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَكْرَهَهُ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ جَعَلَهُ مُرِيدًا لِذَلِكَ مُخْتَارًا مُحِبًّا لَهُ رَاضِيًا بِهِ . قَالُوا : وَمَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَبَرَ الْعِبَادَ بِهَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ مُبْطِلٌ فَإِنَّ اللَّهَ أَعْلَى وَأَجَلُّ قَدْرًا مِنْ أَنْ يُجْبِرَ أَحَدًا وَإِنَّمَا يُجْبِرُ غَيْرُهُ الْعَاجِزُ عَنْ أَنْ يَجْعَلَهُ مُرِيدًا لِلْفِعْلِ مُخْتَارًا لَهُ مُحِبًّا لَهُ رَاضِيًا بِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ الَّذِي جَعَلَ الْمُرِيدَ لِلْفِعْلِ الْمُحِبَّ لَهُ الرَّاضِيَ بِهِ مُرِيدًا لَهُ مُحِبًّا لَهُ رَاضِيًا بِهِ فَكَيْفَ يُقَالُ أَجْبَرَهُ وَأَكْرَهَهُ كَمَا يُجْبِرُ الْمَخْلُوقُ الْمَخْلُوقَ مِثْلَ مَا يُجْبِرُ السُّلْطَانُ وَالْحَاكِمُ وَالْأَبُ وَغَيْرُهُمْ مَنْ يَجْبُرُونَهُ إمَّا بِحَقِّ وَإِمَّا بِبَاطِلِ وَإِجْبَارُهُمْ هُوَ إكْرَاهُهُمْ لِغَيْرِهِمْ عَلَى الْفِعْلِ وَالْإِكْرَاهُ قَدْ يَكُونُ إكْرَاهًا بِحَقِّ وَقَدْ يَكُونُ إكْرَاهًا بِبَاطِلِ . ( فَالْأَوَّلُ : كَإِكْرَاهِ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ عَلَى فِعْلِهَا مِثْلَ إكْرَاهِ الْكَافِرِ الْحَرْبِيِّ عَلَى الْإِسْلَامِ أَوْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وَإِكْرَاهُ الْمُرْتَدِّ عَلَى الْعَوْدِ إلَى الْإِسْلَامِ وَإِكْرَاهُ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى إقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَعَلَى قَضَاءِ الدُّيُونِ الَّتِي يَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهَا وَعَلَى أَدَاءِ الْأَمَانَةِ الَّتِي يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهَا وَإِعْطَاءِ النَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ الَّتِي يَقْدِرُ عَلَى إعْطَائِهَا . وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ : فَمِثْلُ إكْرَاهِ الْإِنْسَانِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَهَذَا الْإِجْبَارُ الَّذِي هُوَ الْإِكْرَاهُ يَفْعَلُهُ الْعِبَادُ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ لِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى إحْدَاثِ الْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ فِي قُلُوبِهِمْ وَعَلَى جَعْلِهِمْ فَاعِلِينَ لِأَفْعَالِهِمْ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إحْدَاثِ إرَادَةٍ لِلْعَبْدِ وَلِاخْتِيَارِهِ وَجَعْلِهِ فَاعِلًا بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَهُوَ أَعْلَى وَأَقْدَرُ مِنْ أَنْ يَجْبُرَ غَيْرَهُ وَيُكْرِهَهُ عَلَى أَمْرٍ شَاءَهُ مِنْهُ ; بَلْ إذَا شَاءَ جَعَلَهُ فَاعِلًا لَهُ بِمَشِيئَتِهِ كَمَا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْعَلَهُ فَاعِلًا لِلشَّيْءِ مَعَ كَرَاهَتِهِ لَهُ فَيَكُونُ مُرِيدًا لَهُ حَتَّى يَفْعَلَهُ مَعَ بُغْضِهِ لَهُ كَمَا قَدْ يَشْرَبُ الْمَرِيضُ الدَّوَاءَ مَعَ كَرَاهَتِهِ لَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } وَقَالَ : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } . فَكُلُّ مَا يَقَعُ مِنْ الْعِبَادِ بِإِرَادَتِهِمْ وَمَشِيئَتِهِمْ فَهُوَ الَّذِي جَعَلَهُمْ فَاعِلِينَ لَهُ بِمَشِيئَتِهِمْ سَوَاءٌ كَانُوا مَعَ ذَلِكَ فَعَلُوهُ طَوْعًا أَوْ كَانُوا كَارِهِينَ لَهُ فَعَلُوهُ كَرْهًا وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يُكْرِهُهُمْ عَلَى مَا لَا يُرِيدُوهُ كَمَا يُكْرِهُ الْمَخْلُوقُ الْمَخْلُوقَ حَيْثُ يُكْرِهُهُ عَلَى أَمْرٍ وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُ وَلَيْسَ هُوَ قَادِرًا أَنْ يَجْعَلَهُ مُرِيدًا لَهُ فَاعِلًا لَهُ لَا مَعَ الْكَرَاهَةِ وَلَا مَعَ عَدَمِهَا ; فَلِهَذَا يُقَالُ لِلْعَبْدِ : إنَّهُ جَبَرَ غَيْرَهُ عَلَى الْفِعْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ وَأَقْدَرُ مِنْ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّهُ جَبَرَ بِهَذَا الْمَعْنَى . وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ لَفْظُ " الْجَبْرِ " فِي أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ بِحَيْثُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ قَهَرَ غَيْرَهُ وَقَدَرَ عَلَيْهِ فَجَعَلَهُ فَاعِلًا لِمَا يَشَاءُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُحْدِثَ لِإِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القرظي فِي اسْمِ اللَّهِ " الْجَبَّارِ " قَالَ : هُوَ الَّذِي جَبَرَ الْعِبَادَ عَلَى مَا أَرَادَ وَكَذَلِكَ يُنْقَلُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ : اللَّهُمَّ دَاحِيَ الْمَدْحُوَّاتِ وَبَارِيَ الْمَسْمُوكَاتِ جَبَّارَ الْقُلُوبِ عَلَى فِطْرَتِهَا شَقِيِّهَا وَسَعِيدِهَا وَالْجَبْرُ مِنْ اللَّهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ الْقَهْرُ وَالْقُدْرَةُ وَأَنَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ وَيَجْبُرُ عَلَى ذَلِكَ وَيَقْهَرُهُمْ عَلَيْهِ فَلَيْسَ كَالْمَخْلُوقِ الْعَاجِزِ الَّذِي يَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ وَيَكُونُ مَا لَا يَشَاءُ وَمِنْ جَبْرِهِ وَقَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ أَنْ يَجْعَلَ الْعِبَادَ مُرِيدِينَ لِمَا يَشَاءُ مِنْهُمْ إمَّا مُخْتَارِينَ لَهُ طَوْعًا وَإِمَّا مُرِيدِينَ لَهُ مَعَ كَرَاهَتِهِمْ لَهُ وَيَجْعَلُهُمْ فَاعِلِينَ لَهُ وَهَذَا الْجَبْرُ الَّذِي هُوَ قَهْرُهُ بِقُدْرَتِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَيْسَ هُوَ كَإِجْبَارِ غَيْرِهِ وَإِكْرَاهِهِ مِنْ وُجُوهٍ : ( مِنْهَا أَنَّ مَا سِوَاهُ عَاجِزٌ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَجْعَلَ الْعِبَادَ مُرِيدِينَ لِمَا يَشَاؤُهُ وَلَا فَاعِلِينَ لَهُ . وَمِنْهَا : أَنَّ غَيْرَهُ قَدْ يُجْبِرُ الْغَيْرَ وَيُكْرِهُهُ إكْرَاهًا يَكُونُ ظَالِمًا بِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى عَادِلٌ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ . وَمِنْهَا : أَنَّ غَيْرَهُ قَدْ يَكُونُ جَاهِلًا أَوْ سَفِيهًا لَا يَعْلَمُ مَا يَفْعَلُهُ وَمَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَلَا يَقْصِدُ حِكْمَةً تَكُونُ غَيْرَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ مَا خَلَقَهُ وَأَمَرَ بِهِ لَهُ فِيهِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ صَادِرَةٌ مِنْ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ .