تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْأَعْلَامُ أَئِمَّةُ الدِّينِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - هَلْ هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي نَتْلُوهُ الْقَائِمُ بِنَا حِينَ التِّلَاوَةِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي قَامَ بِهِ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ وَكَانَ صِفَةً لَهُ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا كَانَ كَلَامُهُ فَهَلْ إذَا تَلَوْنَاهُ وَقَامَ بِنَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلَامُ اللَّهِ وَصِفَتُهُ ؟ أَمْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلَامُ اللَّهِ دُونَ صِفَتِهِ ؟ أَمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يَجِبُ بَيَانُهُ ؟ وَهَلْ إذَا قَامَ بِنَا كَانَ مُنْتَقِلًا عَنْ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ قَامَ بِهِ ؟ أَمْ يَكُونُ قَائِمًا بِنَا وَبِهِ مَعًا ؟ أَمْ الَّذِي قَامَ بِنَا يَكُونُ عِبَارَةً عَنْ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ حِكَايَةً عَنْهُ وَيَكُونُ إطْلَاقُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ مَجَازًا ؟ وَهَلْ يَكُونُ صِفَةً لَنَا مُحْدَثَةً قَامَتْ بِمُحْدَثِ ; إذْ الْقَدِيمُ لَا يَقُومُ بِمُحْدَثِ وَالْمُحْدَثُ لَا يَكُونُ قَدِيمًا وَهَلْ " التِّلَاوَةُ " هِيَ نَفْسُ الْمَتْلُوِّ أَمْ لَا ؟ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
123
فَصْلٌ إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ . فَيُقَالُ : هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي نَقْرَؤُهُ وَنُبَلِّغُهُ وَنَسْمَعُهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ وَنَزَلَ بِهِ مِنْهُ رُوحُ الْقُدُسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } { إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } { إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي قَالُوا : إنَّمَا يُعَلِّمُهُ إيَّاهُ بَشَرٌ وَقَدْ أَبْطَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَفْسُ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي يَمْتَنِعُ أَنْ يُعَلِّمَهُ إيَّاهُ ذَلِكَ الْأَعْجَمِيُّ الَّذِي أَلْحَدُوا إلَيْهِ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ رَجُلٌ بِمَكَّةَ مَوْلًى لِابْنِ الْحَضْرَمِيّ وَالْمَعَانِي الْمُجَرَّدَةُ لَا يَمْتَنِعُ تَعَلُّمُهَا مِنْ الْأَعْجَمِيِّ بِخِلَافِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ فَدَلَّ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى . وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وَهَذَا الْكَلَامُ صِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا مَا اُخْتُصَّ قِيَامُهُ بِنَا ; مِنْ حَرَكَاتِنَا وَأَصْوَاتِنَا وَفَهْمِنَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِنَا فَلَمْ يَقُمْ مِنْهُ شَيْءٌ بِذَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ كَمَا أَنَّ مَا اخْتَصَّ الرَّبُّ تَعَالَى بِقِيَامِهِ بِهِ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُ وَلَمْ يَقُمْ بِغَيْرِهِ لَا هُوَ وَلَا مِثْلُهُ : فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ إذَا سَمِعَ مِنْ الْمَخْلُوقِ كَلَامَهُ وَبَلَّغَهُ عَنْهُ كَانَ مَا بَلَّغَهُ هُوَ كَلَامَهُ كَمَا تَقَدَّمَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأَ سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ } مَعَ أَنَّ مَا قَامَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَاطِنِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَغَيْرِهِمَا وَبِظَاهِرِهِ مِنْ الْحَرَكَةِ وَالصَّوْتِ وَغَيْرِهِمَا - لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُ وَلَمْ يَقُمْ بِغَيْرِهِ ; بَلْ جَمِيعُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ لَا تُفَارِقُ ذَوَاتِهِمْ وَتَنْتَقِلُ عَنْهُمْ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ صِفَةَ الْخَالِقِ فَارَقَتْ ذَاتَه فَانْتَقَلَتْ عَنْهُ ؟ وَالْمُتَعَلِّمُ إذَا أَخَذَ عِلْمَ الْمُعَلِّمِ وَنَقَلَهُ عَنْهُ لَمْ يُفَارِقْ ذَاتَ الْأَوَّلِ وَيَنْتَقِلْ عَنْهَا إلَى الثَّانِي ; بَلْ نَفْسُ الْحَقِيقَةِ الْعِلْمِيَّةِ حَصَلَتْ لَهُ مِثْلَ مَا حَصَلَتْ لِمُعَلِّمِهِ أَوْ لَيْسَ مَثَلَهُ بَلْ يُشْبِهُهُ ; وَلِهَذَا يُشَبَّهُ الْعِلْمُ بِضَوْءِ السِّرَاجِ كُلُّ أَحَدٍ يَقْتَبِسُ مِنْهُ وَهُوَ لَمْ يَنْقُصْ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ أَوْقَدَ مِنْ مِصْبَاحِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى سِرَاجِهِ شَيْءٌ مِنْ جِرْمِ تِلْكَ النَّارِ وَلَا شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِهَا الْقَائِمَةِ بِهَا ; بَلْ جَعَلَ اللَّهُ بِسَبَبِ مُلَاصَقَةِ النَّارِ ذَلِكَ نَارًا مِثْلَ تِلْكَ فَالْحَقِيقَةُ النَّارِيَّةُ مَوْجُودَةٌ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْعَيْنُ لَيْسَتْ تِلْكَ ; لَكِنَّ النَّارَ وَالْعِلْمَ لَيْسَ هُوَ مِثْلَ الْكَلَامِ الَّذِي يُبَلَّغُ عَنْ الْغَيْرِ ; بَلْ هُوَ مِثْلُ أَنْ يَسْمَعَ بَعْضُ النَّاسِ كَلَامَ غَيْرِهِ وَشِعْرَ غَيْرِهِ فَيَقُولُ مِنْ جِنْسِ مَا قَالَ وَيَقُولُ كَمَا قَالَ غَيْرُهُ مِثْلَهُ . كَمَا يُقَالُ : وَقْعُ الْخَاطِرِ عَلَى الْخَاطِرِ كَوَقْعِ الْحَافِرِ عَلَى الْحَافِرِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ التَّبْلِيغِ وَالرِّوَايَةِ فِي شَيْءٍ فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ هُوَ كَلَامُ لَبِيَدٍ كَيْفَ مَا أَنْشَدَهُ النَّاسُ وَكَتَبُوهُ ; فَهَذَا الشِّعْرُ الَّذِي يُنْشِدُهُ هُوَ شِعْرُ لَبِيَدٍ بِعَيْنِهِ . فَإِذَا قِيلَ : الشِّعْرُ الَّذِي قَامَ بِنَا هُوَ الَّذِي قَامَ بلبيد . قِيلَ : إنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّ الشِّعْرَ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ إنْ أُرِيدَ أَنَّ نَفْسَ مَا قَامَ بِذَاتِهِ فَارَقَ ذَاتَه وَانْتَقَلَ إلَيْنَا ; فَلَيْسَ كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ إنْ أُرِيدَ أَنَّ عَيْنَ الصِّفَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِذَلِكَ الشَّخْصِ كَحَرَكَتِهِ وَصَوْتِهِ هِيَ عَيْنُ الصِّفَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِنَا كَحَرَكَتِنَا وَصَوْتِنَا فَلَيْسَ كَذَلِكَ . فَقَوْلُك : هَذَا هُوَ هَذَا لَفْظٌ فِيهِ إجْمَالٌ يُبَيِّنُهُ السِّيَاقُ . فَإِذَا قُلْت : هَذَا الْكَلَامُ هُوَ ذَاكَ أَوْ هَذَا الشِّعْرُ هُوَ ذَاكَ كُنْت صَادِقًا . وَإِذَا قُلْت هَذَا الصَّوْتُ هُوَ ذَاكَ كَانَ كَذِبًا . وَالنَّاسُ لَا يَقْصِدُونَ إذَا قَالُوا : هَذَا شِعْرُ لَبِيَدٍ إلَّا الْقَدْرَ الْمُتَّحِدَ وَهِيَ الْحَقِيقَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَعَ قَصْرِ النَّظَرِ عَمَّا اخْتَصَّ بِهِ أَحَدُهُمَا . فَإِنْ قِيلَ : الْقَدْرُ الْمُتَّحِدُ كُلِّيٌّ مُطْلَقٌ وَالْكُلِّيَّاتُ إنَّمَا تُوجَدُ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ . قِيلَ : ذِكْرُ هَذَا هُنَا غَلَطٌ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يُقَالُ لَوْ كَانَ رَجُلٌ قَدْ قَالَ شِعْرُ لَبِيَدٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ بِشِعْرِهِ . فَنَقُولُ : هذان شَيْئَانِ اشْتَرَكَا فِي النَّوْعِ الْكُلِّيِّ وَامْتَازَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ بِمَا يَخُصُّهُ وَالْكُلِّيُّ إنَّمَا يُوجَدُ كُلِّيًّا فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ وَأَمَّا هُنَا فَنَفْسُ شِعْرِهِ كَانَ لَهُ وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْحَقِيقَةِ الْكَلَامِيَّةِ - مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ صَوْتِ زَيْدٍ وَصَوْتِ عَمْرٍو - مَوْجُودٌ لَمَّا تَكَلَّمَ بِهِ لَبِيَدِ وَمَوْجُودٌ إذَا أَنْشَدَهُ غَيْرُ لَبِيَدٍ وَتِلْكَ الْحَقِيقَةُ الْمُتَّحِدَةُ مَوْجُودَةٌ هُنَا وَهُنَا ; لَيْسَتْ مِثْلَ وُجُودِ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَخَالِدٍ ; فَإِنَّ إنْسَانِيَّةَ زَيْدٍ لَيْسَتْ إنْسَانِيَّةَ عَمْرٍو بَلْ مِثْلُهَا وَالْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ وَهُنَا نَفْسُ الْكَلَامِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ لَبِيَدِ تَكَلَّمَ بِهِ الْمُنْشِدُ عَنْهُ وَلَا يُقَالُ : إنَّهُ أَنْشَأَ مِثْلَهُ وَلَا أَنْشَدَ مِثْلَهُ بَلْ يُقَالُ : أَنْشَدَ شِعْرَهُ بِعَيْنِهِ . لَكِنَّ الشِّعْرَ عَرَضٌ وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ إلَّا بِغَيْرِهِ ; فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ إمَّا بلبيد وَإِمَّا بِغَيْرِهِ وَالْقَائِمُ بِهِ وَإِنْ كَانَ [ لَيْسَ ] مِثْلَ الْقَائِمِ بِغَيْرِهِ ; لَكِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِمَا وَاحِدٌ . فَالتَّمَاثُلُ وَالتَّغَايُرُ فِي الْوَسِيلَةِ وَالِاتِّحَادُ فِي الْحَقِيقَةِ الْمَقْصُودَةِ وَتِلْكَ الْحَقِيقَةُ هِيَ إنْشَاءُ لَبِيَدٍ لَا إنْشَاءُ غَيْرِهِ وَالْعُقَلَاءُ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ نَفْسُ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ مِنْ لَبِيَدٍ هُوَ نَفْسَ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ مِنْ الْمُنْشِدِ ; لَكِنَّ نَفْسَ الْمَقْصُودِ بِالصَّوْتِ هُوَ الْكَلَامُ ; فَإِنَّ الصَّوْتَ وَاسِطَةٌ فِي تَبْلِيغِهِ ; وَلِهَذَا مَا كَانَ فِي الصَّوْتِ مِنْ مَدْحٍ وَذَمٍّ كَانَ لِلْمُبَلِّغِ وَمَا كَانَ فِي الْكَلَامِ مِنْ مَدْحٍ وَذَمٍّ كَانَ لِلْمُتَكَلِّمِ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ فِي لَفْظِهِ وَنَظْمِهِ وَمَعْنَاهُ . وَإِذَا عُرِفَ هَذَا : فَقَوْلُ الْقَائِلِ : هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي نَتْلُوهُ الْقَائِمُ بِنَا حِينَ التِّلَاوَةِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي قَامَ بِهِ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ وَكَانَ صِفَةً لَهُ أَمْ لَا ؟ قِيلَ لَهُ : أَمَّا الْكَلَامُ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُنَا وَلَا غَيْرُنَا وَهُوَ مَسْمُوعٌ مِنْ الْمُبَلِّغِ لَا مِنْ اللَّهِ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَهُوَ مَسْمُوعٌ بِوَاسِطَةِ سَمَاعًا مُقَيَّدًا لَا سَمَاعًا مِنْ اللَّهِ مُطْلَقًا - كَمَا تَقَدَّمَ - وَلَيْسَ شَيْءٌ مِمَّا قَامَ بِذَاتِهِ فَارَقَهُ وَانْتَقَلَ إلَيْنَا وَلَا شَيْءٌ مِمَّا يَخْتَصُّ بِذَوَاتِنَا - كَحَرَكَاتِنَا وَأَصْوَاتِنَا فَهُوَ مِنَّا - قَائِمًا بِهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي نَتْلُوهُ الْقَائِمُ بِنَا حِينَ التِّلَاوَةِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي قَامَ بِهِ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ ؟ فَلَفْظُ الْقِيَامِ فِيهِ إجْمَالٌ فَإِنْ أَرَادَ أَنَّ نَفْسَ صِفَةِ الرَّبِّ تَكُونُ صِفَةً لِغَيْرِهِ أَوْ صِفَةُ الْعَبْدِ تَكُونُ صِفَةً لِلرَّبِّ فَلَيْسَ كَذَلِكَ . وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ نَفْسَ مَا لَيْسَ بِمَخْلُوقِ صَارَ مَخْلُوفًا أَوْ مَا هُوَ مَخْلُوقٌ صَارَ غَيْرَ مَخْلُوقٍ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ . وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ مَا اخْتَصَّ الرَّبُّ بِقِيَامِهِ بِهِ شَارَكَهُ فِيهِ غَيْرُهُ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ . وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ نَفْسَ الْكَلَامِ كَلَامُهُ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ فِي الْحَالَيْنِ - كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ - فَالْأَمْرُ كَذَلِكَ . وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْحَالَ إذَا سُمِعَ مِنْ اللَّهِ لَيْسَ كَالْحَالِ إذَا سُمِعَ مِنْ خَلْقِهِ وَذَلِكَ فَرْقٌ بَيْنَ الْحَالَيْنِ وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ وَاحِدًا . فَإِذَا كَانَ هَذَا الْفَرْقُ ثَابِتًا فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِ مَسْمُوعًا وَمُبَلَّغًا عَنْهُ فَثُبُوتُهُ فِي كَلَامِ اللَّهِ أَوْلَى وَأَحْرَى فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَكَلُّمُهُ بِهِ وَسَمَاعُهُ مِمَّا يُعْرَفُ لَهُ نَظِيرٌ وَلَا مِثَالٌ وَلَا يُقَاسُ ذَلِكَ بِتَكَلُّمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمَاعِ الْكَلَامِ مِنْهُ ; فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْرِفَ صِفَاتِهِ وَالرَّبُّ تَعَالَى لَا مِثَالَ لَهُ وَهُوَ أَبْعَدُ عَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ أَعْظَمُ مِنْ بُعْدِ مُمَاثَلَةِ أَعْظَمِ الْمَخْلُوقَاتِ عَنْ مُمَاثَلَةِ أَدْنَاهَا .