تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَنْ قَوْله تَعَالَى { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } الْآيَةُ وَالْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِكْرِ " زِنَا الْأَعْضَاءِ كُلِّهَا " وَمَاذَا عَلَى الرَّجُلِ إذَا مَسَّ يَدَ الصَّبِيِّ الْأَمْرَدِ فَهَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ النِّسَاءِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ أَمْ لَا ؟ وَمَا عَلَى الرَّجُلِ إذَا جَاءَتْ إلَى عِنْدِهِ المردان وَمَدَّ يَدَهُ إلَى هَذَا وَهَذَا وَيَتَلَذَّذُ بِذَلِكَ وَمَا جَاءَ فِي التَّحْرِيمِ مِنْ النَّظَرِ إلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ الْحَسَنِ ؟ وَهَلْ هَذَا الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ : { إنَّ النَّظَرَ إلَى الْوَجْهِ الْمَلِيحِ عِبَادَةٌ } [ صَحِيحٌ ] أَمْ لَا ؟ وَإِذَا قَالَ أَحَدٌ : أَنَا مَا أَنْظُرُ إلَى الْمَلِيحِ الْأَمْرَدِ لِأَجْلِ شَيْءٍ ; وَلَكِنِّي إذَا رَأَيْته قُلْت : سُبْحَانَ اللَّهِ تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ فَهَلْ هَذَا الْقَوْلُ صَوَابٌ أَمْ لَا ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
123
وَأَمَّا مَنْ نَظَرَ إلَى المردان ظَانًّا أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى مَظَاهِرِ الْجَمَالِ الْإِلَهِيِّ وَجَعَلَ هَذَا طَرِيقًا لَهُ إلَى اللَّهِ كَمَا يَفْعَلُهُ طَوَائِفُ مِنْ الْمُدَّعِينَ لِلْمَعْرِفَةِ فَقَوْلُهُ هَذَا أَعْظَمُ كُفْرًا مِنْ قَوْلِ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ وَمِنْ كُفْرِ قَوْمِ لُوطٍ . فَهَؤُلَاءِ مِنْ شَرِّ الزَّنَادِقَةِ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ يَجِبُ قَتْلُهُمْ بِإِجْمَاعِ كُلِّ أُمَّةٍ فَإِنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ قَالُوا : { مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى } . وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَوْجُودًا فِي نَفْسِ الْأَصْنَامِ وَحَالًّا فِيهَا ; فَإِنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ بِظُهُورِهِ وَتَجَلِّيهِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَنَّهَا أَدِلَّةٌ عَلَيْهِ وَآيَاتٌ لَهُ بَلْ يُرِيدُونَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ظَهَرَ فِيهَا وَتَجَلَّى فِيهَا وَيُشَبِّهُونَ ذَلِكَ بِظُهُورِ الْمَاءِ فِي الصُّوفَةِ وَالزُّبْدِ فِي اللَّبَنِ وَالزَّيْتِ فِي الزَّيْتُونِ وَالدُّهْنِ فِي السِّمْسِمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي حُلُولَ نَفْسِ ذَاتِهِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ أَوْ اتِّحَادِهِ بِهَا فَيَقُولُونَ فِي جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ : نَظِيرَ مَا قَالَهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ خَاصَّةً ثُمَّ يَجْعَلُونَ المردان مَظَاهِرَ الْجَمَالِ فَيُقِرُّونَ هَذَا الشِّرْكَ الْأَعْظَمَ طَرِيقًا إلَى اسْتِحْلَالِ الْفَوَاحِشِ بَلْ إلَى اسْتِحْلَالِ كُلِّ مُحَرَّمٍ ; كَمَا قِيلَ لِأَفْضَلِ مَشَايِخِهِمْ التلمساني : إذَا كَانَ قَوْلُكُمْ بِأَنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ هُوَ الْحَقُّ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ أُمِّي وَأُخْتِي وَبِنْتِي حَتَّى يَكُونَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ ؟ قَالَ : الْجَمِيعُ عِنْدَنَا سَوَاءٌ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَحْجُوبُونَ قَالُوا حَرَامٌ فَقُلْنَا حَرَامٌ عَلَيْكُمْ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْحُلُولِيَّةِ والاتحادية مَنْ يَخُصُّ الْحُلُولَ وَالِاتِّحَادَ بِبَعْضِ الْأَشْخَاصِ إمَّا بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ كَالْمَسِيحِ أَوْ بِبَعْضِ الصَّحَابَةِ كَقَوْلِ الْغَالِيَةِ فِي عَلِيٍّ أَوْ بِبَعْضِ الشُّيُوخِ كَالْحَلَّاجِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ أَوْ بِبَعْضِ الْمُلُوكِ أَوْ بِبَعْضِ الصُّوَرِ كَصُوَرِ المردان . وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ : إنَّمَا أَنْظُرُ إلَى صِفَاتِ خَالِقِي وَأَشْهَدُهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَالْكُفْرُ فِي هَذَا الْقَوْلِ أَبْيَنُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَلَوْ قَالَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ فِي نَبِيٍّ كَرِيمٍ لَكَانَ كَافِرًا فَكَيْفَ إذَا قَالَهُ فِي صَبِيٍّ أَمْرَدَ فَقَبَّحَ اللَّهُ طَائِفَةً يَكُونُ مَعْبُودُهَا مِنْ جِنْسِ مَوْطُوئِهَا . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } فَإِذَا كَانَ مَنْ اتَّخَذَ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ لِلَّهِ كُفَّارًا فَكَيْفَ بِمَنْ اتَّخَذَ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ أَرْبَابًا ؟ مَعَ أَنَّ اللَّهَ فِيهَا أَوْ مُتَّحِدٌ بِهَا فَوُجُودُهُ وُجُودُهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَالَاتِ . وَأَمَّا " الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ " فِي غَضِّ الْبَصَرِ : فَهُوَ نُورُ الْقَلْبِ وَالْفِرَاسَةِ قَالَ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ لُوطٍ : { لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } فَالتَّعَلُّقُ بِالصُّوَرِ يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْلِ وَعَمَى الْبَصِيرَةِ وَسُكْرَ الْقَلْبِ بَلْ جُنُونَهُ كَمَا قِيلَ : سكران : سُكْرُ هَوًى وَسُكْرُ مُدَامَةٍ فَمَتَى يُفِيقُ مَنْ بِهِ سكران وَقِيلَ أَيْضًا : قَالُوا جُنِنْت بِمَنْ تَهْوَى فَقُلْت لَهُمْ : الْعِشْقُ أَعْظَمُ مِمَّا بِالْمَجَانِينِ الْعِشْقُ لَا يَسْتَفِيقُ الدَّهْرَ صَاحِبُهُ وَإِنَّمَا يُصْرَعُ الْمَجْنُونُ فِي الْحِينِ وَذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ آيَةَ النُّورِ عَقِيبَ آيَاتِ غَضِّ الْبَصَرِ فَقَالَ : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وَكَانَ شُجَاعُ بْنُ شَاهٍ الكرماني لَا تُخْطِئُ لَهُ فِرَاسَةٌ وَكَانَ يَقُولُ : مَنْ عَمَّرَ ظَاهِرَهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَبَاطِنَهُ بِدَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ وَغَضَّ بَصَرَهُ عَنْ الْمَحَارِمِ وَكَفَّ نَفْسَهُ عَنْ الشَّهَوَاتِ وَذَكَرَ خَصْلَةً سَادِسَةً أَظُنُّهُ هُوَ أَكْلُ الْحَلَالِ : لَمْ تُخْطِئْ لَهُ فِرَاسَةٌ . وَاَللَّهُ تَعَالَى يَجْزِي الْعَبْدَ عَلَى عَمَلِهِ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِ فَيُطْلِقُ نُورَ بَصِيرَتِهِ وَيَفْتَحُ عَلَيْهِ بَابَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْكُشُوفِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُنَالُ بِبَصِيرَةِ الْقَلْبِ . الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ قُوَّةُ الْقَلْبِ وَثَبَاتُهُ وَشَجَاعَتُهُ ; فَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ سُلْطَانُ الْبَصِيرَةِ مَعَ سُلْطَانِ الْحُجَّةِ فَإِنَّ فِي الْأَثَرِ : { الَّذِي يُخَالِفُ هَوَاهُ يَفْرَقُ الشَّيْطَانُ مِنْ ظِلِّهِ } وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي الْمُتَّبِعِ هَوَاهُ مَنْ ذُلِّ النَّفْسِ وَضَعْفِهَا وَمَهَانَتِهَا مَا جَعَلَهُ اللَّهُ لِمَنْ عَصَاهُ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْعِزَّةَ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَالذِّلَّةَ لِمَنْ عَصَاهُ . قَالَ تَعَالَى : { يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } . وَلِهَذَا كَانَ فِي كَلَامِ الشُّيُوخِ : النَّاسُ يَطْلُبُونَ الْعِزَّ بِأَبْوَابِ الْمُلُوكِ وَلَا يَجِدُونَهُ إلَّا فِي طَاعَةِ اللَّهِ . وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ : وَإِنْ هَمْلَجَتْ بِهِمْ الْبَرَاذِينُ وَطَقْطَقَتْ بِهِمْ ذُلُلُ الْبِغَالِ فَإِنَّ ذُلَّ الْمَعْصِيَةِ فِي رِقَابِهِمْ أَبَى اللَّهُ إلَّا أَنْ يُذِلَّ مَنْ عَصَاهُ وَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فَقَدْ وَالَاهُ فِيمَا أَطَاعَهُ فِيهِ وَمَنْ عَصَاهُ فَفِيهِ قِسْطٌ مِنْ فِعْلِ مَنْ عَادَاهُ بِمَعَاصِيهِ وَفِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ : { إنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْت وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْت } . ثُمَّ الصُّوفِيَّةُ الْمَشْهُورُونَ عِنْدَ الْأُمَّةِ - الَّذِينَ لَهُمْ لِسَانُ صِدْقٍ فِي الْأُمَّةِ - لَمْ يَكُونُوا يَسْتَحْسِنُونَ مِثْلَ هَذَا ; بَلْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَلَهُمْ فِي الْكَلَامِ فِي ذَمِّ صُحْبَةِ الْأَحْدَاثِ وَفِي الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْحُلُولِ وَبَيَانِ مُبَايَنَةِ الْخَالِقِ : مَا لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِذِكْرِهِ . وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَهُ مَنْ تَشَبَّهَ بِهِمْ مِمَّنْ هُوَ عَاصٍ أَوْ فَاسِقٌ أَوْ كَافِرٌ فَيَتَظَاهَرُ بِدَعْوَى الْوِلَايَةِ لِلَّهِ وَتَحْقِيقِ الْإِيمَانِ وَالْعِرْفَانِ وَهُوَ مِنْ شَرِّ أَهْلِ الْعَدَاوَةِ لِلَّهِ وَأَهْلِ النِّفَاقِ وَالْبُهْتَانِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى يَجْمَعُ لِأَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَجْعَلُ لِأَعْدَائِهِ الصَّفْقَةَ الْخَاسِرَةَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .