تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَصْلٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى قَامَا بِأَصْلِ الدِّينِ الَّذِي هُوَ الْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَمُخَاصِمَةُ مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ . فَأَمَّا إبْرَاهِيمُ فَقَالَ اللَّهُ فِيهِ { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } وَذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ إرَادَةَ إحْيَاءِ الْمَوْتَى فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِأَخْذِ أَرْبَعَةٍ مِنْ الطَّيْرِ . فَقَرَّرَ أَمْرُ الْخَلْقِ وَالْبَعْثِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ . وَهُمَا اللَّذَانِ يَكْفُرُ بِهِمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا كُفَّارُ الصَّابِئَةِ وَالْمُشْرِكِينَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ بُعِثَ الْخَلِيلُ إلَى نَوْعِهِمْ . فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ وُجُودَ الصَّانِعِ ; وَفِيهِمْ مَنْ يُنْكِرُ صِفَاتِهِ ; وَفِيهِمْ مَنْ يُنْكِرُ خَلْقَهُ وَيَقُولُ : إنَّهُ عِلَّةٌ ; وَأَكْثَرُهُمْ يُنْكِرُونَ إحْيَاءَ الْمَوْتَى . وَهُمْ مُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ الْعُلْوِيَّةَ وَالْأَصْنَامَ السُّفْلِيَّةَ . وَالْخَلِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ رَدَّ هَذَا جَمِيعَهُ . فَقَرَّرَ رُبُوبِيَّةَ رَبِّهِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ . وَقَرَّرَ الْإِخْلَاصَ لَهُ وَنَفَى الشِّرْكَ كَمَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا . وَقَرَّرَ الْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ . وَاسْتَقَرَّ فِي مِلَّتِهِ مَحَبَّتُهُ لِلَّهِ وَمَحَبَّةُ اللَّهِ لَهُ بِاِتِّخَاذِ اللَّهِ لَهُ خَلِيلًا . ثُمَّ إنَّهُ نَاظَرَ الْمُشْرِكِينَ بِعِبَادَةِ مَنْ لَا يُوصَفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ . فَقَالَ لِأَبِيهِ : { يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا } . وَقَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ : { مَا تَعْبُدُونَ } { قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ } { قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إذْ تَدْعُونَ } { أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ } إلَى قَوْلِهِ { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } { وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } { وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } إلَى آخَرِ الْكَلَامِ . وَقَالَ : { إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } وَقَالَ : { إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ } { إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } فَإِبْرَاهِيمُ دَعَا إلَى الْفِطْرَةِ . وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ . وَهُوَ الْإِسْلَامُ الْعَامُّ وَالْإِقْرَارُ بِصِفَاتِ الْكَلِمَاتِ لِلَّهِ وَالرَّدِّ عَلَى مَنْ عَبَدَ مَنْ سَلَبَهَا . فَلَمَّا عَابَهُمْ بِعِبَادَةِ مِنْ لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ قَالَ : { رَبَّنَا إنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ } { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ } وَلَمَّا عَابَهُمْ بِعِبَادَةِ مَنْ لَا يُغْنِي شَيْئًا فَلَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ قَالَ : { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } { وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } { وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } { وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَحْتَاجُ إلَى جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ لِقَلْبِهِ وَجِسْمِهِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْ ذَلِكَ . وَهُوَ أَمْرُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا . فَمَنْفَعَةُ الدِّينِ الْهُدَى ; وَمَضَرَّتُهُ الذُّنُوبُ وَدَفْعُ الْمَضَرَّةِ الْمَغْفِرَةُ . وَلِهَذَا جَمَعَ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ . وَمَنْفَعَةُ الْجَسَدِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ ; وَمَضَرَّتُهُ الْمَرَضُ وَدَفْعُ الْمَضَرَّةِ الشِّفَاءُ . وَأَخْبَرَ أَنَّ رَبَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَأَنَّهُ فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ . وَإِحْيَاؤُهُ فَوْقَ كَمَالِهِ بِأَنَّهُ حَيٌّ . وَأَنَّهُ فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ يَقْتَضِي إمْسَاكَهَا وَقِيَامَهَا الَّذِي هُوَ فَوْقَ كَمَالِهِ بِأَنَّهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ حَيْثُ قَالَ عَنْ النُّجُومِ { لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } فَإِنَّ الْآفِلَ هُوَ الَّذِي يَغِيبُ تَارَةً وَيَظْهَرُ تَارَةً فَلَيْسَ هُوَ قَائِمًا عَلَى عَبْدِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ . وَاَلَّذِينَ يَعْبُدُونَ مَا سِوَى اللَّه مِنْ الْكَوَاكِبِ وَنَحْوِهَا وَيَتَّخِذُونَهَا أَوْثَانًا يَكُونُونَ فِي وَقْتِ الْبُزُوغِ طَالِبِينَ سَائِلِينَ وَفِي وَقْتِ الْأُفُولِ لَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُمْ وَلَا مُرَادُهُمْ . فَلَا يَجْتَلِبُونَ مَنْفَعَةً وَلَا يَدْفَعُونَ مَضَرَّةً وَلَا يَنْتَفِعُونَ إذْ ذَاكَ بِعِبَادَةِ . فَبَيَّنَ مَا فِي الْآلِهَةِ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ النَّقْصِ وَبَيَّنَّ مَا لِرَبِّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ الْكَمَالِ بِأَنَّهُ الْخَالِقُ الْفَاطِرُ الْعَلِيمُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الْهَادِي الرَّازِقُ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ . وَسَمَّى رَبَّهُ بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى الدَّالَّةِ عَلَى نُعُوتِ كَمَالِهِ فَقَالَ : { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وَقَالَ : { فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَقَالَ : { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا } فَوَصَفَ رَبَّهُ بِالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ الْمُنَاسِبِ لِمَعْنَى الْخُلَّةِ كَمَا قَالَ { إنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا } وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ خَاصَمَ فِرْعَوْنَ الَّذِي جَحَدَ الرُّبُوبِيَّةَ وَالرِّسَالَةَ وَقَالَ : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } و { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي } . وَقِصَّتُهُ فِي الْقُرْآنِ مُثَنَّاةٌ مَبْسُوطَةٌ لَا يَحْتَاجُ هَذَا الْمَوْضِعُ إلَى بَسْطِهَا . وَقَرَّرَ أَيْضًا أَمْرَ الرُّبُوبِيَّةِ وَصِفَاتِ الْكَمَالِ لِلَّهِ وَنَفَى الشِّرْكَ . وَلَمَّا اتَّخَذَ قَوْمُهُ الْعِجْلَ بَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ صِفَاتِ النَّقْصِ الَّتِي تُنَافِي الْأُلُوهِيَّةَ فَقَالَ : { وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ } . وَقَالَ : { فَقَالُوا هَذَا إلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ } { أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا } { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ } فَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ صَوَّتَ صَوْتًا هُوَ خُوَارٌ فَإِنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ قَوْلًا وَأَنَّهُ لَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا . وَكَذَلِكَ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ فِي الشِّرْكِ عُمُومًا وَخُصُوصًا فَقَالَ : { أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } { وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ } { وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ } { إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ } وَاسْتَفْهَمَ اسْتِفْهَامَ إنْكَارٍ وَجُحُودٍ لِطُرُقِ الْإِدْرَاكِ التَّامِّ وَهُوَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ . وَالْعَمَلُ التَّامُّ وَهُوَ الْيَدُ وَالرِّجْلُ كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَخْبَرَ فِيمَا رَوَى عَنْهُ رَسُولُهُ عَنْ أَحْبَابِهِ الْمُتَقَرِّبِينَ إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ فَقَالَ : { وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ . فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا } .