مسألة تالية
متن:
فَصْلٌ فَإِذَا كَانَ الضَّلَالُ فِي الْقَدَرِ حَصَلَ تَارَةً بِالتَّكْذِيبِ بِالْقَدَرِ وَالْخَلْقِ . وَتَارَةً بِالتَّكْذِيبِ بِالشَّرْعِ وَالْوَعِيدِ وَتَارَةً بِتَظْلِيمِ الرَّبِّ كَانَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ رَدًّا عَلَى هَذِهِ الطَّوَائِفِ كُلِّهَا . فَقَوْلُهُ تَعَالَى { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } إثْبَاتٌ لِلْقَدَرِ بِقَوْلِهِ " فَأَلْهَمَهَا " ; وَإِثْبَاتٌ لِفِعْلِ الْعَبْدِ بِإِضَافَةِ الْفُجُورِ وَالتَّقْوَى إلَى نَفْسِهِ لِيَعْلَمَ أَنَّهَا هِيَ الْفَاجِرَةُ وَالْمُتَّقِيَةُ ; وَإِثْبَاتٌ لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِقَوْلِهِ { فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } . وَقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } { وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } إثْبَاتٌ لِفِعْلِ الْعَبْدِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بِفَلَاحِ مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ وَخَيْبَةِ مَنْ دَسَّاهَا . وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَعَلَى الْجَبْرِيَّةِ لِلشَّرْعِ أَوْ لِفِعْلِ الْعَبْدِ وَهُمْ الْمُكَذِّبُونَ بِالْحَقِّ . وَأَمَّا الْمُظْلِمُونَ لِلْخَالِقِ فَإِنَّهُ قَدْ دَلَّ عَلَى عَدْلِهِ بِقَوْلِهِ { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } وَالتَّسْوِيَةُ : التَّعْدِيلُ . فَبَيَّنَ أَنَّهُ عَادِلٌ فِي تَسْوِيَةِ النَّفْسِ الَّتِي أَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . وَذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ عُقُوبَةَ مَنْ كَذَّبَ رُسُلَهُ وَطَغَى وَأَنَّهُ لَا يَخَافُ عَاقِبَةَ انْتِقَامِهِ مِمَّنْ خَالَفَ رُسُلَهُ لِيُبَيِّنَ أَنَّ مَنْ كَذَّبَ بِهَذَا أَوْ بِهَذَا فَإِنَّ اللَّهَ يَنْتَقِمُ مِنْهُ وَلَا يَخَافُ عَاقِبَةَ انْتِقَامِهِ كَمَا انْتَقَمَ مِنْ إبْلِيسِ وَجُنُودِهِ وَأَنَّ تَظَلُّمَهُ مِنْ رَبِّهِ وَتَسْفِيهَهُ لَهُ إنَّمَا يُهْلِكُ بِهِ نَفْسَهُ وَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا . فَإِنَّ الْعِبَادَ لَنْ يَبْلُغُوا ضُرَّ اللَّهِ فَيَضُرُّوهُ وَلَنْ يَبْلُغُوا نَفْعَهُ فَيَنْفَعُوهُ وَلَوْ أَنَّ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ وَإِنْسَهُمْ وَجِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِهِ شَيْئًا وَلَوْ أَنَّ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ وَإِنْسَهُمْ وَجِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِهِ شَيْئًا . وَلِهَذَا لَمَّا سَأَلَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ أَبَا الْأُسُودِ الدؤلي عَنْ ذَلِكَ لِيَحْزِرَ عَقْلَهُ " هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ ظُلْمًا ؟ " فَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْهُ ظُلْمًا وَخَافَ مِنْ قَوْلِهِ { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا } وَذَكَرَ حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتِشْهَادَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ . وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ الْخَائِضِينَ بِالْبَاطِلِ إمَّا أَنْ يَكُونُوا مُكَذِّبِينَ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّبُّ مِنْ خَلْقِهِ أَوْ أَمْرِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا مُظْلِمِينَ لَهُ فِي حُكْمِهِ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ الصَّادِقُ الْعَدْلُ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } . فَإِنَّ الْكَلَامَ إمَّا إنْشَاءٌ وَإِمَّا إخْبَارٌ . فَالْإِخْبَارُ صِدْقٌ لَا كَذِبٌ ; وَالْإِنْشَاءُ أَمْرُ التَّكْوِينِ وَأَمْرُ التَّشْرِيعِ عَدْلٌ لَا ظُلْمٌ . وَالْقَدَرِيَّةُ الْمَجُوسِيَّةُ كَذَّبُوا بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ خَلْقِهِ وَشَرْعِهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ والإبليسية جَعَلُوهُ ظَالِمًا فِي مَجْمُوعِهِمَا أَوْ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا . وَقَدْ ظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُفْتَرِقِينَ الْمُخْتَلِفِينَ مِنْ الْأُمَّةِ إنَّمَا ذَلِكَ بِتَرْكِهِمْ بَعْضَ الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ وَأَخْذِهِمْ بَاطِلًا يُخَالِفُهُ وَاشْتِرَاكِهِمْ فِي بَاطِلٍ يُخَالِفُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ . وَهُوَ مِنْ جِنْسِ مُخَالِفَةِ الْكُفَّارِ لِلْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } إلَى قَوْلِهِ { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } . فَإِذَا اشْتَرَكُوا فِي بَاطِلٍ خَالَفُوا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِلرُّسُلِ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَلْقَى بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي حَقٍّ آخَرَ جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَآمَنِ هَؤُلَاءِ بِبَعْضِهِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِهِ وَالْآخَرُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا كَفَرَ بِهِ هَؤُلَاءِ وَيَكْفُرُونَ بِمَا يُؤْمِنُ بِهِ هَؤُلَاءِ . وَهُنَا كِلَا الطَّائِفَتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْن الْمُفْتَرِقَتَيْن مَذْمُومَةٌ . وَهَذَا شَأْنُ عَامَّةِ الِافْتِرَاقِ وَالِاخْتِلَافِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَغَيْرِهَا . وَهَذَا مِنْ ذَلِكَ . فَإِنَّهُمْ اشْتَرَكُوا [ فِي أَنَّ كَوْنَ الرَّبِّ خَالِقًا لِفِعْلِ الْعَبْدِ يُنَافِي كَوْنَ فِعْلِهِ مُنْقَسِمًا إلَى حَسَنٍ وَقَبِيحٍ . وَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ اشْتَرَكُوا فِيهَا جَدَلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ حَقًّا فِي نَفْسِهَا أَوْ عَلَيْهَا حُجَّةٌ مُسْتَقِيمَةٌ . وَهِيَ إحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ الَّتِي يَعْتَمِدُهَا الرازي فِي مَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ . فَإِنَّهُ اعْتَقَدَ فِي " مَحْصُولِهِ " وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ مَجْبُورٌ عَلَى فِعْلِهِ وَالْمَجْبُورُ لَا يَكُونُ فِعْلُهُ قَبِيحًا فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ قَبِيحًا . وَهَذِهِ الْحُجَّةُ بِنَفْيٍ ذَلِكَ أَصْلُهَا حُجَّةُ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ الَّذِينَ قَالُوا { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } فَإِنَّهُمْ نَفَوْا قُبْحَ الشِّرْكِ وَتَحْرِيمَ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ مِنْ الطَّيِّبَاتِ بِإِثْبَاتِ الْقَدَرِ . لَكِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَحْتَجُّونَ بِالْجَبْرِ عَلَى نَفْيِ الْأَحْكَامِ إذَا أَقَرُّوا بِالشَّرْعِ لَمْ يَكُونُوا مِثْلَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ . وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ الْمُتَكَلِّمُونَ الْمُقِرُّونَ بِالشَّرِيعَةِ كَالْمُشْرِكِينَ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ جُزْءٌ مِنْ بَاطِلٍ الْمُشْرِكِينَ . لَكِنْ يُوجَدُ فِي الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمُتَصَوِّفَةِ طَوَائِفُ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ الْجَبْرُ حَتَّى يَكْفُرُوا حِينَئِذٍ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ إمَّا قَوْلًا وَإِمَّا حَالًا وَعَمَلًا . وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ ذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي تُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ يَطْلُبُونَ بِذَلِكَ إسْقَاطَ اللَّوْمِ وَالْعِقَابِ عَنْهُمْ وَلَا يَزِيدُهُمْ ذَلِكَ إلَّا ذَمًّا وَعِقَابًا كَالْمُسْتَجِيرِ مِنْ الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ . فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يُطَرَّدُ الْعَمَلُ بِهِ لِأَحَدِ إذْ لَا غِنَى لِبَنِي آدَمَ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مِنْ إرَادَةِ شَيْءٍ وَالْأَمْرِ بِهِ وَبُغْضِ شَيْءٍ وَالنَّهْيِ عَنْهُ . فَمَنْ طَلَبَ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَ الْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ وَالْمَرْضِيِّ وَالْمَسْخُوطِ وَالْعَدْلِ وَالظُّلْمِ وَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَالْهُدَى وَالرُّشْدِ وَالْغَيِّ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَمِرُّ عَلَى ذَلِكَ أَبَدًا . بَلْ إذَا حَصَلَ لَهُ مَا يَكْرَهُهُ وَيُؤْذِيهِ فَرَّ إلَى دَفْعِ ذَلِكَ وَعُقُوبَةُ فَاعِلِهِ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْتَدِيَ فِي ذَلِكَ . فَهُمْ مِنْ أَظْلَمِ الْخَلْقِ فِي تَفْرِيقِهِمْ بَيْنَ الْقَبِيحِ مِنْ الظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ وَمِمَّنْ يَهْوُونَهُ وَمَنْ لَا يَهْوُونَهُ وَاحْتِجَاجُهُمْ بِالْقَدَرِ لِأَنْفُسِهِمْ دُونَ خُصُومِهِمْ . وَتَجِدُ أَحَدَهُمْ عِنْدَ فِعْلِ مَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ يَغْلِبُ عَلَى قَلْبِهِ حَالُ أَهْلِ الْقَدَرِ فَيَجْعَلُ نَفْسَهُ هُوَ الْمُحْدِثُ لِذَلِكَ دُونَ اللَّهِ وَيَنْسَى نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي إلْهَامِهِ إيَّاهُ تَقْوَاهُ . وَهَذَا مِنْ أَظْلَمِ الْخَلْقِ كَمَا قَالَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِيٌّ وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِيٌّ أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاك تَمَذْهَبْت بِهِ . وَأَهْلُ الْعَدْلِ ضِدُّ ذَلِكَ . إذَا فَعَلُوا حَسَنَةً شَكَرُوا اللَّهَ عَلَيْهَا لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي حَبَّبَ إلَيْهِمْ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَرَّهَ إلَيْهِمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ; { إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } . فَاتَّبَعُوا أَبَاهُمْ حَيْثُ أَذْنَبَ : { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } وَقَالَ { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } . وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ " أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي " كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ . خَلَقْتِنِي وَأَنَا عَبْدُك وَأَنَا عَلَى عَهْدِك وَوَعْدِك مَا اسْتَطَعْت أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْت . أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ ; وَأَبُوءُ بِذَنْبِي . فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ } . وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَيْضًا { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ تُرَدُّ عَلَيْكُمْ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ شَرًّا فَلَا يَلُومَن إلَّا نَفْسَهُ } . وَيَقُولُونَ بِمُوجَبِ قَوْله تَعَالَى { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } . قَالَ [ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ . ذَكَرَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ثَمُودَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ فَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تيمية : هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى . فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ أَخَفُّ ذَنْبًا وَعَذَابًا مِنْهُمْ إذْ لَمْ يَذْكُرُ عَنْهُمْ مِنْ الذُّنُوبِ مَا ذَكَرَ عَنْ عَادٍ وَمَدْيَنَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَغَيْرِهِمْ . وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَهُمْ وَعَادًا قَالَ { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } وَكَذَلِكَ إذَا ذَكَرَهُمْ مَعَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لَمْ يَذْكُرْ عَنْهُمْ مَا يَذْكُرُ عَنْ أُولَئِكَ مِنْ التَّجَبُّرِ وَالتَّكَبُّرِ وَالْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ كَاللِّوَاطِ وَبَخْسِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ كَمَا فِي سُورَةِ هُودٍ وَالشُّعَرَاءِ وَغَيْرِهِمَا . فَكَانَ فِي قَوْمِ لُوطٍ مَعَ الشِّرْكِ إتْيَانُ الْفَوَاحِشِ الَّتِي لَمْ يُسْبَقُوا إلَيْهَا ; وَفِي عَادٍ مَعَ الشِّرْكِ التَّجَبُّرُ وَالتَّكَبُّرُ وَالتَّوَسُّعُ فِي الدُّنْيَا وَشِدَّةُ الْبَطْشِ وَقَوْلُهُمْ { مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } وَفِي أَصْحَابِ مَدْيَنَ مَعَ الشِّرْكِ الظُّلْمُ فِي الْأَمْوَالِ ; وَفِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ وَالْعُلُوُّ . وَكَانَ عَذَابُ كُلِّ أُمَّةٍ بِحَسَبِ ذُنُوبِهِمْ وَجَرَائِمِهِمْ . فَعُذِّبَ قَوْمُ عَادٍ بِالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ الْعَاتِيَةِ الَّتِي لَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ ; وَعُذِّبَ قَوْمُ لُوطٍ بِأَنْوَاعٍ مِنْ الْعَذَابِ لَمْ يُعَذَّبْ بِهَا أُمَّةٌ غَيْرُهُمْ . فَجَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ الْهَلَاكِ وَالرَّجْمِ بِالْحِجَارَةِ مِنْ السَّمَاءِ وَطَمْسِ الْأَبْصَارِ وَقَلْبِ دِيَارِهِمْ عَلَيْهِمْ بِأَنْ جَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَالْخَسْفِ بِهِمْ إلَى أَسْفَلَ سَافِلِينَ . وَعَذَّبَ قَوْمَ شُعَيْبٍ بِالنَّارِ الَّتِي أَحْرَقَتْهُمْ وَأَحْرَقَتْ تِلْكَ الْأَمْوَالَ الَّتِي اكْتَسَبُوهَا بِالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ . وَأَمَّا ثَمُودُ فَأَهْلَكَهُمْ بِالصَّيْحَةِ فَمَاتُوا فِي الْحَالِ . فَإِذَا كَانَ هَذَا عَذَابَهُ لِهَؤُلَاءِ وَذَنْبُهُمْ مَعَ الشِّرْكَ عَقْرُ النَّاقَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ آيَةً لَهُمْ فَمَنْ انْتَهَكَ مَحَارِمَ اللَّهِ وَاسْتَخَفَّ بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَعَقَرَ عِبَادَهُ وَسَفَكَ دِمَاءَهُمْ كَانَ أَشَدَّ عَذَابًا . وَمَنْ اعْتَبَرَ أَحْوَالَ الْعَالَمِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَمَا يُعَاقَبُ بِهِ مَنْ يَسْعَى فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ وَسَفْكِ الدِّمَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَأَقَامَ الْفِتَنَ وَاسْتَهَانَ بِحُرُمَاتِ اللَّهِ عَلِمَ أَنَّ النَّجَاةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ .