مسألة تالية
متن:
سُورَةُ الْعَلَقِ وَقَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ فَصْلٌ فِي بَيَانِ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ بَيَانُ أُصُولِ الدِّينِ وَهِيَ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى ثُبُوتِ الصَّانِعِ وَتَوْحِيدِهِ وَصِدْقِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الْمُعَادِ إمْكَانًا وَوُقُوعًا . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ هَذَا الْأَصْلَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ وَالسَّمْعِيَّةَ الَّتِي يَهْتَدِي بِهَا النَّاسُ إلَى دِينِهِمْ وَمَا فِيهِ نَجَاتُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَنَّ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا أُصُولًا تُخَالِفُ بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ هِيَ أُصُولُ دِينِهِمْ لَا أُصُولُ دِينِهِ . وَهِيَ بَاطِلَةٌ عَقْلًا وَسَمْعًا كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . وَبَيَّنَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ قَاصِرُونَ أَوْ مُقَصِّرُونَ فِي مَعْرِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ . فَطَائِفَةٌ قَدْ ابْتَدَعَتْ أُصُولًا تُخَالِفُ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ هَذَا وَهَذَا . وَطَائِفَةٌ رَأَتْ أَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةً فَأَعْرَضَتْ عَنْهُ وَصَارُوا يَنْتَسِبُونَ إلَى السُّنَّةِ لِسَلَامَتِهِمْ مِنْ بِدْعَةِ أُولَئِكَ . وَلَكِنْ هُمْ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَتَّبِعُوا السُّنَّةَ عَلَى وَجْهِهَا وَلَا قَامُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ . بَلْ الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ مِنْ السَّمْعِيَّاتِ مِمَّا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ رَبِّهِ وَعَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ غَايَتُهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِلَفْظِهِ مِنْ غَيْرِ تَصَوُّرٍ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ . بَلْ قَدْ يَقُولُونَ مَعَ هَذَا إنَّهُ نَفْسُهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَعْنَى مَا أَخْبَرَ بِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ هُوَ تَأْوِيلُ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . وَأَمَّا الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ فَقَدْ لَا يَتَصَوَّرُونَ أَنَّهُ أَتَى بِالْأُصُولِ الْعَقْلِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا يُخْبِرُ بِهِ كَالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُقِرُّ بِأَنَّهُ جَاءَ بِهَذَا مُجْمَلًا وَلَا يَعْرِفُ أَدِلَّتَهُ . بَلْ قَدْ يَظُنُّ أَنَّ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ كَالِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ عَلَى حُدُوثِ جَوَاهِرِهِ هُوَ دَلِيلُ الرَّسُولِ . وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ فِي ذَلِكَ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْلَمَ بِالْعَقْلِ كَالْمُعَادِ وَحُسْنِ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالصِّدْقِ وَقُبْحِ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالْكَذِبِ . وَالْقُرْآنُ يُبَيِّنُ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ . وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْتَدِلَّ بِهَا . وَيُبَيِّنُ أَنَّهُ بِالْعَقْلِ يَعْرِفُ الْمُعَادَ وَحُسْنَ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَحُسْنَ شُكْرِهِ وَقُبْحَ الشِّرْكِ وَكُفْرَ نِعَمِهِ كَمَا قَدْ بَسَطْت الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ . وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَكُونُ هَذَا فِي فِطْرَتِهِ وَهُوَ يُنْكِرُ تَحْسِينَ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحَهُ إذَا صُنِّفَ فِي أُصُولِ الدِّينِ عَلَى طَرِيقَةِ النفاة الْجَبْرِيَّةِ أَتْبَاعِ جَهْمٍ . وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي عَامَّةِ مَا يَقُولُهُ الْمُبْطِلُونَ يَقُولُونَ بِفِطْرَتِهِمْ مَا يُنَاقِضُ مَا يَقُولُونَهُ فِي اعْتِقَادِهِمْ الْبِدْعِيِّ . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ الْجَدِّ الْأَعْلَى أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الْفَرَجِ ابْنَ الْجَوْزِيِّ يُنْشِدُ فِي مَجْلِسِ وَعْظِهِ الْبَيْتَيْنِ الْمَعْرُوفَيْنِ : هَبْ الْبَعْثَ لَمْ تَأْتِنَا رُسُلُهُ وَجَاحِمَةُ النَّارِ لَمْ تُضْرَمْ أَلَيْسَ مِنْ الْوَاجِبِ الْمُسْتَحَقِّ حَيَاءُ الْعِبَادِ مِنْ الْمُنْعِمِ ؟ فَقَدْ صَرَّحَ فِي هَذَا بِأَنَّهُ مِنْ الْوَاجِبِ الْمُسْتَحَقِّ حَيَاءُ الْخَلْقِ مِنْ الْخَالِقِ الْمُنْعِمِ . وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ شُكْرَهُ وَاجِبٌ مُسْتَحَقٌّ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ وَعِيدٌ وَلَا رِسَالَةٌ أَخْبَرَتْ بِجَزَاءِ . وَهُوَ يُبَيِّنُ ثُبُوتَ الْوُجُوبِ وَالِاسْتِحْقَاقِ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ لَا عَذَابَ . وَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا أَنَّ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ . وَنَتِيجَةُ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ انْخِفَاضُ الْمَنْزِلَةِ وَسَلْبُ كَثِيرٍ مِنْ النِّعَمِ الَّتِي كَانَ فِيهَا وَإِنْ كَانَ لَا يُعَاقَبُ بِالضَّرَرِ . وَيُبَيِّنُ أَنَّ الْوُجُوبَ وَالِاسْتِحْقَاقَ يُعْلَمُ بِالْبَدِيهَةِ . فَتَارِكُ الْوَاجِبِ وَفَاعِلُ الْقَبِيحِ وَإِنْ لَمْ يُعَذَّبْ بِالْآلَامِ كَالنَّارِ فَيُسْلَبُ مِنْ النِّعَمِ وَأَسْبَابِهِ مَا يَكُونُ جَزَاءَهُ . وَهَذَا جَزَاءُ مَنْ لَمْ يَشْكُرْ النِّعْمَةَ بَلْ كَفَرَهَا أَنْ يُسْلَبَهَا . فَالشُّكْرُ قَيْدُ النِّعَمِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْمَزِيدِ . وَالْكُفْرُ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ مُوجِبٌ لِلْعَذَابِ وَقَبْلَ ذَلِكَ يُنْقِصُ النِّعْمَةَ وَلَا يَزِيدُ . مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إرْسَالِ رَسُولٍ يَسْتَحِقُّ مَعَهُ النَّعِيمَ أَوْ الْعَذَابَ فَإِنَّهُ مَا ثَمَّ دَارٌ إلَّا الْجَنَّةُ أَوْ النَّارُ . قَالَ تَعَالَى { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } { إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعَ .