مسألة تالية
متن:
فَصْلٌ وَقَدْ بَسَطْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ طُرُقَ النَّاسِ فِي إثْبَاتِ الصَّانِعِ وَالنُّبُوَّةِ [ و ] أَنَّ كُلَّ طَرِيقٍ تَتَضَمَّنُ مَا يُخَالِفُ السُّنَّةَ فَإِنَّهَا بَاطِلَةٌ فِي الْعَقْلِ كَمَا هِيَ مُخَالِفَةٌ لِلشَّرْعِ . وَالطَّرِيقُ الْمَشْهُورَةُ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ هُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِحُدُوثِ الْأَعْرَاضِ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ . وَقَدْ بَيَّنَّا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ . وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَعْلَمُ أَنَّهَا بِدْعَةٌ فِي الشَّرْعِ لَكِنْ لَا يَعْلَمُ فَسَادَهَا فِي الْعَقْلِ . وَبَعْضُهُمْ يَظُنُّ أَنَّهَا صَحِيحَةٌ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَأَنَّهَا طَرِيقَةُ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ . وَقَدْ بُيِّنَ فَسَادُ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ طَائِفَةً مِنْ النُّظَّارِ مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ أَرَادُوا سُلُوكَ سَبِيلِ السُّنَّةِ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ إلَّا هَذِهِ الطَّرِيقُ . فَاسْتَدَلُّوا بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ لَكِنْ لَمْ يَجْعَلُوا خَلْقَهُ دَلِيلًا كَمَا فِي الْآيَةِ ; بَلْ جَعَلُوهُ مُسْتَدَلًّا عَلَيْهِ . وَظَنُّوا أَنَّهُ يُعْرَفُ بِالْبَدِيهَةِ وَالْحِسِّ حُدُوثَ أَعْرَاضِ النُّطْفَةِ . وَأَمَّا جَوَاهِرُهَا فَاعْتَقَدُوا أَنَّ الْأَجْسَامَ كُلَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ وَأَنَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ إنَّمَا هُوَ إحْدَاثُ أَعْرَاضٍ فِي تِلْكَ الْجَوَاهِرِ بِجَمْعِهَا وَتَفْرِيقِهَا لَيْسَ هُوَ إحْدَاثَ عَيْنٍ . فَصَارُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَسْتَدِلُّوا عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مَخْلُوقٌ . ثُمَّ إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ قَالُوا : إنَّ لَهُ خَالِقًا . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ بِدَلِيلِ الْأَعْرَاضِ وَأَنَّ النُّطْفَةَ وَالْعَلَقَةَ وَالْمُضْغَةَ لَا تَنْفَكُّ مِنْ أَعْرَاضٍ حَادِثَةٍ . إذْ كَانَ عِنْدَهُمْ جَوَاهِرُ تُجْمَعُ تَارَةً وَتُفَرَّقُ أُخْرَى فَلَا تَخْلُو عَنْ اجْتِمَاعٍ وَافْتِرَاقٍ وَهُمَا حَادِثَانِ . فَلَمْ يَخْلُ الْإِنْسَانُ عَنْ الْحَوَادِثِ وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا . وَهَذِهِ هِيَ الطَّرِيقَةُ الَّتِي سَلَكَهَا الْأَشْعَرِيُّ فِي " اللُّمَعِ فِي الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ " وَشَرَحَهُ أَصْحَابُهُ شُرُوحًا كَثِيرَةً . وَكَذَلِكَ فِي " رِسَالَتِهِ إلَى أَهْلِ الثَّغْرِ " . وَذَكَرَ قَوْله تَعَالَى { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ } { أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ } فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مَخْلُوقٌ بِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الَّتِي لَا تَخْلُو مِنْ اجْتِمَاعٍ وَافْتِرَاقٍ فَلَمْ تَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهِيَ حَادِثَةٌ . وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ مُقْتَضِيَةٌ مِنْ كَوْنِ الْأَجْسَامِ كُلِّهَا كَذَلِكَ . وَتِلْكَ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمَشْهُورَةُ الَّتِي يَسْلُكُهَا الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد كَمَا ذَكَرَهَا الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا . وَذَكَرَهَا أَبُو الْمَعَالِي الجويني وَصَاحِبُ " التَّتِمَّةِ " وَغَيْرُهُمَا . وَذَكَرَهَا أَبُو الْوَلِيدِ الباجي وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيّ وَغَيْرُهُمَا . وَذَكَرَهَا أَبُو مَنْصُورٍ الماتريدي وَالصَّابُونِيّ . وَغَيْرُهُمَا . لَكِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَدَلُّوا بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ فَرَضُوا ذَلِكَ فِي الْإِنْسَانِ ظَنًّا أَنَّ هَذِهِ طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ . وَطَوَّلُوا فِي ذَلِكَ وَدَقَّقُوا حَتَّى اسْتَدَلُّوا عَلَى كَوْنِ عَيْنِ الْإِنْسَانِ وَجَوَاهِرِهِ مَخْلُوقَةً لِظَنِّهِمْ أَنَّ الْمَعْلُومَ بِالْحِسِّ وَبَدِيهَةِ الْعَقْلِ إنَّمَا هُوَ حُدُوثُ أَعْرَاضٍ لَا حُدُوثُ جَوَاهِرَ . وَزَعَمُوا أَنَّ كُلَّ مَا يُحْدِثُهُ اللَّهُ مِنْ السَّحَابِ وَالْمَطَرِ وَالزَّرْعِ وَالثَّمَرِ وَالْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ فَإِنَّمَا يُحْدِثُ فِيهِ أَعْرَاضًا وَهِيَ جَمْعُ الْجَوَاهِرِ الَّتِي كَانَتْ مَوْجُودَةً وَتَفْرِيقُهَا . وَزَعَمُوا أَنَّ أَحَدًا لَا يَعْلَمُ حُدُوثَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْيَانِ بِالْمُشَاهَدَةِ وَلَا بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَإِنَّمَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إذَا اسْتَدَلَّ كَمَا اسْتَدَلُّوا . فَقَالُوا : هَذِهِ أَعْرَاضٌ حَادِثَةٌ فِي جَوَاهِرَ وَتِلْكَ الْجَوَاهِرُ لَمْ تَخْلُ مِنْ الْأَعْرَاضِ لِامْتِنَاعِ خُلُوِّ الْجَوَاهِرِ مِنْ الْأَعْرَاضِ . ثُمَّ قَالُوا : وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ . وَهَذَا بَنَوْهُ عَلَى أَنَّ الْأَجْسَامَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْقِسْمَةَ وَقَالُوا : إنَّ الْأَجْسَامَ لَا يَسْتَحِيلُ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ . وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَأَنْوَاعِ الْعُلَمَاءِ وَأَكْثَرِ النُّظَّارِ يُخَالِفُونَ هَؤُلَاءِ فِيمَا يُثْبِتُونَ مِنْ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ وَيُثْبِتُونَ اسْتِحَالَةَ الْأَجْسَامِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ وَيَقُولُونَ بِأَنَّ الرَّبَّ لَا يَزَالُ يُحْدِثُ الْأَعْيَانَ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ . وَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الطَّرِيقُ بَاطِلَةً عَقْلًا وَشَرْعًا وَهِيَ مُكَابَرَةٌ لِلْعَقْلِ . فَإِنَّ كَوْنَ الْإِنْسَانِ مَخْلُوقًا مُحْدَثًا كَائِنًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ أَمْرَ مَعْلُومٍ بِالضَّرُورَةِ لِجَمِيعِ النَّاسِ . وَكُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ حَدَثَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّ عَيْنَهُ حَدَثَتْ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا } وَقَالَ تَعَالَى { أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا } لَيْسَ هَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ أَبْيَنُ وَأَوْضَحُ مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ صَحِيحًا . فَكَيْفَ إذَا كَانَ بَاطِلًا . وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الْحَادِثَ أَعْرَاضٌ فَقَطْ وَإِنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ قَوْلَانِ بَاطِلَانِ لَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُمَا . بَلْ يُعْلَمُ بُطْلَانُهُمَا . وَيُعْلَمُ حُدُوثُ جَوْهَرِ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَادَّةِ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا وَهِيَ الْعَلَقُ كَمَا قَالَ { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } . وَكَوْنُهُ مُرَكَّبًا مِنْ جَوَاهِرَ فَرِدَّةٌ لَيْسَ صَحِيحًا . وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا إلَّا بِأَدِلَّةِ دَقِيقَةٍ لَا تَكُونُ هِيَ أَصْلَ الدِّينِ الَّذِي هُوَ مُقَدِّمَاتٌ أَوَّلِيَّةٌ . فَإِنَّ تِلْكَ الْمُقَدِّمَاتِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ بَيِّنَةً أَوَّلِيَّةً مَعْلُومَةً بِالْبَدِيهَةِ . فَطَرِيقُهُمْ تَضْمَنُ جَحْدَ الْمَعْلُومِ وَهُوَ حُدُوثُ الْأَعْيَانِ الْحَادِثَةِ وَهَذَا مَعْلُومٌ لِلْخَلْقِ ; وَإِثْبَاتُ مَا لَيْسَ بِمَعْلُومِ بَلْ هُوَ بَاطِلٌ ; وَأَنَّ الْأَحْدَاثَ لَهَا إنَّمَا [ هُوَ ] جَمْعٌ وَتَفْرِيقٌ لِلْجَوَاهِرِ وَأَنَّهُ إحْدَاثُ أَعْرَاضٍ فَقَطْ . وَلِهَذَا كَانَ اسْتِدْلَالُهُمْ بِطَرِيقَةِ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِمَّا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ أَئِمَّةُ الدِّينِ وَبَيَّنُوا أَنَّهُمْ مُبْتَدِعُونَ فِي ذَلِكَ بَلْ بَيَّنُوا ضَلَالَهُمْ شَرْعًا وَعَقْلًا كَمَا بُسِطَ كَلَامُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ إذْ هُوَ كَثِيرٌ . فَالْقُرْآنُ اسْتَدَلَّ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ لِلْخَلْقِ مِنْ أَنَّهُ { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } . وَهَؤُلَاءِ جَاءُوا إلَى هَذَا الْمَعْلُومِ فَزَعَمُوا أَنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ بَلْ هُوَ مَشْكُوكٌ فِيهِ . ثُمَّ زَعَمُوا أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ الدَّلِيلَ الَّذِي بِهِ يَصِيرُ مَعْلُومًا . فَذَكَرُوا دَلِيلًا بَاطِلًا لَا يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهِ بَلْ يُظَنُّ أَنَّهُ دَلِيلٌ وَهُوَ شُبْهَةٌ وَلَهَا لَوَازِمُ فَاسِدَةٌ . فَأَنْكَرُوا الْمَعْلُومَ بِالْعَقْلِ ثُمَّ الشَّرْعِ وَادَّعَوْا طَرِيقًا مَعْلُومَةً بِالْعَقْلِ وَهِيَ بَاطِلَةٌ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ . فَضَاهَوْا الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } . وَكَذَلِكَ فِي إثْبَاتِ النُّبُوَّاتِ وَإِمْكَانِهَا وَفِي إثْبَاتِ الْمُعَادِ وَإِمْكَانِهِ عَدَلُوا عَنْ الطَّرِيقِ الْهَادِيَةِ الَّتِي تُوجِبُ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ الَّتِي هَدَى اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ إلَى طَرِيقٍ تُورِثُ الشَّكَّ وَالشُّبْهَةَ وَالْحَيْرَةَ . وَلِهَذَا قِيلَ : غَايَةُ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُبْتَدِعِينَ الشَّكُّ وَغَايَةُ الصُّوفِيَّةِ الْمُبْتَدِعِينَ الشَّطْحُ . ثُمَّ لَهَا لَوَازِمُ بَاطِلَةٌ مُخَالِفَةٌ لِلْعَقْلِ وَالشَّرْعِ فَأَلْزَمُوا لَوَازِمَهَا الَّتِي أَوْجَبَتْ لَهُمْ السَّفْسَطَةَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالْقَرْمَطَةِ فِي السَّمْعِيَّاتِ . وَتَكَلَّمُوا فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَالْمُعَادِ وَدَلَائِلِ الرُّبُوبِيَّةِ بِأُمُورِ وَزَعَمُوا أَنَّهَا أَدِلَّةٌ وَهِيَ عِنْدُ التَّحْقِيقِ لَيْسَتْ بِأَدِلَّةِ . وَلِهَذَا يَطْعَنُ بَعْضُهُمْ فِي أَدِلَّةِ بَعْضٍ . وَإِذَا اسْتَدَلُّوا بِدَلِيلِ صَحِيحٍ فَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ إنْ تَنَوَّعَتْ الْعِبَارَاتُ . وَلِهَذَا قَدْ يَسْتَدِلُّ بَعْضُهُمْ بِدَلِيلِ إمَّا صَحِيحٌ وَإِمَّا غَيْرُ صَحِيحٍ فَيَطْعَنُ فِيهِ آخَرُ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ يَذْكُرُ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَيَكُونُ الَّذِي يَذْكُرُهُ دُونَ مَا ذَكَرَهُ ذَاكَ . وَهَذَا يُصِيبُهُمْ كَثِيرًا فِي الْحُدُودِ يَطْعَنُ هَؤُلَاءِ فِي حَدِّ هَؤُلَاءِ وَيَذْكُرُونَ حَدًّا مِثْلَهُ أَوْ دُونَهُ . وَتَكُونُ الْحُدُودُ كُلُّهَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَهِيَ صَحِيحَةٌ إذَا أُرِيدَ بِهَا التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمَحْدُودِ وَغَيْرِهِ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ الْحُدُودَ تُفِيدُ تَصْوِيرَ مَاهِيَّةِ الْمَحْدُودِ كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْمَنْطِقِ فَهَؤُلَاءِ غالطون ضَالُّونَ كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَإِنَّمَا الْحَدُّ مُعَرَّفٌ لِلْمَحْدُودِ وَدَلِيلٌ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ لَكِنَّهُ يَفْصِلُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْمُ بِالْإِجْمَالِ . فَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الطَّرِيقِ الْمُفِيدِ لِلْعِلْمِ وَالْيَقِينِ كَاَلَّتِي بَيَّنَّهَا الْقُرْآنُ وَبَيَّنَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ مِنْ طُرُقِ أَهْلِ الْبِدَعِ الْبَاطِلَةِ شَرْعًا وَعَقْلًا .