تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَصْلٌ قَوْلُهُ { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } . سَمَّى وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْكَرَمِ وَبِأَنَّهُ الْأَكْرَمُ بَعْدَ إخْبَارِهِ أَنَّهُ خَلَقَ لِيَتَبَيَّنَ أَنَّهُ يُنْعِمُ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ وَيُوصِلُهُمْ إلَى الْغَايَاتِ الْمَحْمُودَةِ كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } وَكَمَا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } وَكَمَا قَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } فَالْخَلْقُ يَتَضَمَّنُ الِابْتِدَاءَ وَالْكَرَمُ تَضَمَّنَ الِانْتِهَاءَ كَمَا قَالَ فِي أُمِّ الْقُرْآنِ { رَبِّ الْعَالَمِينَ } ثُمَّ قَالَ { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } وَلَفْظُ الْكَرَمِ لَفْظٌ جَامِعٌ لِلْمَحَاسِنِ وَالْمَحَامِدِ . لَا يُرَادُ بِهِ مُجَرَّدَ الْإِعْطَاءِ بَلْ الْإِعْطَاءُ مِنْ تَمَامِ مَعْنَاهُ فَإِنَّ الْإِحْسَانَ إلَى الْغَيْرِ تَمَامُ الْمَحَاسِنِ . وَالْكَرَمُ كَثْرَةُ الْخَيْرِ وَيَسْرَتُهُ . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُسَمُّوا الْعِنَبَ الْكَرْمَ فَإِنَّمَا الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ } . وَهُمْ سَمَّوْا الْعِنَبَ " الْكَرْمَ " لِأَنَّهُ أَنْفَعُ الْفَوَاكِهِ يُؤْكَلُ رَطْبًا وَيَابِسًا وَيُعْصَرُ فَيُتَّخَذُ مِنْهُ أَنْوَاعٌ . وَهُوَ أَعَمُّ وُجُودًا مِنْ النَّخْلِ يُوجَدُ فِي عَامَّةِ الْبِلَادِ وَالنَّخْلُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ . وَلِهَذَا قَالَ فِي رِزْقِ الْإِنْسَانِ { فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إلَى طَعَامِهِ } { أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا } { ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا } { فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا } { وَعِنَبًا وَقَضْبًا } { وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا } { وَحَدَائِقَ غُلْبًا } { وَفَاكِهَةً وَأَبًّا } { مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ } فَقَدَّمَ الْعِنَبَ . وَقَالَ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ { إنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا } { حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا } وَمَعَ هَذَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَسْمِيَتِهِ بِالْكَرْمِ وَقَالَ : { الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ } . فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا أَكْثَرُ وَلَا أَعْظَمُ خَيْرًا مِنْ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ . وَالشَّيْءُ الْحَسَنُ الْمَحْمُودُ يُوصَفُ بِالْكَرْمِ . قَالَ تَعَالَى { أَوَلَمْ يَرَوْا إلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : مِنْ كُلِّ جِنْسٍ حَسَنٍ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ : الزَّوْجُ النَّوْعُ وَالْكَرِيمُ الْمَحْمُودُ . وَقَالَ غَيْرُهُمَا { مِنْ كُلِّ زَوْجٍ } صِنْفٌ وَضَرْبٌ { كَرِيمٌ } حَسَنٌ مِنْ النَّبَاتِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ . يُقَالُ : " نَخْلَةٌ كَرِيمَةٌ " إذَا طَابَ حَمْلُهَا و " نَاقَةٌ كَرِيمَةٌ " إذَا كَثُرَ لَبَنُهَا . وَعَنْ الشَّعْبِيّ : النَّاسُ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ فَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ فَهُوَ كَرِيمٌ وَمَنْ دَخَلَ النَّارَ فَهُوَ لَئِيمٌ . وَالْقُرْآنُ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ النَّاسَ فِيهِمْ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ يُكْرِمُهُ وَفِيهِمْ مَنْ يُهِينُهُ . قَالَ تَعَالَى { إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى { وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ : { وَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ } . وَكَرَائِمُ الْأَمْوَالِ : الَّتِي تَكْرُمُ عَلَى أَصْحَابِهَا لِحَاجَتِهِمْ إلَيْهَا وَانْتِفَاعِهِمْ بِهَا مِنْ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا . وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ الْأَكْرَمُ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ وَالتَّعْرِيفِ لَهَا . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْأَكْرَمُ وَحْدَهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ " وَرَبُّك أَكْرَمُ " . فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ وَقَوْلُهُ { الْأَكْرَمُ } يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ . وَلَمْ يَقُلْ " الْأَكْرَمُ مِنْ كَذَا " بَلْ أَطْلَقَ الِاسْمَ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ الْأَكْرَمُ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِغَايَةِ الْكَرَمِ الَّذِي لَا شَيْءَ فَوْقَهُ وَلَا نَقْصَ فِيهِ . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ : ثُمَّ قَالَ لَهُ تَعَالَى { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } عَلَى جِهَةَ التَّأْنِيسِ كَأَنَّهُ يَقُولُ : امْضِ لِمَا أُمِرْت بِهِ وَرَبُّك لَيْسَ كَهَذِهِ الْأَرْبَابِ بَلْ هُوَ الْأَكْرَمُ الَّذِي لَا يَلْحَقُهُ نَقْصٌ فَهُوَ يَنْصُرُك وَيُظْهِرُك . ( قُلْت وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : " لَا يَهْدِيَنَّ أَحَدُكُمْ لِلَّهِ مَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَهْدِيَهُ لِكَرِيمِهِ فَإِنَّ اللَّهَ أَكْرَمُ الْكُرَمَاءِ " . أَيْ هُوَ أَحَقُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ بِالْإِكْرَامِ إذْ كَانَ أَكْرَمَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ . فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لَأَنْ يُجَلَّ وَلَأَنْ يُكْرَمَ . وَالْإِجْلَالُ يَتَضَمَّنُ التَّعْظِيمَ وَالْإِكْرَامُ يَتَضَمَّنُ الْحَمْدَ وَالْمَحَبَّةَ . وَهَذَا كَمَا قِيلَ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِ : إنَّهُ رُزِقَ حَلَاوَةً وَمَهَابَةً . وَفِي حَدِيثِ هِنْدِ بْنِ أَبِي هَالَةَ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ وَمَنْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةً أَحَبَّهُ } وَهَذَا لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَصِفُونَهُ بِالْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ . وَهُمْ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُ وَيَحْمَدُونَهُ وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لَأَنْ يُعْبَدَ دُونَ مَا سِوَاهُ وَالْعِبَادَةُ تَتَضَمَّنُ غَايَةَ الذُّلِّ وَغَايَةَ الْحُبِّ . وَأَنَّ الْمُنْكِرِينَ لِكَوْنِهِ يُحِبُّ مِنْ الجهمية وَمَنْ وَافَقَهُمْ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُمْ إنَّهُ يَفْعَلُ بِلَا حِكْمَةٍ وَلَا رَحْمَةٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُحْمَدُ . فَهُمْ إنَّمَا يَصِفُونَهُ بِالْقُدْرَةِ وَالْقَهْرِ . وَهَذَا إنَّمَا يَقْتَضِي الْإِجْلَالَ فَقَطْ لَا يَقْتَضِي الْإِكْرَامَ وَالْمَحَبَّةَ وَالْحَمْدَ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْأَكْرَمُ . قَالَ تَعَالَى { إنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } { إنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ } ثُمَّ قَالَ { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ } { ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ } { فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } وَقَالَ شُعَيْبٌ { وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ إنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ } وَفِي أَوَّلِ مَا نَزَّلَ وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ الَّذِي خَلَقَ وَبِأَنَّهُ الْأَكْرَمُ . والجهمية لَيْسَ عِنْدَهُمْ إلَّا كَوْنُهُ خَالِقًا مَعَ تَقْصِيرِهِمْ فِي إثْبَاتِ كَوْنِهِ خَالِقًا لَا يَصِفُونَهُ بِالْكَرَمِ وَلَا الرَّحْمَةِ وَلَا الْحِكْمَةِ . وَإِنْ أَطْلَقُوا أَلْفَاظَهَا فَلَا يَعْنُونَ بِهَا مَعْنَاهَا بَلْ يُطْلِقُونَهَا لِأَجْلِ مَجِيئِهَا فِي الْقُرْآنِ ثُمَّ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ وَيُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ . فَتَارَةً يَقُولُونَ : الْحِكْمَةُ هِيَ الْقُدْرَةُ وَتَارَةً يَقُولُونَ : هِيَ الْمَشِيئَةُ وَتَارَةً يَقُولُونَ : هِيَ الْعِلْمُ . وَأَنَّ الْحِكْمَةَ وَإِنْ تَضَمَّنَتْ ذَلِكَ وَاسْتَلْزَمَتْهُ فَهِيَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى ذَلِكَ . فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ كَانَ قَادِرًا أَوْ مُرِيدًا كَانَ حَكِيمًا ; وَلَا كُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ يَكُونُ حَكِيمًا حَتَّى يَكُونَ عَامِلًا بِعِلْمِهِ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُ : الْحِكْمَةُ هِيَ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ بِهِ وَهِيَ أَيْضًا : الْقَوْلُ الصَّوَابُ . فَتَتَنَاوَلُ الْقَوْلَ السَّدِيدَ وَالْعَمَلَ الْمُسْتَقِيمَ الصَّالِحَ . وَالرَّبُّ تَعَالَى أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَحْكَمُ الْحُكَمَاءِ . وَالْإِحْكَامُ الَّذِي فِي مَخْلُوقَاتِهِ دَلِيلٌ عَلَى عِلْمِهِ . وَهُمْ مَعَ سَائِرِ الطَّوَائِفِ يَسْتَدِلُّونَ بِالْإِحْكَامِ عَلَى الْعِلْمِ وَإِنَّمَا يَدُلُّ إذَا كَانَ الْفَاعِلُ حَكِيمًا يَفْعَلُ لِحِكْمَةِ . وَهُمْ يَقُولُونَ إنَّهُ لَا يَفْعَلُ لِحِكْمَةِ وَإِنَّمَا يَفْعَلُ بِمَشِيئَةِ تَخُصُّ أَحَدَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِلَا سَبَبٍ يُوجِبُ التَّخْصِيصَ . وَهَذَا مُنَاقِضٌ لِلْحِكْمَةِ بَلْ هَذَا سَفَهٌ . وَهُوَ قَدْ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ { لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إنْ كُنَّا فَاعِلِينَ } { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ إنَّمَا خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بِالْحَقِّ وَأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْهُمَا بَاطِلًا وَأَنَّ ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا . وَقَالَ { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا } وَقَالَ { أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى } أَيْ مُهْمَلًا لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى . وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ عَلَى مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ عَلَى الرَّبِّ . والجهمية الْمُجْبِرَةُ تُجَوِّزُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَلَا تُنَزِّهُهُ عَنْ فِعْلٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْأَفْعَالِ . وَلَا تَنْعَتُهُ بِلَوَازِمِ كَرَمِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا هُوَ اللَّائِقُ بِذَلِكَ وَلَا يَفْعَلُ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ . بَلْ تُجَوِّزُ كُلَّ مَقْدُورٍ أَنْ يَكُونَ وَأَنْ لَا يَكُونَ وَإِنَّمَا يَجْزِمُ بِأَحَدِهِمَا لِأَجْلِ خَبَرٍ سَمْعِيٍّ أَوْ عَادَةٍ مُطَّرِدَةٍ مَعَ تُنَاقِضُهُمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْخَبَرِ أَخْبَارِ الرُّسُلِ وَعَادَاتِ الرَّبِّ . كَمَا بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ مِثْلُ الْكَلَامِ عَلَى مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَعَلَى إرْسَالِ الرُّسُلِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَعَلَى الْمَعَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ الصَّادِرَةِ عَنْ مَشِيئَتِهِ . فَإِنَّهَا صَادِرَةٌ عَنْ حِكْمَتِهِ وَعَنْ رَحْمَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِهَذَا وَهَذَا لَا يَشَاءُ إلَّا مَشِيئَةً مُتَضَمِّنَةً لِلْحِكْمَةِ وَهُوَ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا } . فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يُقِرُّونَ بِأَنَّهُ الْأَكْرَمُ . وَالْإِرَادَةُ الَّتِي يُثْبِتُونَهَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا سَمْعٌ وَلَا عَقْلٌ . فَإِنَّهُ لَا تُعْرَفُ إرَادَةٌ تُرَجِّحُ مُرَادًا عَلَى مُرَادٍ بِلَا سَبَبٍ يَقْتَضِي التَّرْجِيحَ . وَمَنْ قَالَ مِنْ الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ " إنَّ الْقَادِرَ يُرَجِّحُ أَحَدَ مَقْدُورَيْهِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ " فَهُوَ مُكَابِرٌ . وَتَمْثِيلُهُمْ ذَلِكَ بِالْجَائِعِ إذَا أَخَذَ أَحَدَ الرَّغِيفَيْنِ وَالْهَارِبِ إذَا سَلَكَ أَحَدَ الطَّرِيقَيْنِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ . فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ إلَّا مَعَ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا إمَّا لِكَوْنِهِ أَيْسَرَ فِي الْقُدْرَةِ وَإِمَّا لِأَنَّهُ الَّذِي خَطَرَ بِبَالِهِ وَتَصَوَّرَهُ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ أَنْفَعُ . فَلَا بُدَّ مِنْ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا بِنَوْعِ مَا إمَّا مِنْ جِهَةِ الْقُدْرَةِ وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ التَّصَوُّرِ وَالشُّعُورِ . وَحِينَئِذٍ يُرَجِّحُ إرَادَتَهُ وَالْآخَرُ لَمْ يُرِدْهُ . فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّ إرَادَتَهُ رَجَّحَتْ أَحَدَهُمَا بِلَا مُرَجِّحٍ ؟ أَوْ أَنَّهُ رَجَّحَ إرَادَةَ هَذَا عَلَى إرَادَةِ ذَاكَ بِلَا مُرَجِّحٍ ؟ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ يُعْرَفُ امْتِنَاعُهُ مِنْ تَصَوُّرِهِ حَقَّ التَّصَوُّرِ . وَلَكِنْ لَمَّا تَكَلَّمُوا فِي مَبْدَأِ الْخَلْقِ بِكَلَامِ ابْتَدَعُوهُ خَالَفُوا بِهِ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ احْتَاجُوا إلَى هَذِهِ الْمُكَابَرَةِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَبِذَلِكَ تَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ الْفَلَاسِفَةُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى . فَلَا لِلْإِسْلَامِ نَصَرُوا وَلَا لِلْفَلَاسِفَةِ كَسَرُوا . وَمَعْلُومٌ بِصَرِيحِ الْعَقْل أَنَّ الْقَادِرَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لِلْفِعْلِ وَلَا فَاعِلًا ثُمَّ صَارَ مُرِيدًا فَاعِلًا فَلَا بُدَّ مِنْ حُدُوثِ أَمْرٍ اقْتَضَى ذَلِكَ . وَالْكَلَامُ هُنَا فِي مَقَامَيْنِ . أَحَدِهِمَا فِي جِنْسِ الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ هَلْ صَارَ فَاعِلًا مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ أَوْ مَا زَالَ فَاعِلًا مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ . وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَسَائِلِ الْكَلَامِ وَالْأَفْعَالِ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ وَحُدُوثِ الْعَالَمِ . وَالثَّانِي إرَادَةُ الشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ وَفِعْلُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وَقَوْلِهِ { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا } وَقَوْلِهِ { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا } وَقَوْلِهِ { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ } وَقَوْلِهِ { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ } وَقَوْلِهِ { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } . وَهُوَ سُبْحَانَهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلِلنَّاسِ فِيهَا أَقْوَالٌ . قِيلَ : الْإِرَادَةُ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنَّمَا يَتَجَدَّدُ تَعَلُّقُهَا بِالْمُرَادِ وَنِسْبَتُهَا إلَى الْجَمِيعِ وَاحِدَةٌ وَلَكِنْ مِنْ خَوَاصِّ الْإِرَادَةِ أَنَّهَا تُخَصَّصُ بِلَا مُخَصِّصٍ . فَهَذَا قَوْلُ ابْنِ كِلَابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ . وَمَنْ تَابَعَهُمَا . وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ يَقُولُ : إنَّ هَذَا فَسَادُهُ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ حَتَّى قَالَ أَبُو الْبَرَكَاتِ : لَيْسَ فِي الْعُقَلَاءِ مَنْ قَالَ بِهَذَا . وَمَا عُلِمَ أَنَّهُ قَوْلُ طَائِفَةٍ كَبِيرَةٍ مِنْ أَهْل النَّظَرِ وَالْكَلَامِ . وَبُطْلَانُهُ مِنْ جِهَاتٍ : مِنْ جِهَةِ جَعْلِ إرَادَةِ هَذَا غَيْرِ إرَادَةِ ذَاكَ وَمِنْ جِهَةٍ أَنَّهُ جَعَلَ الْإِرَادَةَ تُخَصَّصُ لِذَاتِهَا . وَمِنْ جِهَةٍ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ عِنْدَ وُجُودِ الْحَوَادِثِ شَيْئًا حَدَثَ حَتَّى تَخَصَّصَ أَوْ لَا تَخَصَّصَ . بَلْ تَجَدَّدَتْ نِسْبَةٌ عَدَمِيَّةٌ لَيْسَتْ وُجُودًا وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءِ فَلَمْ يَتَجَدَّدْ شَيْءٌ . فَصَارَتْ الْحَوَادِثُ تَحْدُثُ وَتَتَخَصَّصُ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ وَلَا مُخَصِّصٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ بِإِرَادَةِ وَاحِدَةٍ قَدِيمَةٍ مِثْلُ هَؤُلَاءِ لَكِنْ يَقُولُ : تَحْدُثُ عِنْدَ تَجَدُّدِ الْأَفْعَالِ إرَادَاتٍ فِي ذَاتِهِ بِتِلْكَ الْمَشِيئَةِ الْقَدِيمَةِ كَمَا تَقُولُهُ الكرامية وَغَيْرُهُمْ . وَهَؤُلَاءِ أَقْرَبُ مِنْ حَيْثُ أَثْبَتُوا إرَادَاتِ الْأَفْعَالِ . وَلَكِنْ يَلْزَمُهُمْ مَا لَزِمَ أُولَئِكَ مِنْ حَيْثُ أَثْبَتُوا حَوَادِثَ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ وَتَخْصِيصَاتٍ بِلَا مُخَصِّصٍ وَجَعَلُوا تِلْكَ الْإِرَادَةَ وَاحِدَةً تَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ الْإِرَادَاتِ الْحَادِثَةِ وَجَعَلُوهَا أَيْضًا تُخَصَّصُ لِذَاتِهَا وَلَمْ يَجْعَلُوا عِنْدَ وُجُودِ الْإِرَادَاتِ الْحَادِثَةِ شَيْئًا حَدَثَ حَتَّى تُخَصِّصَ تِلْكَ الْإِرَادَاتُ الْحُدُوثَ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ قَوْلُ الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يَنْفُونَ قِيَامَ الْإِرَادَةِ بِهِ . ثُمَّ إمَّا أَنْ يَقُولُوا بِنَفْيِ الْإِرَادَةِ أَوْ يُفَسِّرُونَهَا بِنَفْسِ الْأَمْرِ وَالْفِعْلِ أَوْ يَقُولُوا بِحُدُوثِ إرَادَةٍ لَا فِي مَحَلٍّ كَقَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ . وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَدْ عُلِمَ أَيْضًا فَسَادُهَا . وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُرِيدًا بِإِرَادَاتِ مُتَعَاقِبَةٍ . فَنَوْعُ الْإِرَادَةِ قَدِيمٌ وَأَمَّا إرَادَةُ الشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ فَإِنَّمَا يُرِيدُهُ فِي وَقْتِهِ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُقَدِّرُ الْأَشْيَاءَ وَيَكْتُبُهَا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَخْلُقُهَا . فَهُوَ إذَا قَدَّرَهَا عَلِمَ مَا سَيَفْعَلُهُ وَأَرَادَ فِعْلَهُ فِي الْوَقْتِ الْمُسْتَقْبَلِ لَكِنْ لَمْ يُرِدْ فِعْلَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ فَإِذَا جَاءَ وَقْتُهُ أَرَادَ فِعْلَهُ فَالْأَوَّلُ عَزْمٌ وَالثَّانِي قَصْدٌ . وَهَلْ يَجُوزُ وَصْفُهُ بِالْعَزْمِ فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا الْمَنْعُ كَقَوْلِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى ; وَالثَّانِي الْجَوَازُ وَهُوَ أَصَحُّ . فَقَدْ قَرَأَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } بِالضَّمِّ . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ : { ثُمَّ عَزَمَ اللَّهُ لِي } . وَكَذَلِكَ فِي خُطْبَةِ مُسْلِمٍ : { فَعَزَمَ لِي } . وَسَوَاءٌ سُمِّيَ " عَزْمًا " أَوْ لَمْ يُسَمَّ فَهُوَ سُبْحَانَهُ إذَا قَدَّرَهَا عَلِمَ أَنَّهُ سَيَفْعَلُهَا فِي وَقْتِهَا وَأَرَادَ أَنْ يَفْعَلَهَا فِي وَقْتِهَا . فَإِذَا جَاءَ الْوَقْتُ فَلَا بُدَّ مِنْ إرَادَةِ الْفِعْلِ الْمُعَيَّنِ وَنَفْسِ الْفِعْلِ وَلَا بُدَّ مِنْ عِلْمِهِ بِمَا يَفْعَلُهُ . ثُمَّ الْكَلَامُ فِي عِلْمِهِ بِمَا يَفْعَلُهُ هَلْ هُوَ الْعِلْمُ الْمُتَقَدِّمُ بِمَا سَيَفْعَلُهُ وَعِلْمُهُ بِأَنَّ قَدْ فَعَلَهُ هَلْ هُوَ الْأَوَّلُ فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ . وَالْعَقْلُ وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْرٌ زَائِدٌ كَمَا قَالَ { لِنَعْلَمَ } فِي بِضْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إلَّا لِنَرَى . وَحِينَئِذٍ فَإِرَادَةُ الْمُعَيَّنِ تَتَرَجَّحُ لِعِلْمِهِ بِمَا فِي الْمُعَيَّنِ مِنْ الْمَعْنَى الْمُرَجِّحِ لِإِرَادَتِهِ . فَالْإِرَادَةُ تَتْبَعُ الْعِلْمَ . وَكَوْنُ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ مُتَّصِفًا بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الْمُرَجَّحَةِ إنَّمَا هُوَ فِي الْعِلْمِ وَالتَّصَوُّرِ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ شَيْءٌ . وَمِنْ هُنَا غَلِطَ مَنْ قَالَ " الْمَعْدُومُ شَيْءٌ " حَيْثُ أَثْبَتُوا ذَلِكَ الْمُرَادَ فِي الْخَارِجِ . وَمَنْ لَمْ يُثْبِتْهُ شَيْئًا فِي الْعِلْمِ أَوْ كَانَ لَيْسَ عِنْدَهُ إلَّا إرَادَةٌ وَاحِدَةٌ وَعِلْمٌ وَاحِدٌ لَيْسَ لِلْمَعْلُومَاتِ وَالْمُرَادَاتِ صُورَةٌ عِلْمِيَّةٌ عِنْدَ هَؤُلَاءِ . فَهَؤُلَاءِ نَفَوْا كَوْنَهُ شَيْئًا فِي الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَأُولَئِكَ أَثْبَتُوا كَوْنَهُ شَيْئًا فِي الْخَارِجِ . وَتِلْكَ الصُّورَةُ الْعِلْمِيَّةُ الْإِرَادِيَّةُ حَدَثَتْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ . وَهِيَ حَادِثَةٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ كَمَا يُحْدِثُ [ الْحَوَادِثَ ] الْمُنْفَصِلَةَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . فَيُقَدِّرُ مَا يَفْعَلُهُ ثُمَّ يَفْعَلُهُ . فَتَخْصِيصُهَا بِصِفَةِ دُونَ صِفَةٍ وَقَدَرٍ دُونَ قَدَرٍ هُوَ لِلْأُمُورِ الْمُقْتَضِيَةِ لِذَلِكَ فِي نَفْسِهِ . فَلَا يُرِيدُ إلَّا مَا تَقْتَضِي نَفْسُهُ إرَادَتَهُ بِمَعْنَى يَقْتَضِي ذَلِكَ وَلَا يُرَجِّحُ مُرَادًا عَلَى مُرَادٍ إلَّا لِذَلِكَ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَجِّحَ شَيْئًا لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ قَادِرًا . فَإِنَّهُ كَانَ قَادِرًا قَبْلَ إرَادَتِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى غَيْرِهِ . فَتَخْصِيصُ هَذَا بِالْإِرَادَةِ لَا يَكُونُ بِالْقُدْرَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الْإِرَادَةُ تُخَصِّصُ مِثْلًا عَلَى مِثْلٍ بِلَا مُخَصِّصٍ . بَلْ إنَّمَا يُرِيدُ الْمُرِيدُ أَحَدَ الشَّيْئَيْنِ دُونَ الْآخَرِ لِمَعْنَى فِي الْمُرِيدِ وَالْمُرَادِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُرِيدُ إلَى ذَلِكَ أَمْيَلَ وَأَنْ يَكُونَ فِي الْمُرَادِ مَا أَوْجَبَ رُجْحَانَ ذَلِكَ الْمَيْلِ .