مسألة تالية
متن:
الثَّانِي : أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَقُومُ بِنَفْسِهِ مِنْ الْعُلُومِ وَالْإِرَادَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ الصِّفَاتِ مَا لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ فَإِنَّ قِيَامَ الصِّفَةِ بِالنَّفْسِ غَيْرُ شُعُورِ صَاحِبِهَا بِأَنَّهَا قَامَتْ بِهِ . فَوُجُودُ الشَّيْءِ فِي الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ غَيْرُ عِلْمِ الْإِنْسَانِ بِهِ . وَهَذَا كَصِفَاتِ بَدَنِهِ فَإِنَّ مِنْهَا مَا لَا يَرَاهُ كَوَجْهِهِ وَقَفَاهُ . وَمِنْهَا مَا يَرَاهُ إذَا تَعَمَّدَ النَّظَرَ إلَيْهِ كَبَطْنِهِ وَفَخِذِهِ وَعَضُدَيْهِ . وَقَدْ يَكُونُ بِهِمَا آثَارٌ مِنْ خِيلَانٍ وَغَيْرِ خِيلَانٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْوَالِ وَهُوَ لَمْ يَرَهُ وَلَمْ يَعْرِفْهُ لَكِنَّ لَوْ تَعَمَّدَ رُؤْيَتَهُ لَرَآهُ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ رُؤْيَةَ ذَلِكَ لِعَارِضِ عَرَضَ لِبَصَرِهِ مِنْ العشى أَوْ الْعَمَى أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . كَذَلِكَ صِفَاتُ نَفْسِهِ قَدْ يَعْرِفُ بَعْضَهَا وَبَعْضُهَا لَا يَعْرِفُهُ . لَكِنَّ لَوْ تَعَمَّدَ تَأَمُّلَ حَالِ نَفْسِهِ لَعَرَفَهُ . وَمِنْهَا مَا لَا يَعْرِفُهُ وَلَوْ تَأَمَّلَ لِفَسَادِ بَصِيرَتِهِ وَمَا عَرَضَ لَهَا . وَاَلَّذِي يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَفْعَالَ الِاخْتِيَارِيَّةَ لَا تُتَصَوَّرُ إلَّا بِإِرَادَةِ تَقُومُ بِنَفْسِ الْإِنْسَانِ . وَكُلُّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا وَهُوَ يَعْرِفُهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يُرِيدَهُ كَاَلَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَلْبَسُ وَهُوَ يَعْرِفُ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُرِيدَهُ . فَالْفِعْلُ الِاخْتِيَارِيُّ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ إرَادَةٍ . وَإِذَا تَصَوَّرَ الْفِعْلَ الَّذِي يَفْعَلُهُ وَقَدْ فَعَلَهُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لَهُ وَقَدْ تَصَوَّرَهُ . وَإِذَا كَانَ مُرِيدًا لَهُ وَقَدْ تَصَوَّرَهُ امْتَنَعَ أَنْ لَا يُرِيدَ مَا تَصَوَّرَهُ وَفَعَلَهُ . فَالْإِنْسَانُ إذَا قَامَ إلَى صَلَاةٍ يَعْلَمُ أَنَّهَا الظُّهْرُ فَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَهُوَ يَعْلَمُ هَذَا لَمْ يَنْسَهُ وَلَا يُرِيدُ صَلَاةَ الظُّهْرِ . وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ إذَا تَصَوَّرَ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ وَهُوَ مُرِيدٌ لِصَوْمِ رَمَضَانَ امْتَنَعَ أَنْ لَا يَنْوِيَ صَوْمَهُ . وَكَذَلِكَ إذَا أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُهِلٌّ بِهِ امْتَنَعَ أَنْ لَا يَكُونَ مُرِيدًا لِلْحَجِّ . وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ امْتَنَعَ أَنْ لَا يَكُونَ مُرِيدًا لِلْوُضُوءِ . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ نَجِدُ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ الْعُلَمَاءِ دَعْ الْعَامِّيَّةَ يَسْتَدْعُونَ النِّيَّةَ بِأَلْفَاظِ يَقُولُونَهَا وَيَتَكَلَّفُونَ أَلْفَاظًا وَيَشُكُّونَ فِي وُجُودِهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَيَخْرُجُونَ إلَى ضَرْبٍ مِنْ الْوَسْوَسَةِ الَّتِي يُشْبِهُ أَصْحَابُهَا الْمَجَانِينَ . وَالنِّيَّةُ هِيَ الْإِرَادَةُ . وَهِيَ الْقَصْدُ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي نُفُوسِهِمْ لِوُجُودِهَا فِي نَفْسِ كُلِّ مَنْ يُصَلِّي فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ وَالْجَامِعِ وَمَنْ تَوَضَّأَ فِي تِلْكَ الْمَطْهَرَةِ . أُولَئِكَ يَعْلَمُونَ هَذَا مِنْ نُفُوسِهِمْ وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ وَسْوَاسٌ وَهَؤُلَاءِ ظَنُّوا أَنَّ النِّيَّةَ لَمْ تَكُنْ فِي قُلُوبِهِمْ يَطْلُبُونَ حُصُولَهَا مِنْ قُلُوبِهِمْ . وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ التَّلَفُّظَ بِهَا لَيْسَ بِوَاجِبِ وَإِنَّمَا الْفَرْضُ وُجُودُ الْإِرَادَةِ فِي الْقَلْبِ . وَهِيَ مَوْجُودَةٌ وَمَعَ هَذَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مَوْجُودَةً . وَإِذَا قِيلَ لِأَحَدِهِمْ " النِّيَّةُ حَاصِلَةٌ فِي قَلْبِك " لَمْ يَقْبَلْ لِمَا قَامَ بِهِ مِنْ الِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ الْمُنَاقِضِ لِفِطْرَتِهِ . وَكَذَلِكَ حَبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَوْجُودٌ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُ ذَلِكَ مِنْ قَلْبِهِ إذَا كَانَ مُؤْمِنًا . وَتَظْهَرُ عَلَامَاتُ حُبِّهِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ إذَا أَخَذَ أَحَدٌ يَسُبُّ الرَّسُولَ وَيَطْعَنُ عَلَيْهِ أَوْ يَسُبُّ اللَّهَ وَيَذْكُرُهُ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ . فَالْمُؤْمِنُ يَغْضَبُ لِذَلِكَ أَعْظَمَ مِمَّا يَغْضَبُ لَوْ سُبَّ أَبُوهُ وَأُمُّهُ . وَمَعَ هَذَا فَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ أَنْكَرُوا مَحَبَّةَ اللَّهِ وَقَالُوا : يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا أَوْ مَحْبُوبًا وَجَعَلُوا هَذَا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَقَالُوا : خِلَافًا لِلْحُلُولِيَّةِ كَأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إلَّا الْحُلُولِيَّةَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا دِينُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَهْلِ الْإِيمَانِ أَجْمَعِينَ . وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ . فَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَوْجُودَةٌ فِي قُلُوبِ أَكْثَرِ الْمُنْكِرِينَ لَهَا بَلْ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَإِنْ أَنْكَرَهَا لِشُبْهَةِ عَرَضَتْ لَهُ . وَهَكَذَا الْمَعْرِفَةُ مَوْجُودَةٌ فِي قُلُوبٍ هَؤُلَاءِ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا مَحَبَّتَهُ هُمْ الَّذِينَ قَالُوا : مَعْرِفَتُهُ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالنَّظَرِ فَأَنْكَرُوا مَا فِي فِطَرِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ . ثُمَّ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الْإِنْكَارُ سَبَبًا إلَى امْتِنَاعِ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ وَقَدْ يَزُولُ عَنْ قَلْبِ أَحَدِهِمْ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ فَإِنَّ الْفِطْرَةَ قَدْ تَفْسُدُ فَقَدْ تَزُولُ وَقَدْ تَكُونُ مَوْجُودَةً وَلَا تُرَى { فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } { مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ } . ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ : اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } . وَالْفِطْرَةُ تَسْتَلْزِمُ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَمَحَبَّتَهُ وَتَخْصِيصَهُ بِأَنَّهُ أَحَبُّ الْأَشْيَاءِ إلَى الْعَبْدِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا : { كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ } وَرُوِيَ { عَلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { إنِّي خَلَقْت عِبَادِي حُنَفَاءَ فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْت لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا } . فأخبر أَنَّهُ خَلَقَهُمْ حُنَفَاءَ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ مَعْرِفَةَ الرَّبِّ وَمَحَبَّتَهُ وَتَوْحِيدَهُ . فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ تَضَمَّنَتْهَا الْحَنِيفِيَّةُ وَهِيَ مَعْنَى قَوْلِ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " . فَإِنَّ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي هِيَ { كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ } فِيهَا إثْبَاتُ مَعْرِفَتِهِ وَالْإِقْرَارِ بِهِ . وَفِيهَا إثْبَاتُ مَحَبَّتِهِ فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْمَأْلُوهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ مَأْلُوهًا ; وَهَذَا أَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنْ الْمَحَبَّةِ . وَفِيهَا أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ . فَفِيهَا الْمَعْرِفَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَالتَّوْحِيدُ . وَكُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَهِيَ الْحَنِيفِيَّةُ الَّتِي خَلَقَهُمْ عَلَيْهَا . وَلَكِنَّ أَبَوَاهُ يُفْسِدَانِ ذَلِكَ فَيُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ وَيُشْرِكَانِهِ . كَذَلِكَ يُجَهِّمَانِهِ فَيَجْعَلَانِهِ مُنْكِرًا لِمَا فِي قَلْبِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الرَّبِّ وَمَحَبَّتِهِ وَتَوْحِيدِهِ . ثُمَّ الْمَعْرِفَةُ يَطْلُبُهَا بِالدَّلِيلِ وَالْمَحَبَّةُ يُنْكِرُهَا بِالْكُلِّيَّةِ . وَالتَّوْحِيدُ الْمُتَضَمِّنُ لِلْمَحَبَّةِ يُنْكِرُهُ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ وَإِنَّمَا ثَبَتَ تَوْحِيدُ الْخَلْقِ وَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا يُقِرُّونَ بِهَذَا التَّوْحِيدِ وَهَذَا الشِّرْكُ . فَهُمَا يُشْرِكَانِهِ [ و ] يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَأَقْوَالُ النَّاسِ فِيهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَأَيْضًا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ أَحْوَالِ نَفْسِهِ فَلَا يَشْعُرُ بِهَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَكُونُ فِي نَفْسِهِ حُبُّ الرِّيَاسَةِ كَامِنٌ لَا يَشْعُرُ بِهِ بَلْ إنَّهُ مُخْلِصٌ فِي عِبَادَتِهِ وَقَدْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ عُيُوبُهُ . وَكَلَامُ النَّاسِ فِي هَذَا كَثِيرٌ مَشْهُورٌ . وَلِهَذَا سُمِّيَتْ هَذِهِ " الشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ " . قَالَ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ : يَا بَقَايَا الْعَرَبِ إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الرِّيَاءُ وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ . قِيلَ لِأَبِي داود السجستاني : مَا الشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ ؟ قَالَ : حُبُّ الرِّيَاسَةِ . فَهِيَ خَفِيَّةٌ تَخْفَى عَلَى النَّاسِ وَكَثِيرًا مَا تَخْفَى عَلَى صَاحِبِهَا . بَلْ كَذَلِكَ حُبُّ الْمَالِ وَالصُّورَةِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُحِبُّ ذَلِكَ وَلَا يَدْرِي . بَلْ نَفْسُهُ سَاكِنَةٌ مَا دَامَ ذَلِكَ مَوْجُودًا فَإِذَا فَقَدَهُ ظَهَرَ مِنْ جَزَعِ نَفْسِهِ وَتَلَفِهَا مَا دَلَّ عَلَى الْمَحَبَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ . وَالْحُبُّ مُسْتَلْزِمٌ لِلشُّعُورِ فَهَذَا شُعُورٌ مِنْ النَّفْسِ بِأُمُورِ وَجَبَ لَهَا . وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَخْفَى ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ لَا سِيَّمَا وَالشَّيْطَانُ يُغَطِّي عَلَى الْإِنْسَانِ أُمُورًا . وَذُنُوبُهُ أَيْضًا تَبْقَى رَيْنًا عَلَى قَلْبِهِ قَالَ تَعَالَى { كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } { كَلَّا إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } . وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ . فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ وَإِنْ زَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ . فَذَلِكَ الران الَّذِي قَالَ اللَّهُ { كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } } . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ } . وَقَالَ { إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } . فَالْمُتَّقُونَ إذَا أَصَابَهُمْ هَذَا الطَّيْفُ الَّذِي يَطِيفُ بِقُلُوبِهِمْ يَتَذَكَّرُونَ مَا عَلِمُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَيَزُولُ الطَّيْفُ وَيُبْصِرُونَ الْحَقَّ الَّذِي كَانَ مَعْلُومًا وَلَكِنَّ الطَّيْفَ يَمْنَعُهُمْ عَنْ رُؤْيَتِهِ . قَالَ تَعَالَى { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ } . فَإِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ تَمُدُّهُمْ الشَّيَاطِينُ فِي غَيِّهِمْ " { ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ } لَا تَقْصُرُ الشَّيَاطِينُ عَنْ الْمَدَدِ وَالْإِمْدَادِ وَلَا الْإِنْسُ عَنْ الْغَيِّ . فَلَا يُبْصِرُونَ مَعَ ذَلِكَ الْغَيِّ مَا هُوَ مَعْلُومٌ لَهُمْ مُسْتَقِرٌّ فِي فِطَرِهِمْ لَكِنَّهُمْ يَنْسَوْنَهُ . وَلِهَذَا كَانَتْ الرُّسُلُ إنَّمَا تَأْتِي بِتَذْكِيرِ الْفِطْرَةِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ لَهَا وَتَقْوِيَتِهِ وَإِمْدَادِهِ وَنَفْيِ الْمُغَيِّرِ لِلْفِطْرَةِ . فَالرُّسُلُ بُعِثُوا بِتَقْرِيرِ الْفِطْرَةِ وَتَكْمِيلِهَا لَا بِتَغْيِيرِ الْفِطْرَةِ وَتَحْوِيلِهَا . وَالْكَمَالُ يَحْصُلُ بِالْفِطْرَةِ الْمُكَمَّلَةِ بِالشِّرْعَةِ الْمُنَزَّلَةِ .