مسألة تالية
متن:
سُورَةُ الْبَيِّنَةِ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ فَصْلٌ فِي قَوْله تَعَالَى . { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } . فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ سُورَةٌ جَلِيلَةُ الْقَدْرِ وَقَدْ وَرَدَ فِيهَا فَضَائِلُ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَقْرَأَهَا عَلَى أبي بْنِ كَعْبٍ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ { رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لأبي : إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْك الْقُرْآنَ . قَالَ : آللَّهُ سَمَّانِي لَك ؟ قَالَ : اللَّهُ سَمَّاك لِي قَالَ : فَجَعَلَ أبي يَبْكِي } . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : { إنَّ اللَّه أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْك . { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا } . قَالَ : سَمَّانِي لَك ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَبَكَى } . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ : { وَذُكِرْت عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ . } قَالَ قتادة : أُنْبِئْت أَنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِ { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } . وَتَخْصِيصُ هَذِهِ السُّورَةِ بِقِرَاءَتِهَا عَلَى أبي يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهَا وَامْتِيَازَهَا بِمَا اقْتَضَى ذَلِكَ . وَقَوْلُهُ : { أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْك } أَيْ قِرَاءَةَ تَبْلِيغٍ وَإِسْمَاعٍ وَتَلْقِينٍ لَيْسَ هِيَ قِرَاءَةَ تَلْقِينٍ فِي تَصْحِيحٍ كَمَا يَقْرَأُ الْمُتَعَلِّمُ عَلَى الْمُعَلِّمِ . فَإِنَّ هَذَا قَدْ ظَنَّهُ بَعْضُهُمْ وَجَعَلُوا هَذَا مِنْ بَابِ التَّوَاضُعِ . وَجَعَلَ أَبُو حَامِدٍ هَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى تَوَاضُعِ الْمُتَعَلِّمِ وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءِ . فَإِنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ كَانَ يَقْرَؤُهَا عَلَى جِبْرِيلَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ كُلَّ عَامٍّ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي نَزَّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ . وَأَمَّا النَّاسُ فَمِنْهُ تَعَلَّمُوهُ فَكَيْفَ يُصَحِّحُ قِرَاءَتَهُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ أَوْ يَقْرَأُ كَمَا يَقْرَأُ الْمُتَعَلِّمُ ؟ وَلَكِنَّ قِرَاءَتَهُ عَلَى أبي بْنِ كَعْبٍ كَمَا كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ عَلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ . فَقَدْ قَرَأَ عَلَى الْجِنِّ الْقُرْآنَ . وَكَانَ إذَا خَرَجَ إلَى النَّاسِ يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَيَقْرَأُ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ . وَيَقْرَؤُهُ عَلَى النَّاسِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِ الصَّلَاةِ . قَالَ تَعَالَى : { فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } { وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } وَقَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } . وَذَكَرَ مِثْلَ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . فَهُوَ يَتْلُو عَلَى الْمُؤْمِنِينَ آيَاتِ اللَّهِ . وأبي بْنُ كَعْبٍ أَمَرَ بِتَخْصِيصِهِ بِالتِّلَاوَةِ عَلَيْهِ لِفَضِيلَةِ أبي وَاخْتِصَاصِهِ بِعِلْمِ الْقُرْآنِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : أبي أَقْرَؤُنَا وَعَلِيٌّ أَقْضَانَا . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ { قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ : اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ . قَالَ : أَقْرَأُ عَلَيْك وَعَلَيْك أُنْزِلَ ؟ قَالَ : إنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي } . فَقِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِإِسْمَاعِهِ إيَّاهُ لَا لِأَجْلِ التَّصْحِيحِ وَالتَّلْقِينِ . وَفِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مُنْفَكِّينَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ ذَكَرَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ . هَلْ الْمُرَادُ لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ الْكُفْرِ . أَوْ هَلْ لَمْ يَكُونُوا مُكَذِّبِينَ بِمُحَمَّدِ حَتَّى بُعِثَ فَلَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَالتَّصْدِيقِ بِنُبُوَّتِهِ حَتَّى بُعِثَ . أَوْ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَتْرُوكِينَ حَتَّى يُرْسَلَ إلَيْهِمْ رَسُولٌ . وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا أَبُو الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ . قَالَ : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } يَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ وَهْم عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ { مُنْفَكِّينَ } أَيْ مُنْفَصِلِينَ وَزَائِلِينَ . يُقَالُ : فَكَكْت الشَّيْءَ فَانْفَكَّ أَيْ انْفَصَلَ . وَالْمَعْنَى : لَمْ يَكُونُوا زَائِلِينَ عَنْ كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ حَتَّى أَتَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ . لَفْظُهُ لَفْظُ الْمُسْتَقْبَلِ وَمَعْنَاهُ الْمَاضِي . وَالْبَيِّنَةُ الرَّسُولُ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ لَهُمْ ضَلَالَهُمْ وَجَهْلَهُمْ . وَهَذَا بَيَانٌ عَنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى مَنْ آمَنُ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ إذْ أَنْقَذَهُمْ بِهِ . وَلَفْظُ البغوي نَحْوُ هَذَا . قَالَ : لَمْ يَكُونُوا مُنْتَهِينَ عَنْ كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ وَقَالَ : أَهْلُ اللُّغَةِ : " مُنْفَكِّينَ " مُنْفَصِلِينَ زَائِلِينَ يُقَالُ : فَكَكْت الشَّيْءَ فَانْفَكَّ أَيْ انْفَصَلَ . { حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } لَفْظُهُ مُسْتَقْبَلٌ وَمَعْنَاهُ الْمَاضِي أَيْ حَتَّى أَتَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ يَعْنِي مُحَمَّدًا أَتَاهُمْ بِالْقُرْآنِ فَبَيَّنَ لَهُمْ ضَلَالَتَهُمْ وَجَهَالَتَهُمْ وَدَعَاهُمْ إلَى الْإِيمَانِ . فَأَنْقَذَهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْجَهْلِ وَالضَّلَالَةِ . وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ هَذَا . قَالَ أَبُو الْفَرَجِ : وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إلَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ : لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ إلَيْهِمْ نَبِيًّا حَتَّى بَعَثَ فَافْتَرَقُوا . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ حُجَجِ اللَّهِ حَتَّى أُقِيمَتْ عَلَيْهِمْ الْبَيِّنَةُ . قَالَ : وَالْوَجْهُ هُوَ الْأَوَّلُ . وَذَكَرَ الثَّلَاثَةُ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ عَطِيَّةَ لَكِنَّ الثَّالِثَ وَجَّهَهُ وَقَوَّاهُ وَلَمْ يَحْكِهِ عَنْ غَيْرِهِ . فَقَالَ : قَوْلُهُ : { مُنْفَكِّينَ } أَيْ مُنْفَصِلِينَ مُتَفَرِّقِينَ . تَقُولُ : انْفَكَّ الشَّيْءُ عَنْ الشَّيْءِ إذَا انْفَصَلَ عَنْهُ . قَالَ : و " مَا انْفَكَّ " الَّتِي هِيَ مِنْ أَخَوَاتِ " كَانَ " لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ أَنْ يَكُونَ هَذِهِ الصِّفَةُ مُنْفَكَّةً . قَالَ : وَاخْتَلَفَ النَّاسُ عَنْ مَاذَا ؟ فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ : لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ حَتَّى جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ وَأَوْقَعَ الْمُسْتَقْبَلَ مَوْقِعَ الْمَاضِي فِي { تَأْتِيهِمْ } لِأَنَّ بَأْسَ الشَّرِيعَةِ وَعِظَمَهَا لَمْ يَجِئْ بَعْدُ . وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ : لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ مَعْرِفَةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّوَكُّدُ لِأَمْرِهِ حَتَّى جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ فَتَفَرَّقُوا عِنْدَ ذَلِكَ قَالَ : وَذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إلَى أَنَّ هَذَا الْمَنْفِيَّ الْمُتَقَدِّمَ مَعَ " مُنْفَكِّينَ " بِجَعْلِهِمْ تِلْكَ هِيَ مَعَ " كَانَ " وَيُرْوَى التَّقْدِيرُ فِي خَبَرِهَا " عَارِفِينَ أَمْرَ مُحَمَّدٍ " أَوْ نَحْوَ هَذَا . قَالَ : وَفِي مَعْنَى الْآيَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ بَارِعُ الْمَعْنَى . وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ : لَمْ يَكُونُوا هَؤُلَاءِ مُنْفَكِّينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَنَظَرِهِ لَهُمْ حَتَّى يَبْعَثُ إلَيْهِمْ رَسُولًا مُنْذِرًا تَقُومُ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةُ وَتَتِمُّ عَلَى مَنْ آمَنَ النِّعْمَةَ فَكَأَنَّهُ قَالَ : مَا كَانُوا [ ل ] يُتْرَكُوا سُدًى . قَالَ : وَلِهَذَا الْمَعْنَى نَظَائِرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ . وَقَدْ ذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ . لَكِنَّ الثَّالِثَ حَكَاهُ عَمَّنْ جَعَلَ مَقْصُودَهُ إهْلَاكَهُمْ بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ وَجَعَلَ " مُنْفَكِّينَ " بِمَعْنَى هَالِكِينَ . فَقَالَ : لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ مُنْتَهِينَ عَنْ كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ . وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ : زَائِلِينَ . تَقُولُ الْعَرَبُ : مَا انْفَكَّ فُلَانٌ يَفْعَلُ كَذَا أَيْ مَا زَالَ . وَأَصْلُ الْفَكِّ : الْفَتْحُ وَمِنْهُ فَكُّ الْكِتَابِ وَفَكُّ الْخَلْخَالِ . { حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ وَهُوَ مُحَمَّدٌ أَتَاهُمْ بِالْقُرْآنِ فَبَيَّنَ ضَلَالَتَهُمْ وَجَهَالَتَهُمْ . وَدَعَاهُمْ إلَى الْإِيمَانِ . قَالَ وَقَالَ ابْنُ كيسان : مَعْنَاهُ لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ تَارِكِينَ صِفَةَ مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِهِمْ حَتَّى بُعِثَ فَلَمَّا بُعِثَ تَفَرَّقُوا فِيهِ . وَقَالَ : قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ إلَى قَوْلِهِ : { فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } حُكْمُهَا فِيمَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ . { وَمَا تَفَرَّقَ } حُكْمُهُ فِيمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ . قَالَ وَقَالَ بَعْضُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ : قَوْلُهُ { مُنْفَكِّينَ } أَيْ هَالِكِينَ . مِنْ قَوْلِهِمْ : انْفَكَّ صَلَا الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ وَهُوَ أَنْ يَنْفَصِلَ وَلَا يَلْتَئِمَ فَتَهْلِكَ . وَمَعْنَى الْآيَةِ : لَمْ يَكُونُوا هَالِكِينَ مُكَذِّبِينَ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ وَإِنْزَالِ الْكِتَابِ . وَقَدْ ذَكَرَ البغوي هَذَا وَالْأَوَّلَ . قَالَ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ . ( قُلْت : الْقَوْلُ الثَّانِي الَّذِي حَكَاهُ عَنْ ابْنِ كيسان هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ . وَقَدْ قَدَّمَهُ المهدوي عَلَى الْأَوَّلِ فَقَالَ : { مُنْفَكِّينَ } مِنْ " انْفَكَّ الشَّيْءُ مِنْ الشَّيْءِ " إذَا فَارَقَهُ . وَالْمَعْنَى لَمْ يَكُونُوا مُتَفَرِّقِينَ إلَّا إذَا جَاءَهُمْ الرَّسُولُ لِمُفَارَقَتِهِمْ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ خَبَرِهِ وَصِفَتِهِ . وَكُفْرِهِمْ بَعْدَ الْبَيِّنَاتِ . قَالَ : وَلَا يَحْتَاجُ { مُنْفَكِّينَ } عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ إلَى خَبَرٍ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } . قَالَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ : الْمَعْنَى لَمْ يَكُونُوا مُنْتَهِينَ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ . وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا : لَمْ يَكُونُوا لِيُؤْمِنُوا حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ . قَالَ وَقَالَ الْفَرَّاءُ : لَمْ يَكُونُوا تَارِكِينَ ذِكْرَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ ذِكْرِ النَّبِيِّ حَتَّى ظَهَرَ . فَلَمَّا ظَهَرَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا . قُلْت : هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي قَدَّمَهُ . لَكِنَّ الْفَرَّاءَ وَابْنَ كيسان جَعَلَ الِانْفِكَاكَ مُفَارَقَتَهُمْ وَتَرْكَهُمْ لِذِكْرِهِ وَخَبَرِهِ وَالْبِشَارَةِ بِهِ . أَيْ لَمْ يَكُونُوا مُفَارِقِينَ تَارِكِينَ لِمَا عَلِمُوهُ مِنْ خَبَرِهِ حَتَّى ظَهَرَ . فَانْفَكُّوا حِينَئِذٍ . وَذَاكَ يَقُولُ : لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ أَيْ مُتَفَرِّقِينَ إلَّا إذَا جَاءَ الرَّسُولُ لِمُفَارَقَتِهِمْ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ خَبَرِهِ . وَهُوَ مَعْنَى مَا حَكَاهُ أَبُو الْفَرَجِ : لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ إلَيْهِمْ نَبِيًّا حَتَّى بُعِثَ فَافْتَرَقُوا . فَالِانْفِكَاكُ انْفِكَاكُ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ أَوْ انْفِكَاكُهُمْ عَمَّا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ عِلْمِهِ وَخَبَرِهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لَمْ يَرِدْ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَطْعًا . فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ أَهْلَ الْكِتَابِ بَلْ ذَكَرَ الْكُفَّارَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ وَيَذْكُرُونَهُ وَيَجِدُونَهُ فِي كُتُبِهِمْ كَمَا كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ . وَلَا كَانُوا قَبْلَ مَبْعَثِهِ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ مُتَّفِقِينَ عَلَيْهِ . فَلَمَّا جَاءَ تَفَرَّقُوا . فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ : لَمْ يَكُنْ الْمُشْرِكُونَ تَارِكِينَ لِمَعْرِفَةِ مُحَمَّدٍ وَذِكْرِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ . وَلَمْ يَكُونُوا مُخْتَلِفِينَ فِي ذَلِكَ وَلَا مُتَفَرِّقِينَ فِيهِ حَتَّى بُعِثَ . فَهَذَا مَعْنًى بَاطِلٌ فِي الْمُشْرِكِينَ . وَلَا يَسْتَقِيمُ هَذَا أَيْضًا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ . فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا ذَكَرَ الْكُفَّارَ مِنْهُمْ فَقَالَ : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَعْرِفُونَ نُبُوَّتَهُ وَيُقِرُّونَ بِهِ وَيَذْكُرُونَهُ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ لَمْ يَكُونُوا كُلَّهُمْ كُفَّارًا . بَلْ كَانَ الْإِيمَانُ أَغْلَبَ عَلَيْهِمْ . يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّهُ إذَا ذَكَرَ تَفَرُّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ فَإِنَّهُ يَعُمُّهُمْ فَيَقُولُ : { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } . وَأَنَّهُ لَا يَقُولُ : كَانَ الْكُفَّارُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مُتَّفِقِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ . وَأَيْضًا فَاسْتِعْمَالُ لَفْظِ " الِانْفِكَاكِ " فِي هَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ لَهُ شَاهِدٌ . فَتَسْمِيَةُ الِافْتِرَاقِ وَالِاخْتِلَافِ " انْفِكَاكًا " غَيْرُ مَعْرُوفٍ . وَأَيْضًا فَهُوَ لَمْ يَذْكُرْ ل { مُنْفَكِّينَ } خَبَرًا كَمَا يُقَالُ : مَا انْفَكُّوا يَذْكُرُونَ مُحَمَّدًا وَمَا زَالُوا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَهَذِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَخَوَاتِ " كَانَ " لَا يُقَالُ فِيهَا " مَا كُنْت مُنْفَكًّا " بَلْ يُقَالُ " مَا انْفَكَكْت أَفْعَلُ كَذَا " فَهُوَ يَلِي حَرْفَ " مَا " . وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِانْفِكَاكَ عَنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً . وَأَيْضًا فَهَذَا الْمَعْنَى مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ : { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } . فَلَوْ أُرِيدَ بِهَذِهِ لَكَانَ تَكْرِيرًا مَحْضًا . وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ : أَشْهَرُ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُ غَيْرَهُ كالبغوي وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُ مَعْرُوفٌ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ كَمَا فِي التَّفْسِيرِ الْمَعْرُوفِ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ : { مُنْفَكِّينَ } قَالَ : مُنَافِقِينَ لَمْ يَكُونُوا لِيُؤْمِنُوا حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ : لَمْ يَزَالُوا مُقِيمِينَ عَلَى الشَّكِّ وَالرِّيبَةِ حَتَّى جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ وَالرُّسُلُ . وَهَذَا الْقَوْلُ يَتَضَمَّنُ مَدْحَهُمْ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَةِ وَلِهَذَا احْتَاجَ مَنْ قَالَهُ إلَى أَنْ يَقُولَ : هَذَا فِيمَنْ آمَنُ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ فِي أَنَّهُ بَيَانٌ لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ . وَجَعَلُوا قَوْلَهُ : { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } فِيمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْهُمْ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وهذا أَيْضًا ضَعِيفٌ . فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا قَبْلَ إرْسَالِ مُحَمَّدٍ إلَيْهِمْ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } { وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } . وَقَالَ : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } ثُمَّ قَالَ { وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } . فَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ هَدَى الْمُؤْمِنِينَ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ . فَكَانَ الِاخْتِلَافُ قَبْلَ وُجُودِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } { وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } فَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَرْسَلَ إلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِ مُحَمَّدٍ وَأَنَّ الشَّيْطَانَ زَيَّنَ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُوَ حِينَ يُبْعَثُ مُحَمَّدٌ وَلِيُّهُمْ وَأَنَّهُ أَنْزَلَ إلَيْهِمْ الْكِتَابَ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } { وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } وَقَالَ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ : { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } . فَهَذَا بَيَّنَ أَنَّهُمْ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ قَبْلَ مُحَمَّدٍ وَقَدْ نَهَى اللَّهُ أُمَّتَهُ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَقَالَ عَنْ الْيَهُودِ : { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَقَالَ : { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ } . وَقَدْ جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ فِي السُّنَنِ وَالْمَسْنَدِ مِنْ وُجُوهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { تَفَرَّقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً } . وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ كَابْنِ حَزْمٍ يُضَعِّفُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَبِلُوهَا وَصَدَّقُوهَا . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ . فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { نَحْنُ الآخرون السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ . فَهَذَا يَوْمُهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ . النَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ غَدًا لِلْيَهُودِ وَبَعْدَ غَد لِلنَّصَارَى } . وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ اخْتَلَفُوا وَتَفَرَّقُوا قَبْلَ إرْسَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . بَلْ الْيَهُودُ افْتَرَقُوا قَبْلَ مَجِيءِ الْمَسِيحِ ثُمَّ لَمَّا جَاءَ الْمَسِيحُ اخْتَلَفُوا فِيهِ . ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّصَارَى اخْتِلَافًا آخَرَ . فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّ قَوْلَهُ { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } هُوَ فِيمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِمُحَمَّدِ مِنْهُمْ ؟ . وَأَيْضًا فَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بِمُحَمَّدِ كُفَّارٌ وَهُمْ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } . وَهُمْ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا فِيمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَ مُحَمَّدٍ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْهُمْ قَبْلَ إرْسَالِ مُحَمَّدٍ . وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكْفُرْ بَلْ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْأَنْبِيَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } { يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ نَظَرَ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ إلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ . وَإِنَّ رَبِّي قَالَ لِي : قُمْ فِي قُرَيْشٍ فَأَنْذِرْهُمْ . فَقُلْت : أَيْ رَبِّ إذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي حَتَّى يَدَعُوهُ خُبْزَةً . فَقَالَ : إنِّي مُبْتَلِيك وَمُبْتَلٍ بِك وَمُنْزِلٌ عَلَيْك كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَأهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَا . فَابْعَثْ جُنْدًا نَبْعَثُ مِثْلَيْهِمْ وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَك مَنْ عَصَاك } وَالْحَدِيثُ أَطْوَلُ مِنْ هَذَا . وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ عَلَى الْآيَةِ فَنَقُولُ : الْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ لَفْظًا وَمَعْنًى . أَمَّا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَدَلَالَتِهِ وَبَيَانِهِ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا يَلْزَمُ بِهِ الْإِنْسَانُ يَعْنِي اخْتِيَارَهُ وَيَقْهَرُ عَلَيْهِ إذَا تَخَلَّصَ مِنْهُ . يُقَالُ : انْفَكَّ مِنْهُ كَالْأَسِيرِ وَالرَّقِيقِ الْمَقْهُورِ بِالرِّقِّ وَالْأَسْرِ . يُقَالُ : فَكَكْت الْأَسِيرَ فَانْفَكَّ وَفَكَكْت الرَّقَبَةَ . قَالَ تَعَالَى { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ } { فَكُّ رَقَبَةٍ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ : { عُودُوا الْمَرِيضَ وَأَطْعِمُوا الْجَائِعَ : وَفُكُّوا الْعَانِي } . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا سُئِلَ عَمَّا فِي الصَّحِيفَةِ فَقَالَ : فِيهَا الْعَقْلُ وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرِ . فَفَكُّهُ : فَصْلُهُ عَمَّنْ يَقْهَرُهُ وَيَسْتَوْلِي عَلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا . وَيُقَالُ : فُلَانٌ مَا يَفُكُّ فُلَانًا حَتَّى يُوقِعَهُ فِي كَذَا وَكَذَا وَالْمُتَوَلِّي لَا يَفُكُّ هَذَا حَتَّى يَفْعَلَ كَذَا يُقَالُ لِمَنْ لَزِمَ غَيْرَهُ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ إمَّا بِقُدْرَةِ وَقَهْرٍ وَإِمَّا بِتَحْسِينِ وَتَزْيِينٍ وَأَسْبَابٍ حَتَّى يَصِيرَ بِهَا مُطِيعًا لَهُ . وَيُقَالُ لِلْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ : هُوَ مَا يَنْفَكُّ مِنْ هَذَا كَمَا لَا يَنْفَكُّ الْأَسِيرُ وَالرَّقِيقُ مِنْ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ . فَقَوْلُهُ { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ } أَيْ لَمْ يَكُونُوا مَتْرُوكِينَ بِاخْتِيَارِ أَنْفُسِهِمْ يَفْعَلُونَ مَا يَهْوَوْنَهُ لَا حَجْرَ عَلَيْهِمْ كَمَا أَنَّ الْمُنْفَكَّ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ . وَهُوَ لَمْ يَقُلْ " مَفْكُوكِينَ " بَلْ قَالَ { مُنْفَكِّينَ } . وَهَذَا أَحْسَنُ فَإِنَّهُ نَفْيٌ لِفِعْلِهِمْ . وَلَوْ قَالَ " مَفْكُوكِينَ " كَانَ التَّقْدِيرُ : لَمْ يَكُونُوا مُسَيِّبِينَ مُخِلِّينَ فَهُوَ نَفْيٌ لِفِعْلِ غَيْرِهِمْ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَتْرُوكِينَ لَا يُؤْمَرُونَ وَلَا يُنْهَوْنَ وَلَا تُرْسَلُ إلَيْهِمْ رُسُلٌ بَلْ يَفْعَلُونَ مَا شَاءُوا مِمَّا تَهْوَاهُ الْأَنْفُسُ . وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ مَا يُخَلِّيهِمْ وَلَا يَتْرُكُهُمْ . فَهُوَ لَا يَفُكُّهُمْ حَتَّى يَبْعَثَ إلَيْهِمْ رَسُولًا . وَهَذَا كَقَوْلِهِ { أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى } لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى . أَيْ أَيَظُنُّ أَنَّ هَذَا يَكُونُ ؟ هَذَا مَا لَا يَكُونُ أَلْبَتَّةَ ; بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُؤْمَرَ وَيُنْهَى . وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } { أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ } . وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ أَيْ لِأَجْلِ إسْرَافِكُمْ نَتْرُكُ إنْزَالَ الذِّكْرِ وَنُعْرِضُ عَنْ إرْسَالِ الرُّسُلِ . وَمَنْ كَرِهَ إرْسَالَهُمْ ؟ فَإِنَّ الْأَوَّلَ تَكْذِيبٌ بِوُجُودِهِمْ وَالثَّانِي يَتَضَمَّنُ بُغْضَهُمْ وَكَرَاهَةَ مَا جَاءُوا بِهِ . قَالَ تَعَالَى { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } وَقَالَ عَنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ { وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ } وَأَمَّا مَنْ كَذَّبَ بِهِمْ بَعْدَ الْإِرْسَالِ فَكُفْرُهُ ظَاهِرٌ . وَلَكِنْ مَنْ ظَنَّ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرْسِلُ إلَيْهِ رَسُولًا وَأَنَّهُ يُتْرَكُ سُدًى مُهْمَلًا لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا ذَمَّهُ اللَّهُ إذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ إرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ كَمَا أَنَّهُ أَيْضًا لَا بُدَّ مِنْ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَقِيَامِ الْقِيَامَةِ . وَلِهَذَا يُنْكِرُ سُبْحَانَهُ عَلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ فَقَالَ تَعَالَى { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } { إنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ } وَقَالَ { وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } وَقَالَ عَنْ أُولِي الْأَلْبَابِ : { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } وَنَحْوُهُ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ وَالْمَعَادَ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ . وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ ظَنَّ أَوْ حَسِبَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ . وَهُوَ يَقْتَضِي وُجُوبَ وُقُوعِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ لَا يَقَعُ . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَلِ الْمُصَدِّقِينَ لِلرُّسُلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ جِهَةِ تَصْدِيقِ الْخَبَرِ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِذَلِكَ وَخَبَرُهُ صِدْقٌ . فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ مُخْبِرِهِ وَهُوَ وَاجِبٌ بِحُكْمِ وَعْدِهِ وَخَبَرِهِ . فَإِنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ سَيَكُونُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ . فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ عَلَى خِلَافِ مَا عَلِمَهُ وَأَخْبَرَ بِهِ وَكَتَبَهُ وَقَدَّرَهُ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ شَاءَ ذَلِكَ وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَلَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ كُلُّ مَا شَاءَهُ . لَكِنْ هَلْ يُقَالُ : إنَّ الْمَشِيئَةَ مُوجِبَةٌ فِيهِ نِزَاعٌ . وَكَذَلِكَ يُقَالُ : إنَّ ذَلِكَ وَجَبَ لِإِيجَابِهِ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ لِاقْتِضَاءِ حِكْمَتِهِ ذَلِكَ فِيهِ أَيْضًا نِزَاعٌ . وَمَا أَقْسَمَ لَيَفْعَلَنهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ . وَالْقَسَمُ مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الْخَبَرِ وَمَعْنَى الْحَضِّ وَالطَّلَبِ . لَكِنَّ فِي ثُبُوتِ الثَّانِي فِي حَقِّ اللَّهِ نِزَاعٌ بَيْنَ النَّاسِ كَقَوْلِهِ : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } وَقَوْلِهِ { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ } وَاَلَّذِينَ قَالُوا إنَّ حِكْمَتَهُ أَوْ حُكْمَهُ أَوْ مَشِيئَتَهُ تُوجِبُ ذَلِكَ يَقُولُونَ : إنَّ ذَلِكَ قَدْ يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ . فَيَقُولُونَ : أَنَّهُ قَدْ يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إرْسَالِ الرُّسُلِ . وَأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ فِي حُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ . وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الطَّوَائِفِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَا يُعْلَمُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِالْخَبَرِ وَهَذَا قَوْلُ الجهمية وَالْأَشْعَرِيَّةِ . وَذَاكَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ والكرامية وَالْحَنَفِيَّةِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ . وَأَمَّا أَصْحَابُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِهَذَا وَلَكِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ مَعَ السَّلَفِ يُثْبِتُونَ الْحِكْمَةَ وَالتَّعْلِيلَ . وَإِنَّمَا يَنْفِي ذَلِكَ مِنْهُمْ مَنْ وَافَقَ الجهمية الْمُجْبِرَةَ . كَالْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ . وَكَذَلِكَ جُمْهُورُهُمْ يُثْبِتُونَ لِلْأَفْعَالِ صِفَاتٍ بِهَا كَانَتْ حَسَنَةً أَوْ سَيِّئَةً قَبِيحَةً . لَا يَجْعَلُونَ حُسْنَهَا وَقُبْحَهَا تَرْجِيحًا لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِلَا مُرَجَّحٍ بَلْ لِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ كَمَا تَقُولهُ الجهمية وَمَنْ وَافَقَهُمْ . هَذَا قَوْلُ الْأَئِمَّةِ وَالْجُمْهُورِ كَمَا أَنَّ الْأَئِمَّةَ وَالْجُمْهُورَ عَلَى إثْبَاتِ الْقَدَرِ وَالْإِيمَانِ بِهِ وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ . لَا يَقُولُونَ بِقَوْلِ مَنْ أَنْكَرَ الْقَدَرَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ وَلَا بِقَوْلِ مَنْ أَنْكَرَ حِكْمَةَ الرَّبِّ مِنْ الجهمية الْمُجْبِرَةِ وَنَحْوِهِمْ . فَلَا يَقُولُونَ بِقَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ النفاة لِلْقَدَرِ وَلَا بِقَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ الْمُجْبِرَةِ الَّذِينَ يَسْتَلْزِمُ قَوْلُهُمْ إنْكَارَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْجَزَاءِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَا سِيَّمَا مَنْ أَفْصَحُ مِنْهُمْ بِذَلِكَ أَوْ قَالَ : إنَّ مَنْ شَهِدَ الْقَدَرَ سَقَطَ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ . فَآمَنُوا بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ فِي الْجُمْلَةِ وَأَوْجَبُوا مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَحَرَّمُوا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَآمَنُوا بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَاجْتَهَدُوا فِي مُتَابَعَةِ الرُّسُلِ . لَكِنْ أَخْطَئُوا حَيْثُ نَفَوْا الْقَدَرَ وَظَنُّوا أَنَّ إثْبَاتَهُ يُنَاقِضُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ [ وَالْوَعْدَ ] وَالْوَعِيدَ وَأَنَّهُ لَا يَتِمُّ إيمَانُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ عَادِلٌ صَادِقٌ حَتَّى يُكَذِّبُوا بِالْقَدَرِ وَبِإِخْرَاجِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ النَّارِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ ذَنْبٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعَذَابَ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ النَّارِ وَلَا يَرْحَمُهُ أَبَدًا . فَلَمْ يُجَوِّزُوا أَنْ يُعَذَّبَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ يُرْحَمَ بَلْ عِنْدَهُمْ مَنْ كَانَ لَهُ ذَنْبٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعَذَابَ لَمْ يُرْحَمْ أَبَدًا . وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَتَعَمَّدُوا تَكْذِيبَ الرُّسُلِ فَقَوْلُهُمْ هَذَا يَتَضَمَّنُ مُخَالَفَةَ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُرُوجِ أَهْلِ الذُّنُوبِ مِنْ النَّارِ وَشَفَاعَةِ الشُّفَعَاءِ فِيهِمْ . وَيَتَضَمَّنُ أَنَّهُمْ آيَسُوا الْخَلْقَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ مَعَ تَكْذِيبِهِمْ بِعُمُومِ خَلْقِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ حَيْثُ زَعَمُوا أَنَّ مِنْ الْحَوَادِثِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَا يَشَاؤُهُ وَلَا يَخْلُقُهُ . وَتَشَبَّهُوا بِالْمَجُوسِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ حَتَّى قِيلَ : الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ . وَقَابَلَهُمْ أُولَئِكَ فَتَوَقَّفُوا فِي خَبَرِ اللَّهِ مُطْلَقًا حَتَّى أَنْكَرُوا صِنْفَيْ الْعُمُومِ فَلَمْ يَعْلَمُوا بِخَبَرِهِ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ . فَلَا يَجْزِمُونَ بِالنَّجَاةِ لِلصِّنْفِ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَكَانُوا مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ طَاعَةً لِلَّهِ إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ سَيِّئَةٌ وَاحِدَةٌ صَغِيرَةٌ . وَلَا بِالْعَذَابِ لِلصِّنْفِ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُمْ أَفْجَرُ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَشَرِّهَا ; بَلْ يُجَوِّزُونَ مَعَ عِلْمِ اللَّهِ بِهَذَا وَبِهَذَا أَنْ يُعَذِّبَ أَهْلَ الْحَسَنَاتِ الْكَبِيرَةِ عَلَى سَيِّئَةٍ صَغِيرَةٍ عَذَابًا مَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَأَنْ يُدْخِلَ فُجَّارَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ الْجَنَّةَ مَعَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ . وَبَسْطُ الْكَلَامِ عَلَى هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لَهُ مَقَامٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ دَلَّتْ عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مَوَاضِعُ أُخَرُ مِنْ الْقُرْآنِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ يُرْسِلُ الرُّسُلَ إلَى النَّاسِ تَأْمُرُهُمْ وَتَنْهَاهُمْ يُرْسِلُهُمْ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ } يُنْذِرُونَ الَّذِينَ أَسَاءُوا عُقُوبَاتِ أَعْمَالِهِمْ وَيُبَشِّرُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ و { أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا } { مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا } فَقَوْلُهُ { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } بَيَانٌ مِنْهُ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَدَعَهُمْ وَيَتْرُكَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ . بَلْ لَا يَفُكُّهُمْ حَتَّى يُرْسِلَ إلَيْهِمْ الرَّسُولَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُ�