مسألة تالية
متن:
وَقَوْلُهُ { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } يُبَيِّنُ أَنَّ كُلَّ مَنْ رَغِبَ عَنْهَا فَقَدْ سَفِهَ نَفْسَهُ . وَفِيهِ مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ وَالْمَعْنَى قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَغَيْرِهِ مِنْ نُحَاةِ الْكُوفَةِ وَاخْتِيَارُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَكْثَرِ السَّلَفِ أَنَّ النَّفْسَ هِيَ الَّتِي سَفِهَتْ . فَإِنَّ " سَفِهَ " فِعْلٌ لَازِمٌ لَا يَتَعَدَّى لَكِنَّ الْمَعْنَى : إلَّا مَنْ كَانَ سَفِيهًا فَجَعَلَ الْفِعْلَ لَهُ وَنَصَبَ النَّفْسَ عَلَى التَّمْيِيزِ لَا النَّكِرَةِ كَقَوْلِهِ { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا } . وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ فَعَرَفُوا هَذَا وَهَذَا . قَالَ الْفَرَّاءُ : نَصْبُ النَّفْسِ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالتَّفْسِيرِ كَمَا يُقَالُ : ضِقْت بِالْأَمْرِ ذَرْعًا مَعْنَاهُ : ضَاقَ ذَرْعِي بِهِ . وَمِثْلُهُ { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا } أَيْ اشْتَعَلَ الشَّيْبَ فِي الرَّأْسِ . قَالَ : وَمِنْهُ قَوْلُهُ : أَلِمَ فُلَانٌ رَأَسَهُ وَوَجِعَ بَطْنَهُ وَرَشَدَ أَمْرَهُ . وَكَانَ الْأَصْلُ : سَفِهَتْ نَفْسُ زَيْدٍ وَرَشَدَ أَمْرُهُ فَلَمَّا حَوَّلَ الْفِعْلَ إلَى زَيْدٍ انْتَصَبَ مَا بَعْدَهُ عَلَى التَّمْيِيزِ . فَهَذِهِ شَوَاهِدُ عَرَفَهَا الْفَرَّاءُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ . وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ : غَبَنَ فُلَانٌ رَأْيَهُ وَبَطِرَ عَيْشَهُ . وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ { بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } أَيْ بَطِرَتْ نَفْسُ الْمَعِيشَةِ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ يَمَانِ بْنِ رَبَابٍ : حَمِقَ رَأْيُهُ وَنَفَسُهُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ السَّائِبِ : ضَلَّ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ وَقَوْلِ أَبِي رَوْقٍ : عَجَزَ رَأْيُهُ عَنْ نَفْسِهِ . وَالْبَصْرِيُّونَ لَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ . فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : جَهِلَ نَفْسَهُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ كيسان وَالزَّجَّاجُ . قَالَ : لِأَنَّ مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ فَقَدْ جَهِلَ نَفْسَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ خَالِقَهَا . وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ ضَعِيفٌ . فَإِنَّهُ إنْ قِيلَ إنَّ الْمَعْنَى صَحِيحٌ فَهُوَ إنَّمَا قَالَ ( سَفِهَ و " سَفُهَ " فِعْلٌ لَازِمٌ لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ و " جَهِلَ " فِعْلٌ مُتَعَدٍّ . وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ " سَفَّهْت كَذَا " أَلْبَتَّةَ بِمَعْنَى : جهلته . بَلْ قَالُوا : سَفُهَ بِالضَّمِّ سَفَاهَةً أَيْ صَارَ سَفِيهًا وَسَفِهَ بِالْكَسْرِ أَيْ حَصَلَ مِنْهُ سَفَهٌ كَمَا قَالُوا فِي " فَقِهَ وَفَقُهَ " . وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ : سَفِهَتْ الشُّرْبَ إذَا أَكْثَرْت مِنْهُ . وَهُوَ يُوَافِقُ مَا حَكَاهُ الْفَرَّاءُ أَيْ صَارَ شُرْبُهُ سَفِيهًا فَسَفِهَ شُرْبَهُ لَمَّا جَاوَزَ الْحَدَّ . وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَيُونُسُ : نُصِبَ بِإِسْقَاطِ الْخَافِضِ أَيْ سَفِهَ فِي نَفْسِهِ . وَقَوْلُهُمْ " بِإِسْقَاطِ الْخَافِضِ " لَيْسَ هُوَ أَصْلًا فَيُعْتَبَرُ بِهِ وَلَكِنْ قَدْ تَنْزِعُ حُرُوفُ الْجَرِّ فِي مَوَاضِعَ مَسْمُوعَةٍ فَيَتَعَدَّى الْفِعْلُ بِنَفْسِهِ . وَإِنْ كَانَ مَقِيسًا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ . ف " سَفِهَ " لَيْسَ مِنْ هَذَا لَا يُقَالُ : سَفِهْت أَمْرَ اللَّهِ وَلَا دِينَ الْإِسْلَامِ بِمَعْنَى : جَهِلْته أَيْ سَفِهْت فِيهِ . وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِالسَّفَهِ وَيُنْصَبُ عَلَى التَّمْيِيزِ مَا خُصَّ بِهِ . مِثْلُ نَفْسِهِ أَوْ شُرْبِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ كُلَّ مَنْ رَغِبَ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ فَهُوَ سَفِيهٌ . قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : رَغِبَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ وَابْتَدَعُوا الْيَهُودِيَّةَ والنصرانية وَلَيْسَتْ مِنْ اللَّهِ وَتَرَكُوا دِينَ إبْرَاهِيمَ . وَكَذَلِكَ قَالَ قتادة : بَدَّلُوا دِينَ الْأَنْبِيَاءِ وَاتَّبَعُوا الْمَنْسُوخَ . فَأَمَّا مُوسَى وَالْمَسِيحُ وَمَنْ اتَّبَعَهُمَا فَهُمْ عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ مُتَّبِعُونَ لَهُ وَهُوَ إمَامُهُمْ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ { إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا } . فَهُوَ يَتَنَاوَلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ قَبْلَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ وَبَعْدَ مَبْعَثِهِ . وَقِيلَ إنَّهُ عَامٌّ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : كُلُّ مُؤْمِنٍ وَلِيُّ إبْرَاهِيمَ مِمَّنْ مَضَى وَمِمَّنْ بَقِيَ . وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ : هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ صَدَّقُوا نَبِيَّ اللَّهِ وَاتَّبَعُوهُ وَكَانَ مُحَمَّدٌ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ . وَهَذَا وَغَيْرُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَلَيْسُوا عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ . فَإِنْ قِيلَ : فَالْمُشْرِكُ يَعْبُدُ اللَّهَ وَغَيْرَهُ بِدَلِيلِ قَوْلِ الْخَلِيلِ { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ } { أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ } { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } . فَقَدْ اسْتَثْنَاهُ مِمَّا يَعْبُدُونَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ } { إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي } وَاسْتَثْنَاهُ أَيْضًا . وَفِي الْمَسْنَدِ وَغَيْرِهِ حَدِيثُ { حُصَيْنٍ الخزاعي لَمَّا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا حُصَيْنُ كَمْ تَعْبُدُ الْيَوْمَ ؟ قَالَ : سَبْعَةُ آلِهَةٍ سِتَّةٌ فِي الْأَرْضِ وَوَاحِدٌ فِي السَّمَاءِ . قَالَ : فَمَنْ الَّذِي تَعُدُّ لِرَغْبَتِك وَرَهْبَتِك ؟ قَالَ : الَّذِي فِي السَّمَاءِ } . قِيلَ : هَذَا قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ كَمَا تَقُولُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى : نَحْنُ نَعْبُدُ اللَّهَ . فَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ عِبَادَتَهُ مَعَ الشِّرْكِ بِهِ عِبَادَةٌ وَهُمْ كَاذِبُونَ فِي هَذَا . وَأَمَّا قَوْلُ الْخَلِيلِ فَفِيهِ قَوْلَانِ . قَالَ طَائِفَةٌ : إنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ . وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ : كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ مَعَ آلِهَتِهِمْ . وَعَلَى هَذَا فَهَذَا لَفْظٌ مُقَيَّدٌ . فَإِنَّهُ قَالَ { مَا تَعْبُدُونَ } . فَسَمَّاهُ عِبَادَةً إذَا عَرَفَ الْمُرَادَ لَكِنْ لَيْسَتْ هِيَ الْعِبَادَةُ الَّتِي هِيَ عِنْدَ اللَّهِ عِبَادَةٌ . فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : " { أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ . مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ وَهُوَ كُلُّهُ لِلَّذِي أَشْرَكَ } " . وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } . سَمَّاهُ إيمَانًا مَعَ التَّقْيِيدِ وَإِلَّا فَالْمُشْرِكُ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ لَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ . وَقَدْ قَالَ { يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } . فَهَذَا مَعَ التَّقْيِيدِ . وَمَعَ الْإِطْلَاقِ فَالْإِيمَانُ هُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَالْبِشَارَةُ بِالْخَيْرِ .