مسألة تالية
متن:
سُورَةُ الْفَلَقِ وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ نَاصِرُ السُّنَّةِ قَامِعُ الْبِدْعَةِ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَد ابْنُ تيمية نَفَعَنَا الْمَوْلَى بِعُلُومِهِ - وَهُوَ مِمَّا كَتَبَهُ فِي الْقَلْعَةِ - فَصْلٌ فِي { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } قَالَ تَعَالَى : { فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى } وَقَالَ تَعَالَى : { فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا } وَالْفَلَقُ : فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالْقَبْضِ بِمَعْنَى الْمَقْبُوضِ فَكُلُّ مَا فَلَقَهُ الرَّبُّ فَهُوَ فَلَقٌ قَالَ الْحَسَنُ : الْفَلَقُ كُلُّ مَا انْفَلَقَ عَنْ شَيْءٍ : كَالصُّبْحِ وَالْحَبِّ وَالنَّوَى . قَالَ الزَّجَّاجُ : وَإِذَا تَأَمَّلْت الْخَلْقَ بَانَ لَك أَنَّ أَكْثَرَهُ عَنْ انْفِلَاقٍ كَالْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ وَالسَّحَابِ بِالْمَطَرِ . وَقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : الْفَلَقُ الصُّبْحُ فَإِنَّهُ يُقَالُ هَذَا أَبْيَنُ مِنْ فَلَقِ الصُّبْحِ وَفَرَقِ الصُّبْحِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْفَلَقُ الْخَلْقُ كُلُّهُ وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ أَوْ شَجَرَةٌ فِي جَهَنَّمَ أَوْ أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ جَهَنَّمَ فَهَذَا أَمْرٌ لَا تُعْرَفُ صِحَّتُهُ لَا بِدَلَالَةِ الِاسْمِ عَلَيْهِ وَلَا بِنَقْلِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فِي تَخْصِيصِ رُبُوبِيَّتِهِ بِذَلِكَ حِكْمَةٌ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ رَبُّ الْخَلْقِ أَوْ رَبُّ كُلِّ مَا انْفَلَقَ أَوْ رَبُّ النُّورِ الَّذِي يُظْهِرُهُ عَلَى الْعِبَادِ بِالنَّهَارِ فَإِنَّ فِي تَخْصِيصِ هَذَا بِالذِّكْرِ مَا يَظْهَرُ بِهِ عَظَمَةُ الرَّبِّ الْمُسْتَعَاذِ بِهِ وَإِذَا قِيلَ : الْفَلَقُ يَعُمُّ وَيَخُصُّ فَبِعُمُومِهِ لِلْخَلْقِ أَسْتَعِيذُ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَبِخُصُوصِهِ لِلنُّورِ النَّهَارِيِّ أَسْتَعِيذُ مِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إذَا وَقَبَ . فَإِنَّ الْغَاسِقَ قَدْ فُسِّرَ بِاللَّيْلِ كَقَوْلَةِ : { أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ } وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلِ اللُّغَةِ . قَالُوا : وَمَعْنَى { وَقَبَ } دَخَلَ فِي كُلِّ شَيْءٍ . قَالَ الزَّجَّاجُ : الْغَاسِقُ الْبَارِدُ وَقِيلَ اللَّيْلُ غَاسِقٌ لِأَنَّهُ أَبْرَدُ مِنْ النَّهَارِ وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ والنسائي { عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرَ إلَى الْقَمَرِ فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ تَعَوَّذِي بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّهِ فَإِنَّهُ الْغَاسِقُ إذَا وَقَبَ } وَرَوَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { أَنَّ الْغَاسِقَ النَّجْمُ } وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ هُوَ الثُّرَيَّا وَكَانَتْ الْأَسْقَامُ وَالطَّوَاعِينُ تَكْثُرُ عِنْدَ وُقُوعِهَا وَتَرْتَفِعُ عِنْدَ طُلُوعِهَا وَهَذَا الْمَرْفُوعُ قَدْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ مُنَافَاتَهُ لِمَنْ فَسَّرَهُ بِاللَّيْلِ فَجَعَلُوهُ قَوْلًا آخَرَ ثُمَّ فَسَّرُوا وُقُوبَهُ بِسُكُونِهِ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : وَيُقَالُ الْغَاسِقُ الْقَمَرُ إذَا كَسَفَ وَاسْوَدَّ . وَمَعْنَى وَقَبَ دَخَلَ فِي الْكُسُوفِ وَهَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُعَارَضُ بِقَوْلِ غَيْرِهِ وَهُوَ لَا يَقُولُ إلَّا الْحَقَّ وَهُوَ لَمْ يَأْمُرْ عَائِشَةَ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ عِنْدَ كُسُوفِهِ بَلْ مَعَ ظُهُورِهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً } فَالْقَمَرُ آيَةُ اللَّيْلِ . وَكَذَلِكَ النُّجُومُ إنَّمَا تَطْلُعُ فَتُرَى بِاللَّيْلِ فَأَمْرُهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ آيَةِ اللَّيْلِ وَدَلِيلُهُ وَعَلَامَتُهُ وَالدَّلِيلُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَدْلُولِ فَإِذَا كَانَ شَرُّ الْقَمَرِ مَوْجُودًا فَشَرُّ اللَّيْلِ مَوْجُودٌ وَلِلْقَمَرِ مِنْ التَّأْثِيرِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ فَتَكُونُ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ الشَّرِّ الْحَاصِلِ عَنْهُ أَقْوَى وَيَكُونُ هَذَا كَقَوْلِهِ عَنْ الْمَسْجِدِ الْمُؤَسَّسِ عَلَى التَّقْوَى : " هُوَ مَسْجِدِي هَذَا " مَعَ أَنَّ الْآيَةَ تَتَنَاوَلُ مَسْجِدَ قباء قَطْعًا . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَنْ أَهْلِ الْكِسَاءِ : " هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي " مَعَ أَنَّ الْقُرْآنَ يَتَنَاوَلُ نِسَاءَهُ فَالتَّخْصِيصُ لِكَوْنِ الْمَخْصُوصِ أَوْلَى بِالْوَصْفِ فَالْقَمَرُ أَحَقُّ مَا يَكُونُ بِاللَّيْلِ بِالِاسْتِعَاذَةِ وَاللَّيْلُ مُظْلِمٌ تَنْتَشِرُ فِيهِ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ مَا لَا تَنْتَشِرُ بِالنَّهَارِ وَيَجْرِي فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّرِّ مَا لَا يَجْرِي بِالنَّهَارِ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَالسِّحْرِ وَالسَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ وَالْفَوَاحِشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَالشَّرُّ دَائِمًا مَقْرُونٌ بِالظُّلْمَةِ وَلِهَذَا إنَّمَا جَعَلَهُ اللَّهُ لِسُكُونِ الْآدَمِيِّينَ وَرَاحَتِهِمْ لَكِنَّ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ تَفْعَلُ فِيهِ مِنْ الشَّرِّ مَا لَا يُمْكِنُهَا فِعْلُهُ بِالنَّهَارِ وَيَتَوَسَّلُونَ بِالْقَمَرِ وَبِدَعْوَتِهِ وَالْقَمَرِ وَعِبَادَتِهِ وَأَبُو مَعْشَرٍ البلخي لَهُ " مُصْحَفُ الْقَمَرِ " يَذْكُرُ فِيهِ مِنْ الكفريات وَالسِّحْرِيَّاتِ مَا يُنَاسِبُ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْهُ . فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ شَرِّ الْخَلْقِ عُمُومًا ثُمَّ خَصَّ الْأَمْرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّ الْغَاسِقِ إذَا وَقَبَ وَهُوَ الزَّمَانُ الَّذِي يَعُمُّ شَرُّهُ ثُمَّ خَصَّ بِالذِّكْرِ السِّحْرَ وَالْحَسَدَ . فَالسِّحْرُ يَكُونُ مِنْ الْأَنْفُسِ الْخَبِيثَةِ لَكِنْ بِالِاسْتِعَانَةِ بِالْأَشْيَاءِ كَالنَّفْثِ فِي الْعُقَدِ . وَالْحَسَدُ يَكُونُ مِنْ الْأَنْفُسِ الْخَبِيثَةِ أَيْضًا إمَّا بِالْعَيْنِ وَإِمَّا بِالظُّلْمِ بِاللِّسَانِ وَالْيَدِ وَخَصَّ مِنْ السِّحْرِ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَهُنَّ النِّسَاءُ . وَالْحَاسِدُ الرِّجَالُ فِي الْعَادَةِ وَيَكُونُ مِنْ الرِّجَالِ وَمِنْ النِّسَاءِ . وَالشَّرُّ الَّذِي يَكُونُ مِنْ الْأَنْفُسِ الْخَبِيثَةِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ : هُوَ شَرٌّ مُنْفَصِلٌ عَنْ الْإِنْسَانِ لَيْسَ هُوَ فِي قَلْبِهِ كَالْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ . وَفِي سُورَةِ النَّاسِ ذَكَرَ { الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ } فَإِنَّهُ مَبْدَأُ الْأَفْعَالِ الْمَذْمُومَةِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ فَفِيهَا الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ شَرِّ مَا يَدْخُلُ الْإِنْسَانُ مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَضُرُّهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ شَرِّ نَفْسِهِ . وَسُورَةُ الْفَلَقِ فِيهَا الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ شَرِّ الْمَخْلُوقَاتِ عُمُومًا وَخُصُوصًا وَلِهَذَا قِيلَ فِيهَا بِرَبِّ الْفَلَقِ وَقِيلَ فِي هَذِهِ بِرَبِّ النَّاسِ فَإِنَّ فَالِقَ الْإِصْبَاحِ بِالنُّورِ يُزِيلُ بِمَا فِي نُورِهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا فِي الظُّلْمَةِ مِنْ الشَّرِّ وَفَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى بَعْدَ انْعِقَادِهِمَا يُزِيلُ مَا فِي عُقَدِ النَّفَّاثَاتِ فَإِنَّ فَلْقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى أَعْظَمُ مِنْ حَلَّ عُقَدِ النَّفَّاثَاتِ وَكَذَلِكَ الْحَسَدُ هُوَ مِنْ ضِيقِ الْإِنْسَانِ وَشُحِّهِ لَا يَنْشَرِحُ صَدْرُهُ لِإِنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ فَرَبُّ الْفَلَقِ يُزِيلُ مَا يَحْصُلُ بِضِيقِ الْحَاسِدِ وَشُحِّهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَفْلِقُ شَيْئًا إلَّا بِخَيْرِ فَهُوَ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ بِالنُّورِ الْهَادِي وَالسِّرَاجِ الْوَهَّاجِ الَّذِي بِهِ صَلَاحُ الْعِبَادِ وَفَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى بِأَنْوَاعِ الْفَوَاكِهِ وَالْأَقْوَاتِ الَّتِي هِيَ رِزْقُ النَّاسِ وَدَوَابِّهِمْ وَالْإِنْسَانُ مُحْتَاجٌ إلَى جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ مِنْ الْهُدَى وَالرِّزْقِ وَهَذَا حَاصِلٌ بِالْفَلْقِ وَالرَّبُّ الَّذِي فَلَقَ لِلنَّاسِ مَا تَحْصُلُ بِهِ مَنَافِعُهُمْ يُسْتَعَاذُ بِهِ مِمَّا يَضُرُّ النَّاسَ فَيُطْلَبُ مِنْهُ تَمَامُ نِعْمَتِهِ بِصَرْفِ الْمُؤْذِيَاتِ عَنْ عَبْدِهِ الَّذِي ابْتَدَأَ بِإِنْعَامِهِ عَلَيْهِ وَفَلْقُ الشَّيْءِ عَنْ الشَّيْءِ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى تَمَامِ الْقُدْرَةِ وَإِخْرَاجِ الشَّيْءِ مِنْ ضِدِّهِ كَمَا يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَالْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَهَذَا مِنْ نَوْعِ الْفَلَقِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى دَفْعِ الضِّدِّ الْمُؤْذِي بِالضِّدِّ النَّافِعِ .