مسألة تالية
متن:
فَإِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَعَامَّةُ الْعُقَلَاءِ أَنَّ الْمَاهِيَّاتِ مَجْعُولَةٌ وَأَنَّ مَاهِيَّةَ كُلِّ شَيْءٍ عَيْنُ وُجُودِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ وُجُودُ الشَّيْءِ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى مَاهِيَّتِهِ بَلْ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ إلَّا الشَّيْءُ الَّذِي هُوَ الشَّيْءُ وَهُوَ عَيْنُهُ وَنَفْسُهُ وَمَاهِيَّتُهُ وَحَقِيقَتُهُ وَلَيْسَ وُجُودُهُ وَثُبُوتُهُ فِي الْخَارِجِ زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ . وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ الْوُجُودُ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْمَاهِيَّةِ وَيَقُولُونَ الْمَاهِيَّاتُ غَيْرُ مَجْعُولَةٍ وَيَقُولُونَ وُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهِ وَمِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ فَيَقُولُ : الْوُجُودُ الْوَاجِبُ عَيْنُ الْمَاهِيَّةِ . وَأَمَّا الْوُجُودُ الْمُمْكِنُ فَهُوَ زَائِدٌ عَلَى الْمَاهِيَّةِ . وَشُبْهَةُ هَؤُلَاءِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْلَمُ مَاهِيَّةَ الشَّيْءِ وَلَا يَعْلَمُ وُجُودَهُ وَأَنَّ الْوُجُودَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْمَوْجُودَاتِ وَمَاهِيَّةُ كُلِّ شَيْءٍ مُخْتَصَّةٌ بِهِ . وَمَنْ تَدَبَّرَ تَبَيَّنَ لَهُ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ فَإِنَّا قَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ الْوُجُودِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَيْنِيِّ ; وَهَذَا الْفَرْقُ ثَابِتٌ فِي الْوُجُودِ وَالْعَيْنِ وَالثُّبُوتِ وَالْمَاهِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَثُبُوتُ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي الْعِلْمِ وَالْكِتَابِ وَالْكَلَامِ : لَيْسَ هُوَ ثُبُوتُهَا فِي الْخَارِجِ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ ثُبُوتُ حَقِيقَتِهَا وَمَاهِيَّتِهَا الَّتِي هِيَ هِيَ فَالْإِنْسَانُ إذَا تَصَوَّرَ مَاهِيَّةً فَقَدْ عَلِمَ وُجُودَهَا الذِّهْنِيَّ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْوُجُودُ الْحَقِيقِيُّ الْخَارِجِيُّ . فَقَوْلُ الْقَائِلِ : قَدْ تَصَوَّرْت حَقِيقَةَ الشَّيْءِ وَعَيْنَهُ وَنَفْسَهُ وَمَاهِيَّتَهُ وَمَا عَلِمْت وُجُودَهُ أَوْ حَصَلَ وُجُودُهُ الْعِلْمِيُّ وَمَا حَصَلَ وُجُودُهُ الْعَيْنِيُّ الْحَقِيقِيُّ وَلَمْ يُعْلَمْ مَاهِيَّتُهُ الْحَقِيقِيَّةُ وَلَا عَيْنُهُ الْحَقِيقِيَّةُ وَلَا نَفْسُهُ الْحَقِيقِيَّةُ الْخَارِجِيَّةُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ لَفْظِ وُجُودِهِ وَلَفْظِ مَاهِيَّتِه ; إلَّا أَنَّ أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الذِّهْنِيِّ وَالْآخَرُ عَنْ الْخَارِجِيِّ فَجَاءَ الْفَرْقُ مِنْ جِهَةِ الْمَحَلِّ لَا مِنْ جِهَةِ الْمَاهِيَّةِ وَالْوُجُودِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ الْوُجُودَ مُشْتَرِكٌ وَالْحَقِيقَةَ لَا اشْتِرَاكَ فِيهَا - فَالْقَوْلُ فِيهِ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْوُجُودَ الْمُعَيَّنَ الْمَوْجُودَ فِي الْخَارِجِ لَا اشْتِرَاكَ فِيهِ كَمَا أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْمُعَيَّنَةَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْخَارِجِ لَا اشْتِرَاكَ فِيهَا ; وَإِنَّمَا الْعِلْمُ يُدْرِكُ الْمَوْجُودَ الْمُشْتَرِكَ كَمَا يُدْرِكُ الْمَاهِيَّةَ الْمُشْتَرِكَةَ فَالْمُشْتَرَكُ ثُبُوتُهُ فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ وَمَا فِي الْخَارِجِ لَيْسَ فِيهِ اشْتِرَاكٌ أَلْبَتَّةَ وَالذِّهْنُ إنْ أَدْرَكَ الْمَاهِيَّةَ الْمُعَيَّنَةَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْخَارِجِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا اشْتِرَاكٌ وَإِنَّمَا الِاشْتِرَاكُ فِيمَا يُدْرِكُهُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُطْلَقَةِ الْعَامَّةِ وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ شَيْءٌ مُطْلَقٌ عَامٌّ بِوَصْفِ الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ وَإِنَّمَا فِيهِ الْمُطْلَقُ لَا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ إلَّا مُعَيَّنًا . فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ ثُبُوتِ الشَّيْءِ وَوُجُودِهِ فِي نَفْسِهِ وَبَيْنَ ثُبُوتِهِ وَوُجُودِهِ فِي الْعِلْمِ فَإِنَّ ذَاكَ هُوَ الْوُجُودُ الْعَيْنِيُّ الْخَارِجِيُّ الْحَقِيقِيُّ وَأَمَّا هَذَا فَيُقَالُ لَهُ الْوُجُودُ الذِّهْنِيُّ وَالْعِلْمِيُّ وَمَا مِنْ شَيْءٍ إلَّا لَهُ هَذَانِ الثبوتان فَالْعِلْمُ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِاللَّفْظِ وَيُكْتَبُ اللَّفْظُ بِالْخَطِّ فَيَصِيرُ لِكُلِّ شَيْءٍ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ : وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ وَوُجُودٌ فِي الْأَذْهَانِ وَوُجُودٌ فِي اللِّسَانِ وَوُجُودٌ فِي الْبَنَانِ وُجُودٌ عَيْنِيٌّ وَعِلْمِيٌّ وَلَفْظِيٌّ وَرَسْمِيٌّ . وَلِهَذَا كَانَ أَوَّلُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ سُورَةَ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } ذَكَرَ فِيهَا النَّوْعَيْنِ فَقَالَ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } فَذَكَرَ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ بِوُجُودِهَا الْعَيْنِيِّ عُمُومًا ثُمَّ خُصُوصًا فَخَصَّ الْإِنْسَانَ بِالْخَلْقِ بَعْدَمَا عَمَّ غَيْرَهُ ثُمَّ قَالَ : { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } فَخَصَّ التَّعْلِيمَ لِلْإِنْسَانِ بَعْدَ تَعْمِيمِ التَّعْلِيمِ بِالْقَلَمِ وَذَكَرَ الْقَلَمَ لِأَنَّ التَّعْلِيمَ بِالْقَلَمِ هُوَ الْخَطُّ وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِتَعْلِيمِ اللَّفْظِ فَإِنَّ الْخَطَّ يُطَابِقُهُ وَتَعْلِيمُ اللَّفْظِ هُوَ الْبَيَانُ وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِتَعْلِيمِ الْعِلْمِ لِأَنَّ الْعِبَارَةَ تُطَابِقُ الْمَعْنَى . فَصَارَ تَعْلِيمُهُ بِالْقَلَمِ مُسْتَلْزِمًا لِلْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ : اللَّفْظِيِّ وَالْعِلْمِيِّ وَالرَّسْمِيِّ ; بِخِلَافِ مَا لَوْ أَطَلَقَ التَّعْلِيمَ أَوْ ذَكَرَ تَعْلِيمَ الْعِلْمِ فَقَطْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسْتَوْعِبًا لِلْمَرَاتِبِ . فَذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْوُجُودَ الْعَيْنِيَّ وَالْعِلْمِيَّ وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ مُعْطِيهِمَا ; فَهُوَ خَالِقُ الْخَلْقِ وَخَالِقُ الْإِنْسَانِ وَهُوَ الْمُعَلِّمُ بِالْقَلَمِ وَمُعَلِّمُ الْإِنْسَانِ . فَأَمَّا إثْبَاتُ وُجُودِ الشَّيْءِ فِي الْخَارِجِ قَبْلَ وُجُودِهِ فَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالْعَقْلِ وَالسَّمْعِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ .