مسألة تالية
متن:
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ فَصْلٌ فِي تَوَحُّدِ الْمِلَّةِ وَتَعَدُّدِ الشَّرَائِعِ وَتَنَوُّعِهَا وَتَوَحُّدِ الدِّينِ الملي دُونَ الشَّرْعِيِّ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إقْرَارٍ وَنَسْخٍ وَجَرَيَانِ ذَلِكَ فِي أَهْلِ الشَّرِيعَةِ الْوَاحِدَةِ بِنَوْعٍ مِنْ الِاعْتِبَارِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَامًا } فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ إمَامُ النَّاسِ كُلِّهِمْ وَقَالَ : { إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } . وَهُوَ : الْقُدْوَةُ الَّذِي يُؤْتَمُّ بِهِ وَهُوَ مُعَلِّمُ الْخَيْرِ وَقَالَ : { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } { إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } { وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } . فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ هُوَ سَفِيهٌ وَأَنَّهُ أَمَرَ بِالْإِسْلَامِ فَقَالَ : { أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } وَأَنَّ هَذِهِ وَصِيَّةٌ إلَى بَنِيهِ وَوَصِيَّةُ إسْرَائِيلَ إلَى بَنِيهِ وَقَدْ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ . ثُمَّ قَالَ : { وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } فَأَمَرَ بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ وَنَهَى عَنْ التَّهَوُّدِ وَالتَّنَصُّرِ وَأَمَرَ بِالْإِيمَانِ الْجَامِعِ كَمَا أَنْزَلَ عَلَى النَّبِيِّينَ وَمَا أُوتُوهُ وَالْإِسْلَامِ لَهُ وَأَنْ نُصْبَغَ بِصِبْغَةِ اللَّهِ وَأَنْ نَكُونَ لَهُ عَابِدِينَ وَرَدَّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ وَبَنِيهِ وَإِسْرَائِيلَ وَبَنِيهِ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى وَقَدْ قَالَ قَبْلَ هَذَا : { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ } الْآيَةَ وَالْمَعْنَى : وَلَنْ تَرْضَى عَنْك الْيَهُودُ حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ . وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ لِكُلِّ طَائِفَةٍ مِلَّةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ } وَقَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ السُّورَةِ : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ } إلَى آخِرِ السُّورَةِ كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِهَا : { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } فَفَتَحَهَا بِالْإِيمَانِ الْجَامِعِ وَخَتَمَهَا بِالْإِيمَانِ الْجَامِعِ وَوَسَّطَهَا بِالْإِيمَانِ الْجَامِعِ . وَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُعْطِيَ فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ وَجَوَامِعَهُ وَقَالَ تَعَالَى فِي آلِ عِمْرَانَ بَعْدَ أَنْ قَصَّ أَمْرَ الْمَسِيحِ وَيَحْيَى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } وَهِيَ { الَّتِي كَتَبَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ لَمَّا دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَقَالَ : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } { هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } { مَا كَانَ إبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } { إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } إلَى قَوْلِهِ : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } } فَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ يَبْغِي غَيْرَ دِينِ اللَّهِ . كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } { إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } فَأَخْبَرَ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَأَنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَصَارُوا عَلَى مِلَلٍ شَتَّى مَا اخْتَلَفُوا إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ وَفِيهِ بَيَانٌ أَنَّ الدِّينَ وَاحِدٌ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } { قُلْ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } هَذَا بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْأَنْبِيَاءُ فَقَالَ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ } . وَذَكَرَ فِي النَّحْلِ دَعْوَةَ الْمُرْسَلِينَ جَمِيعِهِمْ وَاتِّفَاقَهُمْ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَقَالَ : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } الْآيَةَ . وَقَالَ : { إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } { شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } { وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } وَقَالَ : { ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } . وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } وَقَالَ بَعْدَ أَنْ قَصَّ قِصَصَهُمْ : { إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } وَقَالَ فِي آخِرِهَا { قُلْ إنَّمَا يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَا إلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَقَالَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } { فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } . وَقَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْحَجِّ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا الْمِلَلَ السِّتَّ وَذَكَرَ مَا جَعَلَ لَهُمْ مِنْ الْمَنَاسِكِ وَالْمَعَابِدِ وَذَكَرَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ خُصُوصًا : { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ } وَقَالَ : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ } الْآيَةَ وَقَالَ : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ مَذْكُورٌ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ . وَكَذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِثْلَ مَا تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فَقَالَ : " بَابُ مَا جَاءَ فِي أَنَّ دِينَ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدٌ " وَذَكَرَ الْحَدِيثَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّا مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ إخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ } وَمِثْلَ صِفَتِهِ فِي التَّوْرَاةِ : { لَنْ أَقْبِضَهُ حَتَّى أُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ فَافْتَحْ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا } وَلِهَذَا وَحَّدَ الصِّرَاطَ وَالسَّبِيلَ فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } وَمِثْلَ قَوْله تَعَالَى { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ } وَمِثْلَ قَوْلِهِ : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ } وَقَوْلِهِ : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } { وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَقَوْلِهِ : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } . وَالْإِسْلَامُ دِينُ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إنْ أَجْرِيَ إلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } وَقَالَ اللَّهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَبَنِيهِ مَا تَقَدَّمَ وَقَالَ اللَّهُ عَنْ السَّحَرَةِ : { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } وَعَنْ فِرْعَوْنَ : { آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ } وَقَالَ الْحَوَارِيُّونَ : { آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } وَفِي السُّورَةِ الْأُخْرَى : { وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } وَقَالَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ : { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } وَقَالَ مُوسَى : { إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } وَقَالَتْ بلقيس : { رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وَقَالَ فِي التَّوْرَاةِ : { يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ } . قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : وَقَدْ قَرَّرْت فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ الْإِسْلَامَ الْعَامَّ وَالْخَاصَّ وَالْإِيمَانَ الْعَامَّ وَالْخَاصَّ كَقَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } . وَأَمَّا تَنَوُّعُ الشَّرَائِعِ وَتَعَدُّدُهَا فَقَالَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْقِبْلَةَ بَعْدَ الْمِلَّةِ بِقَوْلِهِ : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } فَأَخْبَرَ أَنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ وجهة وَلَمْ يَقُلْ جَعْلَنَا لِكُلِّ أُمَّةٍ وجهة بَلْ قَدْ يَكُونُ هُمْ ابْتَدَعُوهَا كَمَا ابْتَدَعَتْ النَّصَارَى وجهة الْمَشْرِقِ بِخِلَافِ مَا ذَكَرَهُ فِي الشَّرْعِ وَالْمَنَاهِجِ ; فَإِنَّهُ قَالَ : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } وَهَذِهِ الْآيَاتُ نَزَلَتْ بِسَبَبِ الْحُكْمِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَالدِّيَاتِ أَخْبَرَ أَنَّ التَّوْرَاةَ { يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا } وَهَذَا عَامٌّ فِي النَّبِيِّينَ جَمِيعِهِمْ والربانيين وَالْأَحْبَارِ . ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ الْإِنْجِيلَ قَالَ : { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ } فَأَمَرَ هَؤُلَاءِ بِالْحُكْمِ لِأَنَّ الْإِنْجِيلَ بَعْضُ مَا فِي التَّوْرَاةِ وَأَقَرَّ الْأَكْثَرُ وَالْحُكْمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ حُكْمُ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ أَيْضًا ثُمَّ قَالَ : { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } فَأَمَرَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْ الرَّسُولَيْنِ وَالْكِتَابَيْنِ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا أَيْ سُنَّةً وَسَبِيلًا فَالشِّرْعَةُ الشَّرِيعَةُ وَهِيَ السُّنَّةُ وَالْمِنْهَاجُ الطَّرِيقُ وَالسَّبِيلُ وَكَانَ هَذَا بَيَانُ وَجْهِ تَرْكِهِ لِمَا جَعَلَ لِغَيْرِهِ مِنْ السُّنَّةِ وَالْمِنْهَاجِ إلَى مَا جَعَلَ لَهُ ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْهِ فَالْأَوَّلُ نَهَى لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِمِنْهَاجِ غَيْرِهِ وَشِرْعَتِهِ وَالثَّانِي وَإِنْ كَانَ حُكْمًا غَيْرَ الْحُكْمِ الَّذِي أُنْزِلَ نَهَى لَهُ أَنْ يَتْرُكَ شَيْئًا مِمَّا أُنْزِلَ فِيهَا عَنْ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَمَنْ لَمْ يَتَّبِعْهُ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَاب الَّذِينَ أُمِرُوا أَنْ يَحْكُمُوا بِمَا فِيهَا مِمَّا يُخَالِفُ حُكْمَهُ . وَقَالَ تَعَالَى فِي الْحَجِّ : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } و { لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ } وَذَكَرَ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ : { لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } فَبَيَّنَ أَنَّهُ هُوَ جَعَلَ الْمَنَاسِكَ وَذَكَرَ مَوَاضِعَ الْعِبَادَاتِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْبَقَرَةِ الوجهة الَّتِي يَتَوَجَّهُونَ إلَيْهَا وَقَالَ فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ بَنِي إسْرَائِيلَ : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } الْآيَةَ وَقَالَ فِي النُّسَخِ وَوُجُوبِ اتِّبَاعِهِمْ لِلرَّسُولِ : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } إلَى قَوْلِهِ : { وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } . وَقَالَ : { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } الْآيَةَ وَاَلَّتِي بَعْدَهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ بِالْإِيمَانِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ .