تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَسُئِلَ : هَلْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ ؟ أَوْ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَالْبَاقِي مُخْطِئُونَ ؟ .
123
( فَأَجَابَ : قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَذَكَرَ نِزَاعَ النَّاسِ فِيهَا وَذَكَرَ أَنَّ لَفْظَ الْخَطَأِ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْإِثْمُ ; وَقَدْ يُرَادُ بِهِ عَدَمُ الْعِلْمِ . فَإِنْ أُرِيدَ الْأَوَّلُ فَكُلُّ مُجْتَهِدٍ اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ فَهُوَ مُصِيبٌ ; فَإِنَّهُ مُطِيعٌ لِلَّهِ لَيْسَ بِآثِمِ وَلَا مَذْمُومٍ . وَإِنْ أُرِيدَ الثَّانِي فَقَدْ يُخَصُّ بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ بِعِلْمِ خَفِيَ عَلَى غَيْرِهِ ; وَيَكُونُ ذَلِكَ عِلْمًا بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ لَوْ اطَّلَعَ عَلَيْهِ الْآخَرُ لَوَجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ ; لَكِنْ سَقَطَ عَنْهُ وُجُوبُ اتِّبَاعِهِ لِعَجْزِهِ عَنْهُ وَلَهُ أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ إلَى الصَّوَابِ لَهُ أَجْرَانِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ : { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ وَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } . وَلَفْظُ " الْخَطَأِ " يُسْتَعْمَلُ فِي الْعَمْدِ وَفِي غَيْرِ الْعَمْدِ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا } وَالْأَكْثَرُونَ يَقْرَءُونَ ( خِطْئًا عَلَى وَزْنِ رِدْءًا وَعِلْمًا . وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ ( خَطَأً عَلَى وَزْنِ عَمَلًا كَلَفْظِ الْخَطَأِ فِي قَوْلِهِ : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأً } . وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ( خِطَاءً عَلَى وَزْنِ هِجَاءً . وَقَرَأَ ابْنُ رَزِينٍ ( خَطَاءً عَلَى وَزْنِ شَرَابًا . وَقَرَأَ الْحَسَنُ وقتادة ( خطأ عَلَى وَزْنِ قَتْلًا . وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ ( خِطَا بِلَا هَمْزٍ عَلَى وَزْنِ عِدًى . قَالَ الْأَخْفَشُ : خَطَا يَخْطَأُ بِمَعْنَى : أَذْنَبَ وَلَيْسَ مَعْنَى أَخْطَأَ ; لِأَنَّ أَخْطَأَ فِي مَا لَمْ يَصْنَعْهُ عَمْدًا يَقُولُ فِيمَا أَتَيْته عَمْدًا خَطَّيْت ; وَفِيمَا لَمْ يَتَعَمَّدْهُ : أَخْطَأْت . وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ الْخَطَأُ : الْإِثْمُ يُقَالُ : قَدْ خَطَا يَخْطَأُ إذَا أَثِمَ وَأَخْطَأَ يُخْطِئُ إذَا فَارَقَ الصَّوَابَ . وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي قَوْلِهِ : { تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ } فَإِنَّ الْمُفَسِّرِينَ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ : [ قَالُوا ] لَمُذْنِبِينَ آثِمِينَ فِي أَمْرِك وَهُوَ كَمَا قَالُوا فَإِنَّهُمْ قَالُوا : { يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ } وَكَذَلِكَ قَالَ الْعَزِيزُ لِامْرَأَتِهِ : { وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ } قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : وَلِهَذَا اُخْتِيرَ خَاطِئِينَ عَلَى مُخْطِئِينَ وَإِنْ كَانَ أَخْطَأَ عَلَى أَلْسُنِ النَّاسِ أَكْثَرَ مِنْ خَطَا يُخْطِي ; لِأَنَّ مَعْنَى خَطَا يُخْطِي فَهُوَ خَاطِئٌ : آثِمٌ وَمَعْنَى أَخْطَأَ يُخْطِئُ : تَرَكَ الصَّوَابَ وَلَمْ يَأْثَمْ . قَالَ عِبَادُك يُخْطِئُونَ وَأَنْتَ رَبٌّ تَكْفُلُ الْمَنَايَا وَالْحُتُومَ وَقَالَ الْفَرَّاءُ : الْخَطَأُ : الْإِثْمُ الخطا والخطا وَالْخَطَاءُ مَمْدُودٌ . ثَلَاثُ اللُّغَاتٍ . قُلْت : يُقَالُ فِي الْعَمْدِ : خَطَأٌ كَمَا يُقَالُ فِي غَيْرِ الْعَمْدِ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ فَيُقَالُ لِغَيْرِ الْمُتَعَمِّدِ : أَخْطَأْت كَمَا يُقَالُ لَهُ : خَطَّيْت وَلَفْظُ الْخَطِيئَةِ مِنْ هَذَا . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا } وَقَوْلُ السَّحَرَةِ : { إنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ } . وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ : { يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى ; عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : { اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي هَزْلِي وَجِدِّي ; وَخَطَئِي وَعَمْدِي وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ; عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : أَرَأَيْت سُكُوتَك بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَاذَا تَقُولُ ؟ قَالَ : أَقُولُ : اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْت بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ } . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَالْمُجْتَهِدُ لَا يَكُونُ عَلَى خَطَأٍ وَكَرِهُوا أَنْ يُقَالَ لِلْمُجْتَهِدِ : إنَّهُ أَخْطَأَ هُمْ وَكَثِيرٌ مِنْ الْعَامَّةِ يَكْرَهُ أَنْ يُقَالَ عَنْ إمَامٍ كَبِيرٍ : إنَّهُ أَخْطَأَ وَقَوْلُهُ أَخْطَأَ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُسْتَعْمَلُ فِي الذَّنْبِ كَقِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ : إنَّهُ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا وَلِأَنَّهُ يُقَالُ فِي الْعَامِدِ : أَخْطَأَ يُخْطِئُ كَمَا قَالَ : { يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرُ لَكُمْ } فَصَارَ لَفْظُ الْخَطَأِ وَأَخْطَأَ قَدْ يَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ كَمَا يَخُصُّ غَيْرَ الْعَامِلِ وَأَمَّا لَفْظُ الْخَطِيئَةِ فَلَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الْإِثْمِ . وَالْمَشْهُورُ أَنَّ لَفْظَ الْخَطَأِ يُفَارِقُ الْعَمْدَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأً } الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ } . وَقَدْ بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْخَطَأَ يَنْقَسِمُ إلَى خَطَأٍ فِي الْفِعْلِ ; وَإِلَى خَطَأٍ فِي الْقَصْدِ . فَالْأَوَّلُ : أَنْ يَقْصِدَ الرَّمْيَ إلَى مَا يَجُوزُ رَمْيُهُ مِنْ صَيْدٍ وَهَدَفٍ فَيُخْطِئَ بِهَا وَهَذَا فِيهِ الْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ . وَالثَّانِي : أَنْ يُخْطِئَ فِي قَصْدِهِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ ; كَمَا أَخْطَأَ هُنَاكَ لِضَعْفِ الْقُوَّةِ وَهُوَ أَنْ يَرْمِيَ مَنْ يَعْتَقِدُهُ مُبَاحَ الدَّمِ وَيَكُونُ مَعْصُومَ الدَّمِ كَمَنَ قَتَلَ رَجُلًا فِي صُفُوفِ الْكُفَّارِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا وَالْخَطَأُ فِي الْعِلْمِ هُوَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ ; وَلِهَذَا قِيلَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ : إنَّهُ لَا دِيَةَ فِيهِ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ . وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } فَفَرَّقَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ وَقَالَ تَعَالَى : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : " قَدْ فَعَلْت " . فَلَفْظُ الْخَطَأِ وَأَخْطَأَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتَنَاوَلُ غَيْرَ الْعَامِدِ وَإِذَا ذَكَرَ مَعَ النِّسْيَانِ أَوْ ذَكَرَ فِي مُقَابَلَةِ الْعَامِدِ كَانَ نَصًّا فِيهِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَعَ الْقَرِينَةِ الْعَمْدُ أَوْ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ جَمِيعًا كَمَا فِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ ; وَفِي الْحَدِيثِ الْإِلَهِيِّ - إنْ كَانَ لَفْظُهُ كَمَا يَرْوِيهِ عَامَّةُ الْمُحَدِّثِينَ - " تُخْطِئُونَ " بِالضَّمِّ . وَأَمَّا اسْمُ الْخَاطِئِ فَلَمْ يَجِئْ فِي الْقُرْآنِ إلَّا لِلْإِثْمِ بِمَعْنَى الْخَطِيئَةِ كَقَوْلِهِ : { وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ } وَقَوْلِهِ : { لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ } وَقَوْلِهِ : { يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ } وَقَوْلِهِ : { لَا يَأْكُلُهُ إلَّا الْخَاطِئُونَ } . وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ غَيْرُ خَاطِئٍ وَغَيْرُ مُخْطِئٍ أَيْضًا إذَا أُرِيدَ بِالْخَطَأِ الْإِثْمُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَلَا يَكُونُ مِنْ مُجْتَهِدٍ خَطَأٌ وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ مَنْ قَالَ : كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَقَالُوا : الْخَطَأُ وَالْإِثْمُ مُتَلَازِمَانِ فَعِنْدَهُمْ لَفْظُ الْخَطَأِ كَلَفْظِ الْخَطِيئَةِ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَهُمْ يُسَلِّمُونَ أَنَّهُ يَخْفَى عَلَيْهِ بَعْضُ الْعِلْمِ الَّذِي عَجَزَ عَنْهُ لَكِنْ لَا يُسَمُّونَهُ خَطَأً ; لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ وَقَدْ يُسَمُّونَهُ خَطَأً إضَافِيًّا بِمَعْنَى : أَنَّهُ أَخْطَأَ شَيْئًا لَوْ عَلِمَهُ لَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتْبَعَهُ وَكَانَ هُوَ حُكْمَ اللَّهِ فِي حَقِّهِ ; وَلَكِنَّ الصَّحَابَةَ وَالْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَجُمْهُورَ السَّلَفِ يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْخَطَأِ عَلَى غَيْرِ الْعَمْدِ ; وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إثْمًا كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } . وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَابْنِ مَسْعُودٍ : أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ ; وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ . وَقَالَ عَلِيٌّ فِي قِصَّةِ الَّتِي أَرْسَلَ إلَيْهَا عُمَرُ فَأَسْقَطَتْ - لَمَّا قَالَ لَهُ عُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنْتَ مُؤَدِّبٌ وَلَا شَيْءَ عَلَيْك - إنْ كَانَا اجْتَهَدَا فَقَدْ أَخْطَآ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا اجْتَهَدَا فَقَدْ غَشَّاك . وَأَحْمَد يُفَرِّقُ فِي هَذَا الْبَابِ فَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَا مُعَارِضَ لَهُ كَانَ مَنْ أَخَذَ بِحَدِيثِ ضَعِيفٍ أَوْ قَوْلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مُخْطِئًا وَإِذَا كَانَ فِيهَا حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ نَظَرَ فِي الرَّاجِحِ فَأَخَذَ بِهِ ; وَلَا يَقُولُ لِمَنْ أَخَذَ بِالْآخَرِ إنَّهُ مُخْطِئٌ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَصٌّ اجْتَهَدَ فِيهَا بِرَأْيِهِ قَالَ : وَلَا أَدْرِي أَصَبْت الْحَقَّ أَمْ أَخْطَأْته ؟ فَفَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا نَصٌّ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ وَإِذَا عَمِلَ الرَّجُلُ بِنَصِّ وَفِيهَا نَصٌّ آخَرُ خَفِيَ عَلَيْهِ لَمْ يُسَمِّهِ مُخْطِئًا ; لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ ; لَكِنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ فِي تَعْيِينِ الْخَطَأِ فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : لَا أَقْطَعُ بِخَطَأِ مُنَازِعِي فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : أَقْطَعُ بِخَطَئِهِ . وَأَحْمَد فَصَّلَ وَهُوَ الصَّوَابُ . وَهُوَ إذَا قَطَعَ بِخَطَئِهِ بِمَعْنَى عَدَمِ الْعِلْمِ لَمْ يَقْطَعْ بِإِثْمِهِ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِي مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَجْتَهِدْ . وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِيهَا نَصٌّ خَفِيَ عَلَى بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ عِلْمُهُ وَلَوْ عَلِمَ بِهِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ ; لَكِنَّهُ لَمَّا خَفِيَ عَلَيْهِ اتَّبَعَ النَّصَّ الْآخَرَ وَهُوَ مَنْسُوخٌ أَوْ مَخْصُوصٌ : فَقَدْ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ كَاَلَّذِينَ صَلَّوْا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ أَنْ نُسِخَتْ وَقَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِالنَّسْخِ وَهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الْخِطَابِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِينَ إلَّا بَعْدَ تَمَكُّنِهِمْ مِنْ مَعْرِفَتِهِ فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ وَقِيلَ : يَثْبُتُ مَعْنَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ لَا بِمَعْنَى الْإِثْمِ وَقِيلَ يَثْبُتُ فِي الْخِطَابِ الْمُبْتَدَأِ دُونَ النَّاسِخِ وَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا لَمْ يَسْمَعْهُ الْمُجْتَهِدُ مِنْ النُّصُوصِ النَّاسِخَةِ أَوْ الْمَخْصُوصَةِ فَلَمْ تُمْكِنْهُ مَعْرِفَتُهُ فَحُكْمُهُ سَاقِطٌ عَنْهُ وَهُوَ مُطِيعٌ لِلَّهِ فِي عَمَلِهِ بِالنَّصِّ الْمَنْسُوخِ وَالْعَامِّ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيهِ . وَهُنَا تَنَازَعَ النَّاسُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : قِيلَ : عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الْحُكْمِ الْبَاطِنِ ; وَأَنَّهُ إذَا أَخْطَأَ كَانَ مُخْطِئًا عِنْدَ اللَّهِ وَفِي الْحُكْمِ تَارِكٌ لِمَا أُمِرَ بِهِ مَعَ قَوْلِهِمْ : إنَّهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ وَهَذَا تَنَاقُضٌ فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ مَا أُمِرَ بِهِ فَهُوَ آثِمٌ ; فَكَيْفَ يَكُونُ تَارِكًا لِمَأْمُورِ بِهِ وَهُوَ غَيْرُ آثِمٍ وَقِيلَ : بَلْ لَمْ يُؤْمَرْ قَطُّ بِالْحُكْمِ الْبَاطِنِ وَلَا هُوَ حُكْمٌ فِي حَقِّهِ وَلَا أَخْطَأَ حُكْمَ اللَّهِ وَلَا لِلَّهِ فِي الْبَاطِنِ حُكْمٌ فِي حَقِّهِ غَيْرَ مَا حَكَمَ بِهِ ; وَلَا يُقَالُ لَهُ : أَخْطَأَ ; فَإِنَّ الْخَطَأَ عِنْدَهُمْ مُلَازِمٌ لِلْإِثْمِ وَهُمْ يُسَلِّمُونَ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَهُ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ وَلَكَانَ حُكْمًا فِي حَقِّهِ فَكَانَ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا وَقَدْ خَالَفُوا فِي مَنْعِ اللَّفْظِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُمْ : لَيْسَ فِي الْبَاطِنِ حُكْمٌ خَطَأٌ ; بَلْ حُكْمُ اللَّهِ فِي الْبَاطِنِ هُوَ مَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ النَّاسِخُ وَالْخَاصُّ وَلَكِنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ فَسَقَطَ عَنْهُ لِعَجْزِهِ . وَقِيلَ : كَانَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ هُوَ الْأَمْرُ الْبَاطِنُ وَلَكِنْ لَمَّا اجْتَهَدَ فَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ هَذَا هُوَ حُكْمُ اللَّهِ انْتَقَلَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ ; فَصَارَ مَأْمُورًا بِهَذَا . وَالصَّحِيحُ : مَا قَالَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ : أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ ; وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إصَابَتُهُ فِي الْبَاطِنِ إذَا لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ ; فَإِنْ تَرَكَ الِاجْتِهَادَ أَثِمَ وَإِذَا اجْتَهَدَ وَلَمْ يَكُنْ فِي قُدْرَتِهِ أَنْ يَعْلَمَ الْبَاطِنَ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ مَعَ الْعَجْزِ وَلَكِنْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ وَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ بِشَرْطِ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْهُ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ فِي الْبَاطِنِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَقَدْ صَدَقَ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَبَيَّنَ اللَّهُ لَهُ الْحَقَّ فِي الْبَاطِنِ فَلَهُ أَجْرَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } وَلَا نَقُولُ : إنَّ حُكْمَ اللَّهِ انْتَقَلَ فِي حَقِّهِ فَكَانَ مَأْمُورًا قَبْلَ الِاجْتِهَادِ بِالْحَقِّ لِلْبَاطِنِ ثُمَّ صَارَ مَأْمُورًا بَعْدَ الِاجْتِهَادِ لِمَا ظَنَّهُ بَلْ مَا زَالَ مَأْمُورًا بِأَنْ يَجْتَهِدَ وَيَتَّقِيَ اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ وَهُوَ إنَّمَا أُمِرَ بِالْحَقِّ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ . فَإِذَا عَجَزَ عَنْهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالِاجْتِهَادِ فَإِذَا كَانَ اجْتِهَادُهُ اقْتَضَى قَوْلًا آخَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ ; لَا لِأَنَّهُ أُمِرَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ بَلْ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا يَقْتَضِيهِ اجْتِهَادُهُ وَبِمَا يُمْكِنُهُ مَعْرِفَتُهُ وَهُوَ لَمْ يَقْدِرْ إلَّا عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مَقْدُورُهُ لَا مِنْ جِهَةِ عَيْنِهِ كَالْمُجْتَهِدِينَ فِي الْقِبْلَةِ إذَا صَلَّوْا إلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ فَالْمُصِيبُ لِلْقِبْلَةِ وَاحِدٌ وَالْجَمِيعُ فَعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ لَا إثْمَ عَلَيْهِمْ وَتَعْيِينُ الْقِبْلَةِ سَقَطَ عَنْ الْعَاجِزِينَ عَنْ مَعْرِفَتِهَا وَصَارَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَقْدِرَ عَلَيْهِ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَهُوَ مَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ الْكَعْبَةُ بَعْدَ اجْتِهَادِهِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِعَيْنِ الصَّوَابِ لَكِنْ بِشَرْطِ الْقُدْرَةِ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَمَأْمُورٌ بِمَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ الصَّوَابُ وَأَنَّهُ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَإِذَا رَآهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - بَلْ مِنْ جِهَةِ قُدْرَتِهِ لَكِنْ إذَا كَانَ مُتَّبِعًا لِنَصِّ وَلَمْ يَبْلُغْهُ نَاسِخُهُ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِهِ إلَى أَنْ يَعْلَمَ النَّاسِخَ فَإِنَّ الْمَنْسُوخَ كَانَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَذَلِكَ لَا يُقْبَلُ إلَّا بَعْدَ بُلُوغِ النَّاسِخِ لَهُ . وَأَمَّا اللَّفْظُ الْعَامُّ إذَا كَانَ مَخْصُوصًا فَقَدْ يُقَالُ : صُورَةُ التَّخْصِيصِ لَمْ يُرِدْهَا الشَّارِعُ لَكِنْ هُوَ اعْتَقَدَ أَنَّهُ أَرَادَهَا لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْلَمْ التَّخْصِيصَ . وَهَكَذَا يُقَالُ فِيمَا نُسِخَ مِنْ النُّصُوصِ قَبْلَ أَنْ يَجِبَ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى الْمُجْتَهِدِ كَالنُّصُوصِ الَّتِي نُسِخَتْ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَعْلَمْ بَعْضُ النَّاسِ بِنَسْخِهَا ; وَقَدْ بَلَغَهُ الْمَنْسُوخُ بِهَا لَا يُقَالُ : إنَّ الْمَنْسُوخَ ثَبَتَ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا كَمَا قِيلَ فِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ الَّذِينَ وَجَبَ عَلَيْهِمْ اسْتِقْبَالُهَا بَاطِنًا وَظَاهِرًا قَبْلَ النَّسْخِ وَلَكِنْ يُقَالُ : مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّصُّ النَّاسِخُ وَبَلَغَهُ النَّصُّ الْآخَرُ فَعَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ وَعَلَى هَذَا فَتَخْتَلِفُ الْأَحْكَامُ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِينَ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ عَلَى مَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ فَمَنْ كَانَ غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ مِنْ مَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ الرَّاجِحِ كَالنَّاسِخِ وَالْمُخَصِّصِ ; فَهَذَا حُكْمُ اللَّهِ مِنْ جِهَةِ الْعَمَلِ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ دَلِيلٌ مُعَارِضٌ رَاجِحٌ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ مَعْرِفَتِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ إلَّا إذَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ . وَعَلَى هَذَا فَالْآيَةُ إذَا احْتَمَلَتْ مَعْنَيَيْنِ وَكَانَ ظُهُورُ أَحَدِهِمَا غَيْرَ مَعْلُومٍ لِبَعْضِ النَّاسِ بَلْ لَمْ يَعْلَمْ إلَّا مَا لَا يَظْهَرُ لِلْآخَرِ ; كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ بِمَا دَلَّهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى ; وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِمَا دَلَّهُ عَلَى الْمَعْنَى الْآخَرِ ; وَكُلٌّ مِنْهُمَا فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ لَكِنَّ حُكْمَ اللَّهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَاحِدٌ بِشَرْطِ الْقُدْرَةِ . وَإِذَا قِيلَ فَمَا فَعَلَهُ ذَاكَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ أَيْضًا قِيلَ : لَمْ يَأْمُرْ بِهِ عَيْنِيًّا بَلْ أَمَرَهُ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ ; وَيَعْمَلَ بِمَا ظَهَرَ لَهُ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ إلَّا هَذَا ; فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ مِنْ جِهَةِ جِنْسِ الْمَقْدُورِ وَالْمَعْلُومُ وَالظَّاهِرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُجْتَهِدِ ; لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ مِنْ جِهَةِ عَيْنِهِ نَفْسِهِ فَمَنْ قَالَ : لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ فَقَدْ أَصَابَ . وَمَنْ قَالَ : هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَدَرَ عَلَيْهِ وَعَلِمَهُ وَظَهَرَ لَهُ وَدَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ فَقَدْ أَصَابَ كَمَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَقَدْ غَلِطَا فِي الشَّهَادَةِ فَهُوَ مَأْمُورٌ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَةِ مَا شَهِدَا بِهِ مُطْلَقًا لَمْ يُؤْمَرْ بِغَيْرِ مَا شَهِدَا بِهِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ . وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مِمَّا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ ; فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ } فَهُوَ إذَا ظَهَرَتْ لَهُ حُجَّةُ أَحَدِهِمَا فَلَمْ يَذْكُرْ الْآخَرُ حُجَّتَهُ فَقَدْ عَمِلَ بِمَا ظَهَرَ لَهُ وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَهُوَ مُطِيعٌ لِلَّهِ فِي حَقِّهِ مِنْ جِهَةِ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ ; فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْبَاطِلِ وَالظُّلْمِ وَالْخَطَأِ وَلَكِنْ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْأَحْكَامَ النَّبَوِيَّةَ وَالْخَبَرِيَّةَ . وَالْمُجْتَهِدُ الْمُخْطِئُ لَهُ أَجْرٌ ; لِأَنَّ قَصْدَهُ الْحَقُّ وَطَلَبَهُ بِحَسَبِ وُسْعِهِ وَهُوَ لَا يَحْكُمُ إلَّا بِدَلِيلِ كَحُكْمِ الْحَاكِمِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ بِمَا عَلَيْهِ وَيَكُونُ قَدْ سَقَطَ بَعْدَ ذَلِكَ بِإِبْرَاءِ أَوْ قَضَاءٍ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ حُجَّةٌ وَحُكْمُهُ بِالْبَرَاءَةِ مَعَ الْيَمِينِ وَيَكُونُ قَدْ اشْتَغَلَتْ الذِّمَّةُ بِاقْتِرَاضِ أَوْ ابْتِيَاعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَكِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ حُجَّةٌ وَحُكِمَ لِرَبِّ الْيَدِ مَعَ الْيَمِينِ وَيَكُونُ قَدْ انْتَقَلَ الْمِلْكُ عَنْهُ أَوْ يَدُهُ يَدُ غَاصِبٍ ; لَكِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ حُجَّةٌ . وَكَذَلِكَ الْأَدِلَّةُ الْعَامَّةُ ; يَحْكُمُ الْمُجْتَهِدُ بِعُمُومِهِ وَمَا يَخُصُّهُ وَلَمْ يَبْلُغْهُ ; أَوْ بِنَصِّ وَقَدْ نُسِخَ وَلَمْ يَبْلُغْهُ ; أَوْ يَقُولُ بِقِيَاسِ ظَهَرَ وَفِيهِ التَّسْوِيَةُ ; وَتَكُونُ تِلْكَ الصُّورَةُ امْتَازَتْ بِفَرْقِ مُؤَثِّرٍ ; وَتَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ مَعْرِفَتُهُ ; فَإِنَّ تَأْثِيرَ الْفَرْقِ قَدْ يَكُونُ بِنَصِّ لَمْ يَبْلُغْهُ وَقَدْ يَكُونُ وَصْفًا خَفِيًّا . فَفِي الْجُمْلَةِ الْأَجْرُ هُوَ عَلَى اتِّبَاعِهِ الْحَقَّ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ ; وَ [ لَوْ ] كَانَ فِي الْبَاطِنِ حَقٌّ يُنَاقِضُهُ هُوَ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ لَوْ قَدَرَ عَلَى مَعْرِفَتِهِ ; لَكِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَهَذَا كَالْمُجْتَهِدِينَ فِي جِهَاتِ الْكَعْبَةِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ عَبَدَ عِبَادَةً نُهِيَ عَنْهَا وَلَمْ يَعْلَمْ بِالنَّهْيِ - لَكِنْ هِيَ مِنْ جِنْسِ الْمَأْمُورِ بِهِ - مِثْلَ مَنْ صَلَّى فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَبَلَغَهُ الْأَمْرُ الْعَامُّ بِالصَّلَاةِ وَلَمْ يَبْلُغْهُ النَّهْيُ أَوْ تَمَسَّكَ بِدَلِيلِ خَاصٍّ مَرْجُوحٍ مِثْلَ صَلَاةِ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّاهُمَا وَمِثْلَ صَلَاةٍ رُوِيَتْ فِيهَا أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ أَوْ مَوْضُوعَةٌ كَأَلْفِيَّةِ نِصْفِ شَعْبَانَ وَأَوَّلِ رَجَبَ وَصَلَاةِ التَّسْبِيحِ كَمَا جَوَّزَهَا ابْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ; فَإِنَّهَا إذَا دَخَلَتْ فِي عُمُومِ اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَبْلُغْهُ مَا يُوجِبُ النَّهْيَ أُثِيبَ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِيهَا نَهْيٌ مِنْ وَجْهٍ لَمْ يَعْلَمْ بِكَوْنِهَا بِدْعَةً تُتَّخَذُ شِعَارًا وَيَجْتَمِعُ عَلَيْهَا كُلَّ عَامٍ فَهُوَ مِثْلَ أَنْ يُحْدِثَ صَلَاةً سَادِسَةً ; وَلِهَذَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ مِثْلَ هَذِهِ الصَّلَاةِ بِلَا حَدِيثٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لَكِنْ لَمَّا رُوِيَ الْحَدِيثُ اعْتَقَدَ أَنَّهُ صَحِيحٌ فَغَلِطَ فِي ذَلِكَ فَهَذَا يُغْفَرُ لَهُ خَطَؤُهُ وَيُثَابُ عَلَى جِنْسِ الْمَشْرُوعِ . وَكَذَلِكَ مَنْ صَامَ يَوْمَ الْعِيدِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالنَّهْيِ . بِخِلَافِ مَا لَمْ يُشْرَعْ جِنْسُهُ مِثْلَ الشِّرْكِ فَإِنَّ هَذَا لَا ثَوَابَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ لَا يُعَاقِبُ صَاحِبَهُ إلَّا بَعْدَ بُلُوغِ الرِّسَالَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } لَكِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُعَذِّبُ فَإِنَّ هَذَا لَا يُثَابُ بَلْ هَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقَدِمْنَا إلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : هِيَ الْأَعْمَالُ الَّتِي عُمِلَتْ لِغَيْرِ اللَّهِ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ : هِيَ الْأَعْمَالُ الَّتِي لَمْ تُقْبَلْ . وَقَالَ تَعَالَى : { مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ } الْآيَةَ فَهَؤُلَاءِ أَعْمَالُهُمْ بَاطِلَةٌ لَا ثَوَابَ فِيهَا . وَإِذَا نَهَاهُمْ الرَّسُولُ عَنْهَا فَلَمْ يَنْتَهُوا عُوقِبُوا فَالْعِقَابُ عَلَيْهَا مَشْرُوطٌ بِتَبْلِيغِ الرَّسُولِ وَأَمَّا بُطْلَانُهَا فِي نَفْسِهَا فَلِأَنَّهَا غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهَا فَكُلُّ عِبَادَةٍ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهَا فَلَا بُدَّ أَنْ يُنْهَى عَنْهَا . ثُمَّ إنْ عَلِمَ أَنَّهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَفَعَلَهَا اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعِقَابَ وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّهَا مَأْمُورٌ بِهَا وَكَانَتْ مِنْ جِنْسِ الْمَشْرُوعِ فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الشِّرْكِ فَهَذَا الْجِنْسُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مَأْمُورٌ بِهِ لَكِنْ قَدْ يَحْسَبُ بَعْضُ النَّاسِ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِهِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ . وَهَذَا لَا يَكُونُ مُجْتَهِدًا ; لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا بُدَّ أَنْ يَتَّبِعَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا وَهَذِهِ لَا يَكُونُ عَلَيْهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ لَكِنْ قَدْ يَفْعَلُهَا بِاجْتِهَادِ مِثْلِهِ : وَهُوَ تَقْلِيدُهُ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الشُّيُوخِ وَالْعُلَمَاءِ وَاَلَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ قَدْ فَعَلُوهُ لِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ يَنْفَعُ ; أَوْ لِحَدِيثِ كَذِبٍ سَمِعُوهُ . فَهَؤُلَاءِ إذَا لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ بِالنَّهْيِ لَا يُعَذَّبُونَ وَأَمَّا الثَّوَابُ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ ثَوَابُهُمْ أَنَّهُمْ أَرْجَحُ مِنْ أَهْلِ جِنْسِهِمْ وَأَمَّا الثَّوَابُ بِالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ فَلَا يَكُونُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ .