تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تيمية - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ - : قَاعِدَةٌ فِي أَنَّ جِنْسَ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ جِنْسِ تَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَأَنَّ جِنْسَ تَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ جِنْسِ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَأَنَّ مَثُوبَةَ بَنِي آدَمَ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ أَعْظَمُ مِنْ مَثُوبَتِهِمْ عَلَى تَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ وَأَنَّ عُقُوبَتَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ أَعْظَمُ مِنْ عُقُوبَتِهِمْ عَلَى فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ . وَقَدْ ذَكَرْت بَعْضَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ لَمَّا ذَكَرْت أَنَّ الْعِلْمَ وَالْقَصْدَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْجُودِ بِطَرِيقِ الْأَصْلِ وَيَتَعَلَّقُ بِالْمَعْدُومِ بِطَرِيقِ التَّبَعِ . وَبَيَانُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا أَنَّ أَعْظَمَ الْحَسَنَاتِ هُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ ; وَأَعْظَمَ السَّيِّئَاتِ الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ فَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا ظَاهِرًا حَتَّى يُظْهِرَ أَصْلَ الْإِيمَانِ وَهُوَ : شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَشَهَادَةُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بَاطِنًا حَتَّى يُقِرَّ بِقَلْبِهِ بِذَلِكَ ; فَيَنْتَفِي عَنْهُ الشَّكُّ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ; مَعَ وُجُودِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَإِلَّا كَانَ كَمَنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } وَكَمَنْ قَالَ تَعَالَى فِيهِ : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } وَكَمَنْ قَالَ فِيهِ : { إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ } الْآيَةَ . وَالْكُفْرُ : عَدَمُ الْإِيمَانِ ; بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ سَوَاءٌ اعْتَقَدَ نَقِيضَهُ وَتَكَلَّمَ بِهِ أَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ شَيْئًا وَلَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْإِيمَانَ قَوْلًا وَعَمَلًا بِالْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ ; وَقَوْلِ مَنْ يَجْعَلُهُ نَفْسَ اعْتِقَادِ الْقَلْبِ كَقَوْلِ الجهمية وَأَكْثَرِ الْأَشْعَرِيَّةِ أَوْ إقْرَارِ اللِّسَانِ كَقَوْلِ الكرامية ; أَوْ جَمِيعِهَا كَقَوْلِ فُقَهَاءِ الْمُرْجِئَةِ وَبَعْضِ الْأَشْعَرِيَّةِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مَعَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ ; وَعَامَّةِ الصُّوفِيَّةِ ; وَطَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ مُتَكَلِّمِي السُّنَّةِ ; وَغَيْرِ مُتَكَلِّمِي السُّنَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ ; وَغَيْرِهِمْ : مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِالرِّسَالَةِ فَهُوَ كَافِرٌ سَوَاءٌ كَانَ مُكَذِّبًا ; أَوْ مُرْتَابًا ; أَوْ مُعْرِضًا ; أَوْ مُسْتَكْبِرًا ; أَوْ مُتَرَدِّدًا ; أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ أَصْلُ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْقِرَبِ وَالْحَسَنَاتِ وَالطَّاعَاتِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ وَالْكُفْرُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ وَالسَّيِّئَاتِ وَالْمَعَاصِي تَرْكَ هَذَا الْمَأْمُورِ بِهِ سَوَاءٌ اقْتَرَنَ بِهِ فِعْلٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مِنْ التَّكْذِيبِ أَوْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ شَيْءٌ بَلْ كَانَ تَرْكًا لِلْإِيمَانِ فَقَطْ : عُلِمَ أَنَّ جِنْسَ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ جِنْسِ تَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ . وَاعْلَمْ أَنَّ الْكُفْرَ بَعْضَهُ أَغْلَظُ مِنْ بَعْضٍ فَالْكَافِرُ الْمُكَذِّبُ أَعْظَمُ جُرْمًا مِنْ الْكَافِرِ غَيْرِ الْمُكَذِّبِ فَإِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ تَرْكِ الْإِيمَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَبَيْنَ التَّكْذِيبِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَمَنْ كَفَرَ وَكَذَّبَ وَحَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِيَدِهِ أَوْ لِسَانِهِ أَعْظَمُ جُرْمًا مِمَّنْ اقْتَصَرَ عَلَى مُجَرَّدِ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ وَمَنْ كَفَرَ وَقَتَلَ وَزَنَى وَسَرَقَ وَصَدَّ وَحَارَبَ كَانَ أَعْظَمَ جُرْمًا . كَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَالْمُؤْمِنُونَ فِيهِ مُتَفَاضِلُونَ تَفَاضُلًا عَظِيمًا وَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ دَرَجَاتٌ كَمَا أَنَّ أُولَئِكَ دَرَكَاتٌ فَالْمُقْتَصِدُونَ فِي الْإِيمَانِ أَفْضَلُ مِنْ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ وَالسَّابِقُونَ بِالْخَيْرَاتِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُقْتَصِدِينَ { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } الْآيَاتِ { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ } . وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا أَنَّ أَصْلَ الْإِيمَانِ مَأْمُورٌ بِهِ وَأَصْلَ الْكُفْرِ نَقِيضُهُ وَهُوَ تَرْكُ هَذَا الْإِيمَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَهَذَا الْوَجْهُ قَاطِعٌ بَيِّنٌ .