مسألة تالية
متن:
الْوَجْهُ الثَّامِنُ أَنَّ ضَلَالَ بَنِي آدَمَ وَخَطَأَهُمْ فِي أُصُولِ دِينِهِمْ وَفُرُوعِهِ إذَا تَأَمَّلْته تَجِدُ أَكْثَرَهُ مِنْ عَدَمِ التَّصْدِيقِ بِالْحَقِّ ; لَا مِنْ التَّصْدِيقِ بِالْبَاطِلِ . فَمَا مِنْ مَسْأَلَةٍ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهَا فِي الْغَالِبِ إلَّا وَتَجِدُ مَا أَثْبَتَهُ الْفَرِيقَانِ صَحِيحًا وَإِنَّمَا تَجِدُ الضَّلَالَ وَقَعَ مِنْ جِهَةِ النَّفْيِ وَالتَّكْذِيبِ . مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يَضِلُّوا مِنْ جِهَةِ مَا أَثْبَتُوهُ مِنْ وُجُودِ الْحَقِّ وَإِنَّمَا أَتَوْا مِنْ جِهَةِ مَا نَفَوْهُ مِنْ كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَحِينَئِذٍ وَقَعُوا فِي الشِّرْكِ وَكُلُّ أُمَّةٍ مُشْرِكَةٍ أَصْلُ شِرْكِهَا عَدَمُ كِتَابٍ مُنَزَّلٍ مِنْ السَّمَاءِ وَكُلُّ أُمَّةٍ مُخْلِصَةٍ أَصْلُ إخْلَاصِهَا كِتَابٌ مُنَزَّلٌ مِنْ السَّمَاءِ فَإِنَّ بَنِي آدَمَ مُحْتَاجُونَ إلَى شَرْعٍ يُكْمِلُ فِطَرَهُمْ فَافْتَتَحَ اللَّهُ الْجِنْسَ بِنُبُوَّةِ آدَمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } وَهَلُمَّ جَرَّا . فَمَنْ خَرَجَ عَنْ النُّبُوَّاتِ وَقَعَ فِي الشَّرَكِ وَغَيْرِهِ وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ كَافِرٍ غَيْرِ كِتَابِيٍّ فَإِنَّهُ مُشْرِكٌ وَشِرْكُهُ لِعَدَمِ إيمَانِهِ بِالرُّسُلِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } . وَلَمْ يَكُنْ الشِّرْكُ أَصْلًا فِي الْآدَمِيِّينَ بَلْ كَانَ آدَمَ وَمَنْ كَانَ عَلَى دِينِهِ مِنْ بَنِيهِ عَلَى التَّوْحِيدِ لِلَّهِ لِاتِّبَاعِهِمْ النُّبُوَّةَ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ النَّاسُ إلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ فَبِتَرْكِهِمْ اتِّبَاعَ شَرِيعَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَعُوا فِي الشِّرْكِ لَا بِوُقُوعِهِمْ فِي الشِّرْكِ خَرَجُوا عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ آدَمَ أَمَرَهُمْ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ حَيْثُ قَالَ لَهُ : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } { وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا } { قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } . فَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ آدَمَ وَغَيْرَهُ لَمَّا أهبطهم قَدْ تَضَمَّنَ أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعَ هُدَاهُ الْمُنَزَّلِ وَهُوَ الْوَحْيُ الْوَارِدُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ وَتَضَمَّنَ أَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يُكَذِّبْ بِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ وَإِنَّ مَعِيشَتَهُ تَكُونُ ضَنْكًا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ وَفِي الْبَرْزَخِ وَالْآخِرَةِ وَهِيَ الْمَضْنُوكَةُ النَّكِدَةُ الْمَحْشُوَّةُ بِأَنْوَاعِ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ كَمَا أَنَّ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ هِيَ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا . فَمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ فَإِنَّهُ لَا يُشْرِكُ بِرَبِّهِ فَإِنَّ الرُّسُلَ جَمِيعَهُمْ أَمَرُوا بِالتَّوْحِيدِ وَأُمِرُوا بِهِ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُوحِيَ بِالتَّوْحِيدِ إلَى كُلِّ رَسُولٍ وَقَالَ تَعَالَى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَشْرَعْ الشِّرْكَ قَطُّ فَهَذَانِ النَّصَّانِ قَدْ دَلَّا عَلَى أَنَّهُ أَمَرَ بِالتَّوْحِيدِ لِكُلِّ رَسُولٍ وَلَمْ يَأْمُرْ بِالْإِشْرَاكِ قَطُّ وَقَدْ أَمَرَ آدَمَ وَبَنِيهِ مِنْ حِينِ أُهْبِطَ بِاتِّبَاعِ هُدَاهُ الَّذِي يُوحِيهِ إلَى الْأَنْبِيَاءِ فَثَبَتَ أَنَّ عِلَّةَ الشِّرْكِ كَانَ مِنْ تَرْكِ اتِّبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ فِيمَا أَمَرُوا بِهِ مِنْ التَّوْحِيدِ وَالدِّينِ لَا أَنَّ الشِّرْكَ كَانَ عِلَّةً لِلْكُفْرِ بِالرُّسُلِ فَإِنَّ الْإِشْرَاكَ وَالْكُفْرَ بِالرُّسُلِ مُتَلَازِمَانِ فِي الْوَاقِعِ فَهَذَا فِي الْكُفَّارِ بِالنُّبُوَّاتِ الْمُشْرِكِينَ . وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَإِنَّ الْيَهُودَ لَمْ يُؤْتُوا مِنْ جِهَةِ مَا أَقَرُّوا بِهِ مِنْ نُبُوَّةِ مُوسَى وَالْإِيمَانِ بِالتَّوْرَاةِ بَلْ هُمْ فِي ذَلِكَ مُهْتَدُونَ وَهُوَ رَأْسُ هُدَاهُمْ وَإِنَّمَا أُتُوا مِنْ جِهَةِ مَا لَمْ يُقِرُّوا بِهِ مِنْ رِسَالَةِ الْمَسِيحِ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ : { فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ } غَضَبٌ بِكُفْرِهِمْ بِالْمَسِيحِ وَغَضَبٌ بِكُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا مِنْ بَابِ تَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ . وَكَذَلِكَ النَّصَارَى لَمْ يُؤْتُوا مِنْ جِهَةِ مَا أَقَرُّوا بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ بِأَنْبِيَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ وَالْمَسِيحِ وَإِنَّمَا أُتُوا مِنْ جِهَةِ كُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا مَا وَقَعُوا فِيهِ مِنْ التَّثْلِيثِ وَالِاتِّحَادِ الَّذِي كَفَرُوا فِيهِ بِالتَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ فَهُوَ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ اتِّبَاعِهِمْ لِنُصُوصِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الْمُحْكَمَةِ الَّتِي تَأْمُرُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَتُبَيِّنُ عُبُودِيَّةَ الْمَسِيحِ وَأَنَّهُ عَبْدٌ لِلَّهِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ : { مَا قُلْتُ لَهُمْ إلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } فَلَمَّا تَرَكُوا اتِّبَاعَ هَذِهِ النُّصُوصِ إيمَانًا وَعَمَلًا وَعِنْدَهُمْ رَغْبَةٌ فِي الْعِبَادَةِ وَالتَّأَلُّهِ ابْتَدَعُوا الرَّهْبَانِيَّةَ وَغَلَوْا فِي الْمَسِيحِ هَوًى مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ وَتَمَسَّكُوا بِمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلِمَاتِ لِظَنِّ ظَنُّوهُ فِيهَا وَهَوًى اتَّبَعُوهُ خَرَجَ بِهِمْ عَنْ الْحَقِّ فَهُمْ { إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } وَلِهَذَا كَانَ سِيمَاهُمْ الضَّلَالَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } . وَالضَّالُّ ضِدُّ الْمُهْتَدِي وَهُوَ الْعَادِلُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ بِلَا عِلْمٍ وَعَدَمُ الْعِلْمِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْهُدَى بِالْمَأْمُورِ تَرْكُ وَاجِبٍ فَأَصْلُ كُفْرِهِمْ تَرْكُ الْوَاجِبِ وَحِينَئِذٍ تَفَرَّقُوا فِي التَّثْلِيثِ وَالِاتِّحَادِ وَوَقَعَتْ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ وَصَارُوا مَلَكِيَّةً ; وَيَعْقُوبِيَّةً ; ونسطورية ; وَغَيْرَهُمْ وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ مَعَ أَنَّ هَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا ; لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ أَنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ سَبَبٌ لِفِعْلِ الْمُحَرَّمِ قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُمْ تَرَكُوا بَعْضَ مَا أُمِرُوا بِهِ فَكَانَ تَرْكُهُ سَبَبًا لِوُقُوعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ الْمُحَرَّمَيْنِ وَكَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ يَكُونُ سَبَبًا لِفِعْلِ الْمُحَرَّمِ كَالْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَالسَّبَبُ أَقْوَى مِنْ الْمُسَبِّبِ . وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْيَهُودِ : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ } فَنَقْضُ الْمِيثَاقِ تَرْكُ مَا أُمِرُوا بِهِ ; فَإِنَّ الْمِيثَاقَ يَتَضَمَّنُ وَاجِبَاتٍ وَهِيَ قَوْلُهُ : { وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } الْآيَاتِ . فَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ بِتَرْكِ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمِيثَاقِ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا بِالْأَمْرِ حَصَلَتْ لَهُمْ هَذِهِ الْعُقُوبَاتُ الَّتِي مِنْهَا فِعْلُ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ قَسْوَةِ الْقُلُوبِ ; وَتَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ ; وَأَنَّهُمْ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ . وَأَخْبَرَ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ أَنَّهُ أَلْقَى بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي قَوْلِهِ : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } الْآيَةَ وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ السَّلَفِ مِثْلُ قتادة وَغَيْرِهِ فِي فِرَقِ النَّصَارَى مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ . وَهَكَذَا إذَا تَأَمَّلْت أَهْلَ الضَّلَالِ وَالْخَطَأِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ تَجِدُ الْأَصْلَ تَرْكَ الْحَسَنَاتِ لَا فِعْلَ السَّيِّئَاتِ وَأَنَّهُمْ فِيمَا يُثْبِتُونَهُ أَصْلُ أَمْرِهِمْ صَحِيحٌ وَإِنَّمَا أُتُوا مِنْ جِهَةِ مَا نَفَوْهُ وَالْإِثْبَاتُ فِعْلُ حَسَنَةٍ وَالنَّفْيُ تَرْكُ سَيِّئَةٍ فَعُلِمَ أَنَّ تَرْكَ الْحَسَنَاتِ أَضَرُّ مِنْ فِعْلِ السَّيِّئَاتِ وَهُوَ أَصْلُهُ . مِثَالُ ذَلِكَ : أَنَّ الوعيدية مِنْ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ فِيمَا يُعَظِّمُونَهُ مِنْ أَمْرِ الْمَعَاصِي وَالنَّهْيِ عَنْهَا وَاتِّبَاعِ الْقُرْآنِ وَتَعْظِيمِهِ أَحْسَنُوا لَكِنْ إنَّمَا أُتُوا مِنْ جِهَةِ عَدَمِ اتِّبَاعِهِمْ لِلسُّنَّةِ وَإِيمَانِهِمْ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ الرَّحْمَةِ لِلْمُؤْمِنِ وَإِنْ كَانَ ذَا كَبِيرَةٍ . وَكَذَلِكَ الْمُرْجِئَةُ فِيمَا أَثْبَتُوهُ مِنْ إيمَانِ أَهْلِ الذُّنُوبِ وَالرَّحْمَةِ لَهُمْ أَحْسَنُوا لَكِنْ إنَّمَا أَصْلُ إسَاءَتِهِمْ مِنْ جِهَةِ مَا نَفَوْهُ مِنْ دُخُولِ الْأَعْمَالِ فِي الْإِيمَانِ وَعُقُوبَاتِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ . فَالْأَوَّلُونَ بَالَغُوا فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ; وَقَصَّرُوا فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ . وَهَؤُلَاءِ قَصَّرُوا فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَفِي الْأَمْرِ بِكَثِيرِ مِنْ الْمَعْرُوفِ . وَكَذَلِكَ الْقَدَرِيَّةُ هُمْ فِي تَعْظِيمِ الْمَعَاصِي وَذَمِّ فَاعِلِهَا وَتَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ الظُّلْمِ وَفِعْلِ الْقَبِيحِ مُحْسِنُونَ وَإِنَّمَا أَسَاءُوا فِي نَفْيِهِمْ مَشِيئَةَ اللَّهِ الشَّامِلَةَ وَقُدْرَتَهُ الْكَامِلَةَ وَعِلْمَهُ الْقَدِيمَ أَيْضًا . وَكَذَلِكَ الجهمية ; فَإِنَّ أَصْلَ ضَلَالِهِمْ إنَّمَا هُوَ التَّعْطِيلُ وَجَحْدُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ . وَالْأَمْرُ فِيهِمْ ظَاهِرٌ جِدًّا . وَلِهَذَا قُلْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الرُّسُلَ جَاءُوا بِالْإِثْبَاتِ الْمُفَصَّلِ وَالنَّفْيِ الْمُجْمَلِ وَالْكُفَّارَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ الصَّابِئِينَ وَالْمُشْرِكِينَ جَاءُوا بِالنَّفْيِ الْمُفَصَّلِ وَالْإِثْبَاتِ الْمُجْمَلِ وَالْإِثْبَاتُ فِعْلُ حَسَنَاتٍ مَأْمُورٍ بِهَا إيجَابًا وَاسْتِحْبَابًا وَالنَّفْيُ تَرْكُ سَيِّئَاتٍ أَوْ حَسَنَاتٍ مَأْمُورٍ بِهَا فَعُلِمَ أَنَّ ضَلَالَهُمْ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْوَاجِبِ وَتَرْكِ الْإِثْبَاتِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَالْأُمُورُ نَوْعَانِ : إخْبَارٌ ; وَإِنْشَاءٌ . فَالْإِخْبَارُ يَنْقَسِمُ إلَى إثْبَاتٍ وَنَفْيٍ : إيجَابٍ وَسَلْبٍ كَمَا يُقَالُ فِي تَقْسِيمِ الْقَضَايَا إلَى إيجَابٍ وَسَلْبٍ . وَالْإِنْشَاءُ فِيهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ . فَأَصْلُ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ هُوَ : إثْبَاتُ الْحَقِّ الْمَوْجُودِ ; وَفِعْلُ الْحَقِّ الْمَقْصُودِ ; وَتَرْكُ الْمُحَرَّمِ ; وَنَفْيُ الْبَاطِلِ تَبَعٌ . وَأَصْلُ الضَّلَالِ وَدِينِ الْبَاطِلِ : التَّكْذِيبُ بِالْحَقِّ الْمَوْجُودِ وَتَرْكُ الْحَقِّ الْمَقْصُودِ ثُمَّ فِعْلُ الْمُحَرَّمِ وَإِثْبَاتُ الْبَاطِلِ تَبَعٌ لِذَلِكَ . فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ تَنْفَتِحُ لَك بِهِ أَبْوَابٌ مِنْ الْهُدَى .