مسألة تالية
متن:
الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ أَنَّ فِعْلَ الْحَسَنَاتِ يُوجِبُ تَرْكَ السَّيِّئَاتِ وَلَيْسَ مُجَرَّدُ تَرْكِ السَّيِّئَاتِ يُوجِبُ فِعْلَ الْحَسَنَاتِ ; لِأَنَّ تَرْكَ السَّيِّئَاتِ مَعَ مُقْتَضِيهَا لَا يَكُونُ إلَّا بِحَسَنَةٍ وَفِعْلُ الْحَسَنَاتِ عِنْدَ عَدَمِ مُقْتَضِيهَا لَا يَقِفُ عَلَى تَرْكِ السَّيِّئَةِ وَذَلِكَ يُؤْجَرُ لِأَنَّهُ تَرَكَ السَّيِّئَاتِ مَعَ مُقْتَضِيهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ ابْنَ آدَمَ هَمَّامًا حَارِثًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ } " وَالْحَارِثُ : الْعَامِلُ الْكَاسِبُ وَالْهَمَّامُ : الْكَثِيرُ الْهَمِّ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ : مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ وَالْهَمِّ وَالْإِرَادَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِشُعُورِ وَإِحْسَاسٍ فَهُوَ حَسَّاسٌ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ دَائِمًا . وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : " { لَلْقَلْبُ أَشَدُّ تَقَلُّبًا مِنْ الْقِدْرِ إذَا اسْتَجْمَعَتْ غَلَيَانًا } " وَ " { مَثَلُ الْقَلْبِ مَثَلُ رِيشَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ } " وَ " { مَا مِنْ قَلْبٍ مِنْ قُلُوبِ الْعِبَادِ إلَّا بَيْنَ إصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ } " وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَعَدَمُ إحْسَاسِهِ وَحَرَكَتِهِ مُمْتَنِعٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إحْسَاسُهُ وَحَرَكَتُهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا أَوْ الْمُبَاحَاتِ وَإِلَّا كَانَ مِنْ السَّيِّئَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا فَصَارَ فِعْلُ الْحَسَنَاتِ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَيْنِ فَهُوَ أَشْرَفُ وَأَفْضَلُ . وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ : قَدْ يَمْتَنِعُ بِذَلِكَ عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا مِنْ جِهَةِ اجْتِمَاعِهِمَا فَإِنَّ الْإِيمَانَ ضِدُّ الْكُفْرِ ; وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ ضِدُّ السَّيِّئِ فَلَا يَكُونُ مُصَدِّقًا مُكَذِّبًا مُحِبًّا مُبْغِضًا . وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ اقْتِضَاءِ الْحَسَنَةِ تَرْكَ السَّيِّئَةِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } وَهَذَا مَحْسُوسٌ ; فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ وَتَدَبَّرَهُ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ لَهُ مِنْ الْمَعَاصِي أَوْ بَعْضِهَا وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَكَذَلِكَ نَفْسُ الْإِيمَانِ بِتَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ وَبِعَذَابِ اللَّهِ عَلَيْهَا بِصَدِّ الْقَلْبِ عَنْ إرَادَتِهَا . فَالْحَسَنَاتُ إمَّا ضِدُّ السَّيِّئَاتِ ; وَإِمَّا مَانِعَةٌ مِنْهَا فَهِيَ إمَّا ضِدٌّ وَإِمَّا صَدٌّ . وَإِنَّمَا تَكُونُ السَّيِّئَاتُ عِنْدَ ضَعْفِ الْحَسَنَاتِ الْمَانِعَةِ مِنْهَا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ ; وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ; وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } " فَإِنَّ كَمَالَ الْإِيمَانِ وَحَقِيقَتَهُ يَمْنَعُ ذَلِكَ فَلَا يَقَعُ إلَّا عِنْدَ نَوْعِ ضَعْفٍ فِي الْإِيمَانِ يُزِيلُ كَمَالِهِ . وَأَمَّا تَرْكُ السَّيِّئَاتِ : فَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ مُجَرَّدَ عَدَمِهَا فَالْعَدَمُ الْمَحْضُ لَا يُنَافِي شَيْئًا وَلَا يَقْتَضِيهِ بَلْ الْخَالِي الْقَلْبُ مُتَعَرِّضٌ لِلسَّيِّئَاتِ أَكْثَرَ مِنْ تَعَرُّضِهِ لِلْحَسَنَاتِ . وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الِامْتِنَاعُ مِنْ فِعْلِهَا ; فَهَذَا الِامْتِنَاعُ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ اعْتِقَادِ قُبْحِهَا وَقَصْدِ تَرْكِهَا وَهَذَا الِاعْتِقَادُ وَالِاقْتِصَادُ حَسَنَتَانِ مَأْمُورٌ بِهِمَا وَهُمَا مِنْ أَعْظَمِ الْحَسَنَاتِ . فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ وُجُودَ الْحَسَنَاتِ يَمْنَعُ السَّيِّئَاتِ وَأَنَّ عَدَمَ السَّيِّئَاتِ لَا يُوجِبُ الْحَسَنَاتِ فَصَارَ فِي وُجُودِ الْحَسَنَاتِ الْأَمْرَانِ بِخِلَافِ مُجَرَّدِ عَدَمِ السَّيِّئَاتِ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا أَمْرٌ وَاحِدٌ وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ . الْوَجْهُ الثَّامِنَ عَشَرَ أَنَّ فِعْلَ الْحَسَنَاتِ مُوجِبٌ لِلْحَسَنَاتِ أَيْضًا ; فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَقْتَضِي الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَدْعُو إلَى نَظِيرِهِ وَغَيْرِ نَظِيرِهِ ; كَمَا قِيلَ : إنَّ مِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةَ بَعْدَهَا . وَأَمَّا عَدَمُ السَّيِّئَةِ فَلَا يَقْتَضِي عَدَمَ سَيِّئَةٍ إلَّا إذَا كَانَ امْتِنَاعًا فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ وَمَا اقْتَضَى فَرْعًا أَفْضَلُ مِمَّا لَا يَقْتَضِي فَرْعًا لَهُ وَهَذَا مِنْ نَمَطِ الَّذِي قَبْلَهُ .