تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
الْوَجْهُ الثَّانِيَ وَالْعِشْرُونَ أَنَّ الْحَسَنَاتِ سَبَبٌ لِلتَّحْلِيلِ دِينًا وَكَوْنًا وَالسَّيِّئَاتِ سَبَبٌ لِلتَّحْرِيمِ دِينًا وَكَوْنًا ; فَإِنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ يَكُونُ حَمِيَّةً ; وَقَدْ يَكُونُ عُقُوبَةً وَالْإِحْلَالَ قَدْ يَكُونُ سِعَةً ; وَقَدْ يَكُونُ عُقُوبَةً وَفِتْنَةً قَالَ تَعَالَى : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } فَأَبَاحَ بَهِيمَةَ الْأَنْعَامِ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ غَيْرَ مُحَلِّي الصَّيْدِ وَهُوَ اعْتِقَادُ تَحْرِيمِ ذَلِكَ وَاجْتِنَابُهُ . وَقَالَ : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } إلَى قَوْلِهِ : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا نَزَلَتْ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ فَأَكْمَلَ اللَّهُ الدِّينَ بِإِيجَابِهِ لِمَا أَوْجَبَهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي آخِرُهَا الْحَجُّ وَتَحْرِيمِهِ لِلْمُحَرَّمَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَذَا مِنْ جِهَةِ شَرْعِهِ وَمِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ تَقْوِيَتُهُ وَإِعَانَتُهُ وَنَصْرُهُ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِنَا وَحَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِجَّةَ الْإِسْلَامِ فَلَمَّا أَكْمَلُوا الدِّينَ قَالَ عَقِبَ ذَلِكَ : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } فَكَانَ إحْلَالُهُ الطَّيِّبَاتِ يَوْمَ أَكْمَلَ الدِّينَ فَأَكْمَلَهُ تَحْرِيمًا وَتَحْلِيلًا لِمَا أَكْمَلُوهُ امْتِثَالًا . وَقَالَ : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } الْآيَةَ وَهِيَ بَيِّنَةٌ فِي الْإِصْلَاحِ وَالتَّقْوَى وَالْإِحْسَانِ مُوجِبَةٌ لِرَفْعِ الْحَرَجِ وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ الْعَامِلَ الصَّالِحَاتِ الْمُحْسِنَ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ وَلَا جُنَاحَ فِيمَا طَعِمَ فَإِنَّ فِيهِ عَوْنًا لَهُ وَقُوَّةً عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْإِحْسَانِ : وَمَنْ سِوَاهُمْ عَلَى الْحَرَجِ وَالْجُنَاحِ ; لِأَنَّ النِّعَمَ إنَّمَا خَلَقَهَا اللَّهُ لِيُسْتَعَانَ بِهَا عَلَى الطَّاعَةِ وَالْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ وَهِيَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ وَقَالَ تَعَالَى عَنْ إبْرَاهِيمَ : { وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } وَقَالَ : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَقَالَ : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } . وَقَالَ . { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ } { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } . وَأَمَّا الطَّرَفُ الْآخَرُ فَقَالَ تَعَالَى : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا } { وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ } وَقَالَ : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } إلَى قَوْلِهِ : { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ } إلَى آخِرِ الْآيَاتِ . وَأَمَّا كَوْنُ الْإِحْلَالِ وَالْإِعْطَاءِ فِتْنَةً فَقَوْلُهُ : { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا } { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ } { فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } الْآيَاتِ { إنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } { يَا بَنِي إسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى } . وَيَخْتَلِفُ التَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ بِاعْتِبَارِ النِّيَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إنْ أَرَادُوا إصْلَاحًا } وَقَالَ : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ } وَقَدْ كَتَبْت فِي قَاعِدَةِ " الْعُهُودِ وَالْعُقُودِ " - الْقَاعِدَةِ فِي الْعُهُودِ الدِّينِيَّةِ فِي الْقَوَاعِدِ الْمُطْلَقَةِ وَالْقَاعِدَةِ فِي الْعُقُودِ الدُّنْيَوِيَّةِ فِي الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ ; وَفِي كِتَابِ النَّذْرِ أَيْضًا - أَنَّ مَا وَجَبَ بِالشَّرْعِ إنْ نَذَرَهُ الْعَبْدُ أَوْ عَاهَدَ اللَّهَ عَلَيْهِ أَوْ بَايَعَ عَلَيْهِ الرَّسُولَ أَوْ الْإِمَامَ أَوْ تَحَالَفَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ تَقْتَضِي لَهُ وُجُوبًا ثَانِيًا غَيْرَ الْوُجُوبِ الثَّابِتِ بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ فَتَكُونُ وَاجِبَةً مِنْ وَجْهَيْنِ بِحَيْثُ يَسْتَحِقُّ تَارِكُهَا مِنْ الْعُقُوبَةِ مَا يَسْتَحِقُّهُ نَاقِضُ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ عَاصِي اللَّهِ وَرَسُولِهِ . هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ . وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : إنَّهُ إذَا نَذَرَ وَاجِبًا فَهُوَ بَعْدَ النَّذْرِ كَمَا كَانَ قَبْلَ النَّذْرِ بِخِلَافِ نَذْرِ الْمُسْتَحَبِّ فَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ النَّذْرُ إذَا كَانَ يُوجِبُ فِعْلَ الْمُسْتَحَبِّ فَإِيجَابُهُ لِفِعْلِ الْوَاجِبِ أَوْلَى وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ بَلْ هُمَا وجوبان مِنْ نَوْعَيْنِ لِكُلِّ نَوْعٍ حُكْمٌ غَيْرُ حُكْمِ الْآخَرِ مِثْلَ الْجَدَّةِ إذَا كَانَتْ أُمَّ أُمِّ أُمٍّ وَأُمَّ أب أَبٍ فَإِنَّ فِيهَا شَيْئَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا تَسْتَحِقُّ بِهِ السُّدُسَ . وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : إنَّ الشُّرُوطَ الَّتِي هِيَ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ لَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُهَا أَوْ قَدْ تُفْسِدُهُ حَتَّى قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : إذَا قَالَ : زَوَّجْتُك عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ إمْسَاكٍ بِمَعْرُوفِ أَوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانِ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا ; لِأَنَّهُ شَرَطَ فِيهِ الطَّلَاقَ . فَهَذَا كَلَامٌ فَاسِدٌ جِدًّا ; فَإِنَّ الْعُقُودَ إنَّمَا وَجَبَتْ مُوجِبَاتُهَا لِإِيجَابِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَهَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَمُطْلَقُ الْعَقْدِ لَهُ مَعْنًى مَفْهُومٌ فَإِذَا أُطْلِقَ كَانَا قَدْ أَوْجَبَا مَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ ; فَإِنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ هُوَ وَاجِبٌ بِالْعَقْدِ كَمُوجَبِ النَّذْرِ لَمْ يُوجِبْهُ الشَّارِعُ ابْتِدَاءً وَإِنَّمَا أَوْجَبَ الْوَفَاءَ بِالْعُقُودِ كَمَا أَوْجَبَ الْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ فَإِذَا كَانَ لَهُ مُوجَبٌ مَعْلُومٌ بِلَفْظِ مُطْلَقٍ أَوْ يَعْرِفُ الْمُتَعَاقِدَانِ إيجَابَهُ بِلَفْظِ خَاصٍّ : كَانَ هَذَا مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ فَيَكُونُ قَدْ أَوْجَبَهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ جَعَلَ لَهُ إيجَابًا خَاصًّا يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ الْإِيجَابِ الْعَامِّ . وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا نَظَائِرُ مِثْلُ قَوْلِهِ : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } وَقَوْلُهُ : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } وَمِثْلُ قَوْلِهِ : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى } وَقَوْلِهِ : { قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ } وَقَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ } وَقَوْلُهُ : { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ } فَإِنَّ اللَّهَ أَعْلَنَ عَهْدَهُ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ مَا أَخَذَ عَلَيْهِمْ الْمِيثَاقَ بِالْوَفَاءِ بِهِ فَاجْتَمَعَ فِيهِ الْوَجْهَانِ : العهدي ; والميثاقي . وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ عَلَى مَا وَجَبَ بِأَمْرِ اللَّهِ شَيْءٌ كَثِيرٌ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ } الْآيَةَ وَقَوْلُهُ : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } إلَى آخِرِ الْكَلَامِ وَقَوْلُهُ : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } وَقَوْلُهُ : { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ } الْآيَةَ إلَى قَوْلِهِ : { بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } { إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ } فَإِنَّ قَوْلَهُ : { بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ } بَعْدَ ذِكْرِهِ لِلْإِيمَانِ يَقْتَضِي أَنَّهُ الْوَفَاءُ بِمُوجَبِ الْعُقُودِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَنَحْوِهَا كَمَا قَالَ فِي آيَةِ الْبَيْعِ : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } فَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ هُوَ الْوَفَاءُ بِمُوجَبِ الْعُقُودِ فِي الْمُعَامَلَاتِ مِنْ الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ ; فَإِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ بِعَقْدِهِ فَقَطْ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ : { إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ } فَعَهْدُ اللَّهِ مَا عَهِدَهُ إلَيْهِمْ وَأَيْمَانُهُمْ مَا عَقَدُوهُ مِنْ الْأَيْمَانِ . وَسَبَبُ نُزُولِهَا قِصَّةُ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ الَّتِي فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي مُحَاكَمَتِهِ مَعَ الْيَهُودِيِّ حِينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَاجِرَةٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ } وَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَالَ كَانَ يَجِبُ تَسْلِيمُهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ بِمُوجَبِ عَهْدِهِ فَإِذَا حَلَفَ بَعْدَ هَذَا عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ دُونَ مُسْتَحِقِّهِ فَقَدْ صَارَ عَاصِيًا مِنْ وَجْهَيْنِ نَظِيرَ قَوْلِهِ : { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ } وَضِدُّهُمْ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَقَوْلُهُ : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا } الْآيَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ : لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ وَأَمَرَ أَنْ يَأْخُذَ الْمِيثَاقَ عَلَى أُمَّتِهِ : إنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُمْ أَحْيَاءٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُحَمَّدًا إذَا بَعَثَهُ اللَّهُ بِرِسَالَةِ عَامَّةٍ وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ وَنُصْرَتُهُ عَلَى كُلِّ مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَتُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُخِذَ عَلَيْهِ مِيثَاقٌ بِذَلِكَ وَقَدْ أُخِذَ عَلَيْهِمْ الْمِيثَاقُ بِمَا هُوَ وَاجِبٌ بِأَمْرِ اللَّهِ بِلَا مِيثَاقٍ وقَوْله تَعَالَى { فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ } إلَى قَوْلِهِ : { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } الْآيَاتِ فَهَذَا مِيثَاقٌ أَخَذَهُ اللَّهُ .