تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَسُئِلَ أَيْضًا رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ رَجُلٍ كُلَّمَا شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ يَحْدُثُ لَهُ رِيَاحٌ كَثِيرَةٌ ; حَتَّى فِي الصَّلَاةِ يَتَوَضَّأُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ أَوْ أَكْثَرَ ; إلَى حِينِ يَقْضِي الصَّلَاةَ يَزُولُ عَنْهُ الْعَارِضُ ; ثُمَّ لَا يَعُودُ إلَيْهِ إلَّا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَا سَبَبُ ذَلِكَ ؟ : هَلْ هُوَ مِنْ شِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى الطَّهَارَةِ ؟ وَقَدْ يَشُقُّ عَلَيْهِ كَثْرَةُ الْوُضُوءِ وَمَا يَعْلَمُ هَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ صَاحِبِ الْأَعْذَارِ أَمْ لَا لِسَبَبِ أَنَّهُ لَا يُعَاوِدُهُ إلَّا فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ ؟ وَمَا تَطِيبُ نَفْسُهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِوُضُوءِ وَاحِدٍ ؟ .
1
فَأَجَابَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَعَمْ حُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ الْأَعْذَارِ : مِثْلِ الِاسْتِحَاضَةِ وَسَلَسِ الْبَوْلِ ; وَالْمَذْيِ ; وَالْجُرْحِ الَّذِي لَا يَرْقَأُ ; وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَمَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ حِفْظُ الطَّهَارَةِ مِقْدَارَ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي وَلَا يَضُرُّهُ مَا خَرَجَ مِنْهُ فِي الصَّلَاةِ وَلَا يَنْتَقِضُ وَضَوْءُهُ بِذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَأَكْثَرُ مَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ لِكُلِّ صَلَاةٍ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ وَأَمْثَالُهُمَا مِثْلُ مَنْ بِهِ رِيحٌ يَخْرُجُ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ ; وَكُلُّ مَنْ بِهِ حَدَثٌ نَادِرٌ . فَمَذْهَبُ مَالِكٍ : أَنَّ ذَلِكَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ بِالْحَدَثِ الْمُعْتَادِ . وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ - كَأَبِي حَنِيفَةَ ; وَالشَّافِعِيِّ ; وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ - يَقُولُونَ : إنَّهُ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَوْ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ . رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَصَحَّحَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْحُفَّاظِ ; فَلِهَذَا كَانَ أَظْهَرَ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ يَتَوَضَّئُونَ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَوْ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ . وَأَمَّا مَا يَخْرُجُ فِي الصَّلَاةِ دَائِمًا فَهَذَا لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : أَنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ كَانَتْ تُصَلِّي وَالدَّمُ يَقْطُرُ مِنْهَا ; فَيُوضَعُ لَهَا طَسْتٌ يَقْطُرُ فِيهِ الدَّمُ . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - - صَلَّى وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا . وَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ يُصَلُّونَ فِي جِرَاحَاتِهِمْ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي خُرُوجِ النَّجَاسَةِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ - كَالْجُرْحِ وَالْفِصَادِ وَالْحِجَامَةِ وَالرُّعَافِ وَالْقَيْءِ : فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ : لَا يَنْقُضُ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد : يَنْقُضُ . لَكِنَّ أَحْمَد يَقُولُ : إذَا كَانَ كَثِيرًا . وَتَنَازَعُوا فِي مَسِّ النِّسَاءِ وَمَسِّ الذَّكَرِ : هَلْ يَنْقُضُ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ : لَا يَنْقُضُ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : يَنْقُضُ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ : الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسِّ لِشَهْوَةِ وَغَيْرِهَا . وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ هَلْ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي مَسِّ الذَّكَرِ ؟ وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَنْ أَحْمَد ; وَعَنْهُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَرِوَايَتَانِ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ . وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ : هَلْ يَجِبُ أَمْ لَا ؟ وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ : فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ تَنْقُضُ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا تَنْقُضُ : فَهَلْ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ مِنْهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَالْأَظْهَرُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ : أَنَّهَا لَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ . وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ مِنْهَا . فَمَنْ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْهَا صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَمَنْ تَوَضَّأَ مِنْهَا فَهُوَ أَفْضَلُ . وَأَدِلَّةُ ذَلِكَ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَكِنْ كُلُّهُمْ يَأْمُرُ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَلَكِنْ إنْ كَانَتْ مِنْ الدَّمِ أَكْثَرَ مِنْ رُبُعِ الْمَحَلِّ فَهَذِهِ تَجِبُ إزَالَتُهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْأُمَّةِ وَمَعَ هَذَا إنْ كَانَ الْجُرْحُ لَا يَرْقَأُ مِثْلَ مَا أَصَابَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِاتِّفَاقِهِمْ ; سَوَاءٌ قِيلَ : إنَّهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ ; أَوْ قِيلَ : لَا يَنْقُضُ سَوَاءٌ كَانَ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَقَالَ النَّبِيُّ { : إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } . وَكُلُّ مَا عَجَزَ عَنْهُ الْعَبْدُ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ سَقَطَ عَنْهُ ; فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا ; بَلْ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ لَكِنْ يَجُوزُ لَهُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِعُذْرِ ; حَتَّى أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسْتَحَاضَةِ وَأَصْحَابِ الْأَعْذَارِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا اسْتَحَبَّ النَّبِيُّ لِلْمُسْتَحَاضَةِ أَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِغُسْلِ وَاحِدٍ فَهَذَا لِلْمَعْذُورِ سَوَاءٌ أَمْكَنَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِطَهَارَةِ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الصَّلَاةِ : جَازَ لَهُ الْجَمْعُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ يَجْمَعُ الْمَرِيضُ بِطَهَارَةِ وَاحِدَةٍ إذَا كَانَتْ الطَّهَارَةُ لِكُلِّ صَلَاةٍ تَزِيدُ فِي مَرَضِهِ . وَلَا بُدَّ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ : إمَّا بِطَهَارَةِ إنْ أَمْكَنَهُ وَإِلَّا بِالتَّيَمُّمِ ; فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ عَدِمَ الْمَاءَ أَوْ خَافَ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِهِ إمَّا لِمَرَضِ وَإِمَّا لِشِدَّةِ الْبَرْدِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَإِنْ كَانَ جُنُبًا ; وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَإِذَا تَيَمَّمَ فِي السَّفَرِ لِعَدَمِ الْمَاءِ لَمْ يُعِدْ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ إذَا صَلَّى قَاعِدًا أَوْ صَلَّى عَلَى جَنْبٍ لَمْ يُعِدْ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ الْعُرْيَانُ : كَاَلَّذِي تَنْكَسِرُ بِهِ السَّفِينَةُ ; أَوْ يَأْخُذُ الْقُطَّاعُ ثِيَابَهُ : فَإِنَّهُ يُصَلِّي عريانا وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ وَصَلَّى ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ فِيمَا بَعْدُ : لَا يُعِيدُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ أَخْطَأَ مَعَ اجْتِهَادِهِ لَمْ يُعِدْ أَيْضًا عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ : كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَالْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُعِيدُ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّيَمُّمِ لِخَشْيَةِ الْبَرْدِ : هَلْ يُعِيدُ ؟ وَفِيمَنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ نَجِسٍ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ : هَلْ يُعِيدُ ؟ وَفِي مَوَاضِعَ أُخَرَ . وَالصَّحِيحُ فِي جَمِيعِ هَذَا النَّوْعِ : أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ ; بَلْ يُصَلِّي كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى حَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا عَجَزَ عَنْهُ ; وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا رَسُولُهُ أَحَدًا أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْضَ مَرَّتَيْنِ مُطْلَقًا بَلْ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ إذَا ذَكَرَ بِوُضُوءِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ : كَمَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ ; فَإِنَّ النَّبِيَّ { قَالَ : مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا } . وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مَبْسُوطَةٌ ( فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : بَيَانُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا جَعَلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ حَرَجٍ فِي دِينِهِمْ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ بِهِمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِهِمْ الْعُسْرَ . وَمَسْأَلَةُ هَذَا السَّائِلِ أَوْلَى بِالرُّخْصَةِ ; وَلِهَذَا كَانَتْ مُتَّفَقًا عَلَيْهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .