تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَصْلٌ وقَوْله تَعَالَى { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا } يَقْتَضِي وُجُوبَ الْوُضُوءِ عَلَى كُلِّ مُصَلٍّ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَهُوَ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الطَّهَارَةِ . وَقَالَ دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ بَلْ هُوَ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْنَا بِالْوُضُوءِ لِصَلَاةِ وَاحِدَةٍ . بَلْ أَمَرَ بِأَنْ يَتَوَضَّأَ كُلَّمَا صَلَّى : وَلَوْ صَلَّى صَلَاةً بِوُضُوءِ وَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ : اُسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . لَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا : دَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ مِنْ لَفْظِ " الصَّلَاةِ " فَإِنَّ " الصَّلَاةَ " هُنَا اسْمُ جِنْسٍ . لَيْسَ الْمُرَادُ صَلَاةً وَاحِدَةً . فَقَدْ أَمَرَ إذَا قَامَ إلَى جِنْسِ الصَّلَاةِ أَنْ يَتَوَضَّأَ . وَالْجِنْسُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا يُصَلِّيهِ مِنْ الصَّلَوَاتِ فِي جَمِيعِ عُمْرِهِ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا يَقْتَضِي عُمُومَ الْجِنْسِ فَمِنْ أَيْنَ التَّكْرَارُ ؟ فَإِذَا قَامَ إلَى أَيِّ صَلَاةٍ تَوَضَّأَ لَكِنْ مِنْ أَيْنَ أَنَّهُ إذَا قَامَ إلَيْهَا يَوْمًا آخَرَ يَتَوَضَّأُ ؟ قِيلَ : لِأَنَّهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ الثَّانِي قَائِمٌ إلَى الصَّلَاةِ . فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْوُضُوءِ إذَا قَامَ إلَى مُسَمَّى الصَّلَاةِ ; فَحَيْثُ وُجِدَ قِيَامٌ إلَى مُسَمَّى الصَّلَاةِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْوُضُوءِ مَتَى وُجِدَ ذَلِكَ . فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ . وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } فَالْمُرَادُ : جِنْسُ الدُّلُوكِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ لَهُ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } فَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ طُلُوعٍ وَغُرُوبٍ وَلَيْسَ الْمُرَادُ طُلُوعًا وَاحِدًا فَكَأَنَّهُ قَالَ : قَبْلَ كُلِّ طُلُوعٍ لَهَا وَقَبْلَ كُلِّ غُرُوبٍ . وَأَقِمْ الصَّلَاةَ عِنْدَ كُلِّ دُلُوكٍ وَكُلِّ صَلَاةٍ يَقُومُ إلَيْهَا مُتَوَضِّئًا لَهَا . وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ : هَلْ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . قِيلَ : يَقْتَضِيهِ كَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَابْنُ عَقِيلٍ . وَقِيلَ : لَا يَقْتَضِيهِ كَقَوْلِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَبُو الْخَطَّابِ . وَقِيلَ : إنْ كَانَ مُعَلَّقًا بِسَبَبِ اقْتَضَى التَّكْرَارَ . وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد كَآيَةِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا لَا يَتَكَرَّرُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ الْمُعَلَّقِ . قِيلَ : لِأَنَّ عِتْقَ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ لَا يَتَكَرَّرُ . وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ نَفْسُهُ لَا يَتَكَرَّرُ . بَلْ الطَّلْقَةُ الثَّانِيَةُ حُكْمُهَا غَيْرُ حُكْمِ الْأُولَى . وَهُوَ مَحْدُودٌ بِثَلَاثِ . وَلَكِنْ إذَا قَالَ النَّاذِرُ : لِلَّهِ عَلَيَّ إنْ رَزَقَنِي اللَّهُ وَلَدًا أَنْ أُعْتِقَ عَنْهُ وَإِذَا أَعْطَانِي مَالًا أَنْ أُزَكِّيَهُ أَوْ أَتَصَدَّقَ بِعُشْرِهِ : تَكَرَّرَ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ .