تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَصْلٌ وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ التَّرْتِيبَ يَسْقُطُ إذَا احْتَاجَ إلَى التَّكْرَارِ بِلَا تَفْرِيطٍ مِنْ الْإِنْسَانِ : أَنَّ التَّيَمُّمَ يُجْزِئُ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ - حَدِيثُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد بِلَا خِلَافٍ . وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى . وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبْزَى . فَفِي حَدِيثِ ابْنِ أَبْزَى { إنَّمَا كَانَ يَكْفِيك هَكَذَا . فَضَرَبَ بِكَفَّيْهِ الْأَرْضَ وَنَفَخَ فِيهِمَا . ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ } وَكَذَلِكَ لِمُسْلِمِ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى { إنَّمَا كَانَ يَكْفِيك أَنْ تَقُولَ هَكَذَا . وَضَرَبَ بِيَدَيْهِ إلَى الْأَرْضِ . فَنَفَضَ يَدَيْهِ . فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ } وَلِلْبُخَارِيِّ { وَمَسَحَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً } . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ . فَقِيلَ : يُرَتِّبُ . فَيَمْسَحُ وَجْهَهُ بِبُطُونِ أَصَابِعِهِ وَظَاهِرِ يَدَيْهِ بِرَاحَتِهِ . وَقِيلَ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ . بَلْ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ . وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ : لَا يُؤَخِّرُ مَسْحَ الرَّاحَتَيْنِ إلَى مَا بَعْدَ الْوَجْهِ . بَلْ يَمْسَحُهُمَا : إمَّا قَبْلَ الْوَجْهِ وَإِمَّا مَعَ الْوَجْهِ وَظُهُورِ الْكَفَّيْنِ . وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : رَأَيْت التَّيَمُّمَ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ قَدْ أَسْقَطَ تَرْتِيبًا مُسْتَحَقًّا فِي الْوُضُوءِ . وَهُوَ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ مَسَحَ بَاطِنَ يَدَيْهِ مَسَحَ وَجْهَهُ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { إنَّمَا يَكْفِيك أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْك هَكَذَا . ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً . ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ } لَفْظُ الْبُخَارِيِّ { وَضَرَبَ بِكَفَّيْهِ ضَرْبَةً عَلَى الْأَرْضِ . ثُمَّ نَفَضَهُمَا ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا ظَهْرَ كَفِّهِ بِشَمَالِهِ - أَوْ ظَهْرَ شِمَالِهِ بِكَفِّهِ - ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ } . وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَمْسَحْ الرَّاحَتَيْنِ بَعْدَ الْوَجْهِ . وَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ أَحْمَد : أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ . وَأَمَّا ظُهُورُ الْكَفَّيْنِ : فَرِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ صَرِيحَةٌ فِي { أَنَّهُ مَرَّ عَلَى ظَهْرِ الْكَفِّ قَبْلَ الْوَجْهِ } وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى { وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَسَحَ ظَاهِرَ كُلٍّ مِنْهُمَا بِرَاحَةِ الْيَدِ الْأُخْرَى . وَقَالَ فِيهَا { ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ قَبْلَ الْوَجْهِ } . وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : فَرْضُ الرَّاحَتَيْنِ سَقَطَ بِإِمْرَارِ كُلِّ وَاحِدَةٍ عَلَى ظَهْرِ الْكَفِّ . وَهَذَا إنَّمَا يُوجِبُ سُقُوطَ فَرْضِ بَاطِنِ الرَّاحَةِ . وَأَمَّا بَاطِنُ الْأَصَابِعِ : فَعَلَى مَا ذَكَرَهُ سَقَطَ مَعَ الْوَجْهِ . وَعَلَى كُلِّ حَالٍ : فَبَاطِنُ الْيَدَيْنِ يُصِيبُهُمَا التُّرَابُ حِينَ يَضْرِبُ بِهِمَا الْأَرْضَ وَحِينَ يَمْسَحُ بِهِمَا الْوَجْهَ وَظَهْرَ الْكَفَّيْنِ . وَإِنْ مَسَحَ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى فَهُوَ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ . وَلَوْ كَانَ التَّرْتِيبُ وَاجِبًا لَوَجَبَ أَنْ يَمْسَحَ بَاطِنَهُمَا بَعْدَ الْوَجْهِ . وَهَذَا لَا يُمْكِنُ مَعَ الْقَوْلِ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ . وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَلَزِمَ تَكْرَارُ مَسْحِهِمَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ . فَسَقَطَ لِذَلِكَ . فَإِنَّ التَّيَمُّمَ لَا يُشْرَعُ فِيهِ التَّكْرَارُ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ . فَإِنَّهُ - وَإِنْ غَسَلَ يَدَيْهِ ابْتِدَاءً وَأَخَذَ بِهِمَا الْمَاءَ لِوَجْهِهِ فَهُوَ - بَعْدَ الْوَجْهِ يَغْسِلُهُمَا إلَى الْمِرْفَقَيْنِ . وَهُوَ يَأْخُذُ الْمَاءَ - بِهِمَا . فَيَتَكَرَّرُ غَسْلُهُمَا ; لِأَنَّ الْوُضُوءَ يُسْتَحَبُّ فِيهِ التَّكْرَارُ فِي الْجُمْلَةِ . لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ ; وَلَكِنْ لَوْ لَمْ يَغْسِلْ كَفَّيْهِ بَعْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ فَهُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ فَإِنَّهُ يَغْرِفُ بِهِمَا الْمَاءَ وَقَدْ قَالُوا : إذَا نَوَى الِاغْتِرَافَ لَمْ يَصِرْ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا وَإِنْ نَوَى غَسْلَهُمَا فِيهِ : صَارَ مُسْتَعْمَلًا وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَفِيهِ وَجْهَانِ . وَالصَّحِيحُ : أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا وَإِنْ نَوَى غَسْلَهُمَا فِيهِ ; لِمَجِيءِ السُّنَّةِ بِذَلِكَ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ غَسْلَهُمَا بِنِيَّةِ الِاغْتِرَافِ لَا تَحْصُلُ بِهِ طَهَارَتُهُمَا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ غَسْلٍ آخَرَ . وَالْأَقْوَى : أَنَّ هَذَا لَا يَجِبُ بَلْ غَسْلُهُمَا بِنِيَّةِ الِاغْتِرَافِ يُجْزِئُ عَنْ تَكْرَارِ غَسْلِهِمَا كَمَا فِي التَّيَمُّمِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يَغْسِلُ ذِرَاعَيْهِ بِيَدَيْهِ ; فَيَكُونُ هَذَا غَسْلًا لِبَاطِنِ الْيَدِ . وَلَوْ قِيلَ : بَلْ بَقِيَ غَسْلُهُمَا ابْتِدَاءً وَمَعَ الْوَجْهِ يَسْقُطُ فَرْضُهُمَا كَمَا قِيلَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي التَّيَمُّمِ : لَكَانَ مُتَوَجِّهًا . فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْوُضُوءِ : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ } كَمَا قَالَ فِي التَّيَمُّمِ : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } فَفِي الْوُضُوءِ أَخَّرَ ذِكْرَ الْيَدِ . لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا الْبُخَارِيُّ : تُبَيِّنُ أَنَّهُ مَسَحَ ظَهْرَ الْكَفَّيْنِ قَبْلَ الْوَجْهِ . وَسَائِرُ الرِّوَايَاتِ مُجْمَلَةٌ تَقْتَضِي أَنَّهُ لَمَّا مَسَحَ لَمْ يَمْسَحْ الرَّاحَتَيْنِ بَعْدَ الْوَجْهِ فَكَذَلِكَ ظَهْرُ الْكَفَّيْنِ بَلْ مَسَحَ ظَهْرَهُمَا مَعَ بَطْنِهِمَا ; لِأَنَّ مَسْحَهُمَا جُمْلَةً أَقْرَبُ إلَى التَّرْتِيبِ . فَإِنَّ مَسْحَ الْعُضْوِ الْوَاحِدِ بَعْضَهُ مَعَ بَعْضٍ أَوْلَى مِنْ تَفْرِيقِ ذَلِكَ . وَأَيْضًا : فَتَكُونُ الرَّاحَتَانِ مَمْسُوحَتَيْنِ مَعَ ظَهْرِ الْكَفِّ . وَالِاعْتِدَادُ بِذَلِكَ أَوْلَى مِنْ الِاعْتِدَادِ بِمَسْحِهِمَا مَعَ الْوَجْهِ . وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْأَصْحَابِ - مِنْ أَنَّهُ يَجْعَلُ الْأَصَابِعَ لِلْوَجْهِ وَبُطُونَ الرَّاحَتَيْنِ لِظُهُورِ الْكَفَّيْنِ - خِلَافُ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ . وَلَيْسَ فِي كَلَامِ أَحْمَد مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ . وَهُوَ مُتَعَسِّرٌ أَوْ مُتَعَذِّرٌ . وَهُوَ بِدْعَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا فِي الشَّرْعِ . وَبُطُونُ الْأَصَابِعِ لَا تَكَادُ تَسْتَوْعِبُ الْوَجْهَ . وَإِنَّمَا احْتَاجُوا إلَى هَذَا لِيَجْعَلُوا بَعْضَ التُّرَابِ لِظَاهِرِ الْكَفَّيْنِ بَعْدَ الْوَجْهِ . فَيُقَالُ لَهُمْ : كَمَا أَنَّ الرَّاحَتَيْنِ لَا يُمْسَحَانِ بَعْدَ الْوَجْهِ بِلَا نِزَاعٍ فَكَذَلِكَ ظَهْرُ الْكَفَّيْنِ . فَإِنَّهُمْ - وَإِنْ مَسَحُوا ظَهْرَ الْكَفَّيْنِ بِالرَّاحَتَيْنِ بِبُطُونِ الْأَصَابِعِ - مَسَحُوا مَعَ الْوَجْهِ : مَسَحَ بِالْيَدَيْنِ قَبْلَ الْوَجْهِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ ; وَلِهَذَا اخْتَارَ الْمَجْدُ : أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِيهِ بَلْ يَجُوزُ مَسْحُ ظَهْرِ الْكَفَّيْنِ قَبْلَ الْوَجْهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَمْسَحُ الْوَجْهَ وَظَاهِرَ الْكَفَّيْنِ بِذَلِكَ التُّرَابِ وَأَنَّ مَسْحَ ظَهْرِ الْكَفَّيْنِ بِمَا بَقِيَ فِي الْيَدَيْنِ مِنْ التُّرَابِ يَكْفِي لِظَهْرِ الْكَفَّيْنِ . فَإِنَّ أَلْفَاظَ الْحَدِيثِ كُلَّهَا تَتَعَلَّقُ بِأَنَّهُ يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ وَمَسْحُ الْيَدَيْنِ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى : لَمْ يَجْعَلْ بَعْضَ بَاطِنِ الْيَدِ لِلْوَجْهِ وَبَعْضَهُ لِلْكَفَّيْنِ بَلْ بِبَاطِنِ الْيَدَيْنِ مَسَحَ وَجْهَهُ وَمَسَحَ كَفَّيْهِ وَمَسَحَ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى . وَأَجَابَ الْقَاضِي وَمَنْ وَافَقَهُ - مُتَابَعَةً لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - بِأَنَّهُ إذَا تَيَمَّمَ لِجُرْحِ فِي عُضْوٍ : يَكُونُ التَّيَمُّمُ فِيهِ عِنْدَ وُجُوبِ غَسْلِهِ فَيَفْصِلُ بِالتَّيَمُّمِ بَيْنَ أَبْعَاضِ الْوُضُوءِ هَذَا فِعْلٌ مُبْتَدَعٌ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ وَمَشَقَّةٌ لَا تَأْتِي بِهَا الشَّرِيعَةُ . وَهَذَا وَنَحْوُهُ إسْرَافٌ فِي وُجُوبِ التَّرْتِيبِ حَيْثُ لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . والنفاة يُجَوِّزُونَ التَّنْكِيسَ لِغَيْرِ عُذْرٍ وَخِيَارُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا وَدِينُ اللَّهِ بَيْنَ الْغَالِي وَالْجَافِي . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .