تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
الدَّلِيلُ الثَّانِي : الْحَدِيثُ الْمُسْتَفِيضُ أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ وَغَيْرُهُمْ حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ { أَنَّ نَاسًا مَنَّ عُكْلٍ أَوْ عرينة قَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَاجْتَوَوْهَا فَأَمَرَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَقَاحِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا رَاعِيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ } . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ . فَوَجْهُ الْحُجَّةِ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُمْ فِي شُرْبِ الْأَبْوَالِ وَلَا بُدَّ أَنْ يُصِيبَ أَفْوَاهَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ وَثِيَابَهُمْ وَآنِيَتَهُمْ فَإِذَا كَانَتْ نَجِسَةً وَجَبَ تَطْهِيرُ أَفْوَاهِهِمْ وَأَيْدِيهِمْ وَثِيَابِهِمْ لِلصَّلَاةِ وَتَطْهِيرُ آنِيَتِهِمْ فَيَجِبُ بَيَانُ ذَلِكَ لَهُمْ : لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ لَا يَجُوزُ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ إمَاطَةُ مَا أَصَابَهُمْ مِنْهُ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ نَجِسٍ وَمِنْ الْبَيِّنِ أَنْ لَوْ كَانَتْ أَبْوَالُ الْإِبِلِ كَأَبْوَالِ النَّاسِ لَأَوْشَكَ أَنْ يَشْتَدَّ تَغْلِيظُهُ فِي ذَلِكَ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهَا نَجِسَةٌ وَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وُجُوبَ التَّطْهِيرِ مِنْ النَّجَاسَاتِ فَقَدْ أَبْعَدَ غَايَةَ الْإِبْعَادِ وَأَتَى بِشَيْءِ قَدْ يُسْتَيْقَنُ بُطْلَانُهُ لِوُجُوهِ : ( أَحَدُهَا أَنَّ الشَّرِيعَةَ أَوَّلُ مَا شُرِعَتْ كَانَتْ أَخْفَى وَبَعْدَ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ وَتَنَاقُلِ الْعِلْمِ وَإِفْشَائِهِ صَارَتْ أَبْدَى وَأَظْهَرَ وَإِذَا كُنَّا إلَى الْيَوْمِ لَمْ يَسْتَبِنْ لَنَا نَجَاسَتُهَا بَلْ أَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى طَهَارَتِهَا وَعَامَّةُ التَّابِعِينَ عَلَيْهِ بَلْ قَدْ قَالَ أَبُو طَالِبٍ وَغَيْرُهُ : إنَّ السَّلَفَ مَا كَانُوا يُنَجِّسُونَهَا وَلَا يَتَّقُونَهَا . وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ : وَعَلَيْهِ اعْتِمَادُ أَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ وَقَدْ ذُكِرَ طَهَارَةُ الْأَبْوَالِ عَنْ عَامَّةِ السَّلَفِ . ثُمَّ قَالَ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : الْأَبْوَالُ كُلُّهَا نَجَسٌ . قَالَ : وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ قَبْلَ الشَّافِعِيِّ إنَّ أَبْوَالَ الْأَنْعَامِ وأبعارها نَجَسٌ . ( قُلْت وَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ بَوْلِ النَّاقَةِ فَقَالَ : اغْسِلْ مَا أَصَابَك مِنْهُ . وَعَنْ الزُّهْرِيِّ فِيمَا يُصِيبُ الرَّاعِيَ مِنْ أَبْوَالِ الْإِبِلِ قَالَ : يُنْضَحُ . وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ فِي بَوْلِ الشَّاةِ وَالْبَعِيرِ يُغْسَلُ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ نَجَاسَةُ ذَلِكَ عَلَى تَفْصِيلٍ لَهُمْ فِيهِ فَلَعَلَّ الَّذِي أَرَادَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ اجْتِنَابِ قَلِيلِ الْبَوْلِ وَالرَّوْثِ وَكَثِيرِهِ . فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَلَعَلَّ ابْنَ عُمَرَ أَمَرَ بِغَسْلِهِ كَمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَالْمَنِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى مَكَانٍ فِيهِ رَوْثُ الدَّوَابِّ وَالصَّحْرَاءُ أَمَامَهُ . وَقَالَ هَاهُنَا وَهَاهُنَا سَوَاءٌ . وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ لَا بَأْسَ بِبَوْلِ كُلِّ ذِي كِرْشٍ . وَلَسْت أَعْرِفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْقَوْلَ بِنَجَاسَتِهَا ; بَلْ الْقَوْلُ بِطَهَارَتِهَا ; إلَّا مَا ذُكِرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ إنْ كَانَ أَرَادَ النَّجَاسَةَ فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ ذَلِكَ مَعْلُومًا لِأُولَئِكَ ( وَثَانِيهَا : أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا فَوُجُوبُ التَّطَهُّرِ مِنْ النَّجَاسَةِ لَيْسَ مِنْ الْأُمُورِ الْبَيِّنَةِ قَدْ أَنْكَرَهُ فِي الثِّيَابِ طَائِفَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ فَمِنْ أَيْنَ يَعْلَمُهُ أُولَئِكَ ؟ . ( وَثَالِثُهَا : أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ مُسْتَفِيضًا بَيْنَ ظهراني الصَّحَابَةِ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَعْلَمَهُ أُولَئِكَ ; لِأَنَّهُمْ حَدِيثُو الْعَهْدِ بِالْجَاهِلِيَّةِ وَالْكُفْرِ فَقَدْ كَانُوا يَجْهَلُونَ أَصْنَافَ الصَّلَوَاتِ وَأَعْدَادَهَا وَأَوْقَاتَهَا وَكَذَلِكَ غَيْرُهَا مِنْ الشَّرَائِعِ الظَّاهِرَةِ فَجَهْلُهُمْ بِشَرْطِ خَفِيٍّ فِي أَمْرٍ خَفِيٍّ أَوْلَى وَأَحْرَى لَا سِيَّمَا وَالْقَوْمُ لَمْ يَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ أَدْنَى تَفَقُّهٍ وَلِذَلِكَ ارْتَدُّوا وَلَمْ يُخَالِطُوا أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ ; بَلْ حِينَ أَسْلَمُوا وَأَصَابَهُمْ الِاسْتِيخَامُ أَمَرَهُمْ بِالْبَدَاوَةِ فَيَا لَيْتَ شِعْرِي مِنْ أَيْنَ لَهُمْ الْعِلْمُ بِهَذَا الْأَمْرِ الْخَفِيِّ ( وَرَابِعُهَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ فِي تَعْلِيمِهِ وَإِرْشَادِهِ وَاكِلًا لِلتَّعْلِيمِ إلَى غَيْرِهِ ; بَلْ يُبَيِّنُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ لِمَنْ أَحْسَنَ الْمَعْرِفَةَ بِالسُّنَنِ الْمَاضِيَةِ . ( وَخَامِسُهَا : أَنَّهُ لَيْسَ الْعِلْمُ بِنَجَاسَةِ هَذِهِ الْأَرْوَاثِ أَبْيَنَ مِنْ الْعِلْمِ بِنَجَاسَةِ بَوْلِ الْإِنْسَانِ الَّذِي قَدْ عَلِمَهُ الْعَذَارَى فِي حِجَالِهِنَّ وَخُدُورِهِنَّ ثُمَّ قَدْ حَذَّرَ مِنْهُ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ . فَصَارَ الْأَعْرَابُ الْجُفَاةُ أَعْلَمَ بِالْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِالْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ فَهَذَا كَمَا تَرَى . ( وَسَادِسُهَا : أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْأَبْوَالِ وَالْأَلْبَانِ وَأَخْرَجَهُمَا مَخْرَجًا وَاحِدًا وَالْقِرَانُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إنْ لَمْ يُوجِبْ اسْتِوَاءَهُمَا فَلَا بُدَّ أَنْ يُورِثَ شُبْهَةً فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْبَيَانُ وَاجِبًا لَكَانَتْ الْمُقَارَنَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّاهِرِ مُوجِبَةً لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا إنْ كَانَ التَّمْيِيزُ حَقًّا . وَفِي الْحَدِيثِ دِلَالَةٌ أُخْرَى فِيهَا تَنَازُعٌ وَهُوَ أَنَّهُ أَبَاحَ لَهُمْ شُرْبَهَا وَلَوْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً نَجِسَةً لَمْ يُبِحْ لَهُمْ شُرْبَهَا وَلَسْت أَعْلَمُ مُخَالِفًا فِي جَوَازِ التَّدَاوِي بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ . كَمَا جَاءَتْ السُّنَّةُ ; لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي تَخْرِيجِ مَنَاطِهِ فَقِيلَ : هُوَ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِلتَّدَاوِي وَغَيْرِ التَّدَاوِي . وَقِيلَ : بَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ وَإِنَّمَا أَبَاحَهَا لِلتَّدَاوِي . وَقِيلَ : هِيَ مَعَ ذَلِكَ نَجِسَةٌ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْوَجْهِ يَحْتَاجُ إلَى رُكْنٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمَاتِ النَّجِسَةِ مُحَرَّمٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى التَّحْرِيمِ مِثْلُ قَوْلِهِ : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } وَ : { كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ حَرَامٌ } و : { إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ } عَامَّةٌ فِي حَالِ التَّدَاوِي وَغَيْرِ التَّدَاوِي فَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَخَصَّ الْعُمُومَ ; وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ أَبَاحَهَا لِلضَّرُورَةِ وَالْمُتَدَاوِي مُضْطَرٌّ فَتُبَاحُ لَهُ أَوْ أَنَّا نَقِيسُ إبَاحَتَهَا لِلْمَرِيضِ عَلَى إبَاحَتِهَا لِلْجَائِعِ بِجَامِعِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا . يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرَضَ يُسْقِطُ الْفَرَائِضَ مِنْ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَالِانْتِقَالِ مِنْ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ إلَى الطَّهَارَةِ بِالصَّعِيدِ فَكَذَلِكَ يُبِيحُ الْمَحَارِمَ ; لِأَنَّ الْفَرَائِضَ وَالْمَحَارِمَ مِنْ وَادٍ وَاحِدٍ . يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْحِلْيَةِ وَاللِّبَاسِ مِثْلُ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ قَدْ جَاءَتْ السُّنَّةُ بِإِبَاحَةِ اتِّخَاذِ الْأَنْفِ مِنْ الذَّهَبِ وَرَبْطِ الْأَسْنَانِ بِهِ وَرَخَّصَ لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي لِبَاسِ الْحَرِيرِ مِنْ حَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأُصُولُ الْكَثِيرَةُ عَلَى إبَاحَةِ الْمَحْظُورَاتِ حِينَ الِاحْتِيَاجِ وَالِافْتِقَارِ إلَيْهَا . قُلْت : أَمَّا إبَاحَتُهَا لِلضَّرُورَةِ فَحَقٌّ ; وَلَيْسَ التَّدَاوِي بِضَرُورَةِ لِوُجُوهِ : أَحَدُهَا : أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمَرْضَى أَوْ أَكْثَرُ الْمَرْضَى يَشْفُونَ بِلَا تَدَاوٍ لَا سِيَّمَا فِي أَهْلِ الْوَبَرِ وَالْقُرَى وَالسَّاكِنِينَ فِي نَوَاحِي الْأَرْضِ يَشْفِيهِمْ اللَّهُ بِمَا خَلَقَ فِيهِمْ مِنْ الْقُوَى الْمَطْبُوعَةِ فِي أَبْدَانِهِمْ الرَّافِعَةِ لِلْمَرَضِ وَفِيمَا يُيَسِّرُهُ لَهُمْ مِنْ نَوْعِ حَرَكَةٍ وَعَمَلٍ أَوْ دَعْوَةٍ مُسْتَجَابَةٍ أَوْ رُقْيَةٍ نَافِعَةٍ أَوْ قُوَّةٍ لِلْقَلْبِ وَحُسْنِ التَّوَكُّلِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الْكَثِيرَةِ غَيْرِ الدَّوَاءِ وَأَمَّا الْأَكْلُ فَهُوَ ضَرُورِيٌّ وَلَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ أَبْدَانَ الْحَيَوَانِ تَقُومُ إلَّا بِالْغِذَاءِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ يَأْكُلُ لَمَاتَ فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ التَّدَاوِي لَيْسَ مِنْ الضَّرُورَةِ فِي شَيْءٍ . وَثَانِيهَا : أَنَّ الْأَكْلَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَاجِبٌ . قَالَ مَسْرُوقٌ : مَنْ اُضْطُرَّ إلَى الْمَيْتَةِ فَلَمْ يَأْكُلْ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ وَالتَّدَاوِي غَيْرُ وَاجِبٍ وَمَنْ نَازَعَ فِيهِ : خَصَمَتْهُ السُّنَّةُ فِي الْمَرْأَةِ السَّوْدَاءِ الَّتِي خَيَّرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الصَّبْرِ عَلَى الْبَلَاءِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ وَبَيْنَ الدُّعَاءِ بِالْعَافِيَةِ . فَاخْتَارَتْ الْبَلَاءَ وَالْجَنَّةَ . وَلَوْ كَانَ رَفْعُ الْمَرَضِ وَاجِبًا لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْيِيرِ مَوْضِعٌ كَدَفْعِ الْجُوعِ وَفِي دُعَائِهِ لِأَبِي بِالْحِمَى وَفِي اخْتِيَارِهِ الْحِمَى لِأَهْلِ قباء وَفِي دُعَائِهِ بِفَنَاءِ أُمَّتِهِ بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ وَفِي نَهْيِهِ عَنْ الْفِرَارِ مِنْ الطَّاعُونِ . وَخَصَمَهُ حَالُ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ الْمُبْتَلِينَ الصَّابِرِينَ عَلَى الْبَلَاءِ حِينَ لَمْ يَتَعَاطَوْا الْأَسْبَابَ الدَّافِعَةَ لَهُ : مِثْلَ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرِهِ . وَخَصَمَهُ حَالُ السَّلَفِ الصَّالِحِ ; فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصَّدِيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قَالُوا لَهُ : أَلَا نَدْعُوَ لَك الطَّبِيبَ ؟ قَالَ : قَدْ رَآنِي قَالُوا : فَمَا قَالُ لَك ؟ قَالَ : إنِّي فَعَّالٌ لِمَا أُرِيدَ . وَمِثْلُ هَذَا وَنَحْوِهِ يُرْوَى عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ خيثم الْمُخْبِتِ الْمُنِيبِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْكُوفِيِّينَ أَوْ كَأَفْضَلِهِمْ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ الْهَادِي الْمَهْدِيِّ وَخَلْقٍ كَثِيرٍ لَا يُحْصُونَ عَدَدًا . وَلَسْت أَعْلَمُ سَالِفًا أَوْجَبَ التداوي وَإِنَّمَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْمَعْرِفَةِ يُفَضِّلُ تَرْكَهُ تَفَضُّلًا وَاخْتِيَارًا ; لِمَا اخْتَارَ اللَّهُ وَرِضًى بِهِ وَتَسْلِيمًا لَهُ وَهَذَا الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ يُوجِبُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِبُّهُ وَيُرَجِّحُهُ . كَطَرِيقَةِ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ اسْتِمْسَاكًا لِمَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَسْبَابِ وَجَعَلَهُ مِنْ سُنَّتِهِ فِي عِبَادِهِ . وَثَالِثُهَا : أَنَّ الدَّوَاءَ لَا يُسْتَيْقَنُ بَلْ وَفِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمْرَاضِ لَا يَظُنُّ دَفْعَهُ لِلْمَرَضِ ; إذْ لَوْ اطَّرَدَ ذَلِكَ لَمْ يَمُتْ أَحَدٌ بِخِلَافِ دَفْعِ الطَّعَامِ لِلْمَسْغَبَةِ وَالْمُجَاعَةِ فَإِنَّهُ مُسْتَيْقَنٌ بِحُكْمِ سُنَّةِ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ وَخَلْقِهِ . وَرَابِعُهَا : أَنَّ الْمَرَضَ يَكُونُ لَهُ أَدْوِيَةٌ شَتَّى فَإِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ [ بِالْمُحَرَّمِ انْتَقَلَ إلَى الْمُحَلَّلِ ] وَمُحَالٌ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ فِي الْحَلَالِ شِفَاءٌ أَوْ دَوَاءٌ وَاَلَّذِي أَنْزَلَ الدَّاءَ أَنْزَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً إلَّا الْمَوْتَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَدْوِيَةُ الْأَدْوَاءِ فِي الْقِسْمِ الْمُحَرَّمِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ . وَإِلَى هَذَا الْإِشَارَةُ بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ : { إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْهَا } بِخِلَافِ الْمَسْغَبَةِ فَإِنَّهَا وَإِنْ انْدَفَعَتْ بِأَيِّ طَعَامٍ اتَّفَقَ إلَّا أَنَّ الْخَبِيثَ إنَّمَا يُبَاحُ عِنْدَ فَقْدِ غَيْرِهِ فَإِنْ صَوَّرْت مِثْلَ هَذَا فِي الدَّوَاءِ فَتِلْكَ صُورَةٌ نَادِرَةٌ ; لِأَنَّ الْمَرَضَ أَنْدَرُ مِنْ الْجُوعِ بِكَثِيرِ وَتَعَيُّنُ الدَّوَاءِ الْمُعَيَّنِ وَعَدَمُ غَيْرِهِ نَادِرٌ فَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا . عَلَى أَنَّ فِي الْأَوْجُهِ السَّالِفَةِ غِنًى . وَخَامِسُهَا : وَفِيهِ فِقْهُ الْبَابِ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ خَلْقَهُ مُفْتَقِرِينَ إلَى الطَّعَامِ وَالْغِذَاءِ لَا تَنْدَفِعُ مَجَاعَتُهُمْ وَمَسْغَبَتُهُمْ إلَّا بِنَوْعِ الطَّعَامِ وَصِنْفِهِ فَقَدْ هَدَانَا وَعَلَّمَنَا النَّوْعَ الْكَاشِفَ لِلْمَسْغَبَةِ الْمُزِيلَ لِلْمَخْمَصَةِ . وَأَمَّا الْمَرَضُ فَإِنَّهُ يُزِيلُهُ بِأَنْوَاعِ كَثِيرَةٍ مِنْ الْأَسْبَابِ : ظَاهِرَةٍ وَبَاطِنَةٍ رُوحَانِيَّةٍ وَجُسْمَانِيَّةٍ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ الدَّوَاءُ مُزِيلًا . ثُمَّ الدَّوَاءُ بِنَوْعِهِ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِنَوْعِ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَجْسَامِ فِي إزَالَةِ الدَّاءِ الْمُعَيَّنِ . ثُمَّ ذَلِكَ النَّوْعُ الْمُعَيَّنُ يَخْفَى عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ بَلْ عَلَى عَامَّتِهِمْ دَرْكُهُ وَمَعْرِفَتُهُ الْخَاصَّةُ الْمُزَاوِلُونَ مِنْهُمْ هَذَا الْفَنَّ أُولُوا الْأَفْهَامِ وَالْعُقُولِ يَكُونُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ قَدْ أَفْنَى كَثِيرًا مِنْ عُمْرِهِ فِي مَعْرِفَتِهِ ذَلِكَ ثُمَّ يَخْفَى عَلَيْهِ نَوْعُ الْمَرَضِ وَحَقِيقَتُهُ وَيَخْفَى عَلَيْهِ دَوَاؤُهُ وَشِفَاؤُهُ فَفَارَقَتْ الْأَسْبَابُ الْمُزِيلَةُ لِلْمَرَضِ الْأَسْبَابَ الْمُزِيلَةَ لِلْمَخْمَصَةِ فِي هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْبَيِّنَةِ وَغَيْرِهَا فَكَذَلِكَ افْتَرَقَتْ أَحْكَامُهَا كَمَا ذَكَرْنَا . وَبِهَذَا ظَهَرَ الْجَوَابُ عَنْ الْأَقْيِسَةِ الْمَذْكُورَةِ وَالْقَوْلُ الْجَامِعُ فِيهَا يَسْقُطُ وَيُبَاحُ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ مَا حَضَرَنِي الْآنَ . أَمَّا سُقُوطُ مَا يَسْقُطُ مِنْ الْقِيَامِ وَالصِّيَامِ وَالِاغْتِسَالِ ; فَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ ذَلِكَ مُسْتَيْقَنَةٌ بِخِلَافِ التَّدَاوِي . وَأَيْضًا فَإِنَّ تَرْكَ الْمَأْمُورِ بِهِ أَيْسَرُ مِنْ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } فَانْظُرْ كَيْفَ أَوْجَبَ الِاجْتِنَابَ عَنْ كُلِّ مَنْهِيٍّ عَنْهُ وَفَرَّقَ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ بَيْنَ الْمُسْتَطَاعِ وَغَيْرِهِ وَهَذَا يَكَادُ يَكُونُ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا فِي الْمَسْأَلَةِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ الْوَاجِبَاتِ مِنْ الْقِيَامِ وَالْجُمُعَةِ وَالْحَجِّ تَسْقُطُ بِأَنْوَاعِ مِنْ الْمَشَقَّةِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِاسْتِبَاحَةِ شَيْءٍ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ وَهَذَا بَيِّنٌ بِالتَّأَمُّلِ . وَأَمَّا الْحِلْيَةُ : فَإِنَّمَا أُبِيحَ الذَّهَبُ لِلْأَنْفِ وَرَبْطِ الْأَسْنَانِ ; لِأَنَّهُ اضْطِرَارٌ وَهُوَ يَسُدُّ الْحَاجَةَ يَقِينًا كَالْأَكْلِ فِي الْمَخْمَصَةِ . وَأَمَّا لُبْسُ الْحَرِيرِ : لِلْحَكَّةِ وَالْجَرَبِ إنْ سَلِمَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْحَرِيرَ وَالذَّهَبَ لَيْسَا مُحَرَّمَيْنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَإِنَّهُمَا قَدْ أُبِيحَا لِأَحَدِ صِنْفَيْ الْمُكَلَّفِينَ وَأُبِيحَ لِلصِّنْفِ الْآخَرِ بَعْضُهُمَا وَأُبِيحَ التِّجَارَةُ فِيهِمَا وَإِهْدَاؤُهُمَا لِلْمُشْرِكِينَ . فَعُلِمَ إنَّهُمَا أُبِيحَا لِمُطْلَقِ الْحَاجَةِ وَالْحَاجَةُ إلَى التَّدَاوِي أَقْوَى مِنْ الْحَاجَةِ إلَى تَزَيُّنِ النِّسَاءِ بِخِلَافِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ النَّجَاسَاتِ . وَأُبِيحَ أَيْضًا لِحُصُولِ الْمَصْلَحَةِ بِذَلِكَ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ . ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَرِيرِ وَالطَّعَامِ : أَنَّ بَابَ الطَّعَامِ يُخَالِفُ بَابَ اللِّبَاسِ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الطَّعَامِ فِي الْأَبْدَانِ أَشَدُّ مِنْ تَأْثِيرِ اللِّبَاسِ عَلَى مَا قَدْ مَضَى . فَالْمُحَرَّمُ مِنْ الطَّعَامِ لَا يُبَاحُ إلَّا لِلضَّرُورَةِ الَّتِي هِيَ الْمَسْغَبَةُ وَالْمَخْمَصَةُ وَالْمُحَرَّمُ مِنْ اللِّبَاسِ يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ وَلِلْحَاجَةِ أَيْضًا هَكَذَا جَاءَتْ السُّنَّةُ وَلَا جَمْعَ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الضَّرُورَاتِ وَالْحَاجَاتِ مَعْلُومٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الشَّرْعِيَّاتِ وَقَدْ حَصَلَ الْجَوَابُ عَنْ كُلِّ مَا يُعَارَضُ بِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْخَمْرِ أَيُتَدَاوَى بِهَا ؟ فَقَالَ : إنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِدَوَاءِ } فَهَذَا نَصٌّ فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ رَدًّا عَلَى مَنْ أَبَاحَهُ وَسَائِرُ الْمُحَرَّمَاتِ مِثْلُهَا قِيَاسًا خِلَافًا لِمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ قِيَاسَ الْمُحَرَّمِ مِنْ الطَّعَامِ أَشْبَهُ مِنْ الْغُرَابِ بِالْغُرَابِ ; بَلْ الْخَمْرُ قَدْ كَانَتْ مُبَاحَةً فِي بَعْضِ أَيَّامِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ أَبَاحَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ نَوْعِهَا الشُّرْبَ دُونَ الْإِسْكَارِ وَالْمَيْتَةُ وَالدَّمُ بِخِلَافِ ذَلِكَ . فَإِنْ قِيلَ : الْخَمْرُ قَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِدَوَاءِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : هِيَ دَوَاءٌ بِخِلَافِ غَيْرِهَا . وَأَيْضًا فَفِي إبَاحَةِ التَّدَاوِي بِهَا إجَازَةُ اصْطِنَاعِهَا وَاعْتِصَارِهَا وَذَلِكَ دَاعٍ إلَى شُرْبِهَا وَلِذَلِكَ اخْتَصَّتْ بِالْحَدِّ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْمَطَاعِمِ الْخَبِيثَةِ لِقُوَّةِ مَحَبَّةِ الْأَنْفُسِ لَهَا . فَأَقُولُ : أَمَّا قَوْلُك : لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : هِيَ دَوَاءٌ . فَهُوَ حَقٌّ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي سَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ { إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِي حَرَامٍ } ثُمَّ مَاذَا تُرِيدُ بِهَذَا ؟ أَتُرِيدُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ فِيهَا قُوَّةً طَبِيعِيَّةً مِنْ السُّخُونَةِ وَغَيْرِهَا ؟ جَرَتْ الْعَادَةُ فِي الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ أَنَّهُ يَنْدَفِعُ بِهَا بَعْضُ الْأَدْوَاءِ الْبَارِدَةِ . كَسَائِرِ الْقُوَى وَالطَّبَائِعِ الَّتِي أَوْدَعَهَا جَمِيعَ الْأَدْوِيَةِ مِنْ الْأَجْسَامِ . أَمْ تُرِيدُ شَيْئًا آخَرَ ؟ فَإِنْ أَرَدْت الْأَوَّلَ فَهُوَ بَاطِلٌ بِالْقَضَايَا الْمُجَرَّبَةِ الَّتِي تَوَاطَأَتْ عَلَيْهَا الْأُمَمُ وَجَرَتْ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مَجْرَى الضَّرُورِيَّات بَلْ هُوَ رَدٌّ لِمَا يُشَاهَدُ وَيُعَايَنُ . بَلْ قَدْ قِيلَ : إنَّهُ رَدٌّ لِلْقُرْآنِ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى { قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } وَلَعَلَّ هَذَا فِي الْخَمْرِ أَظْهَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَقَالَاتِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ طِيبِ الْأَبْدَانِ . وَإِنْ أَرَدْت أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّهَا دَاءٌ لِلنُّفُوسِ وَالْقُلُوبِ وَالْعُقُولِ وَهِيَ أُمُّ الْخَبَائِثِ وَالنَّفْسُ وَالْقَلْبُ هُوَ الْمَلِكُ الْمَطْلُوبُ صَلَاحُهُ وَكَمَالُهُ وَإِنَّمَا الْبَدَنُ آلَةٌ لَهُ وَهُوَ تَابِعٌ لَهُ مُطِيعٌ لَهُ طَاعَةَ الْمَلَائِكَةِ رَبَّهَا فَإِذَا صَلَحَ الْقَلْبُ صَلَحَ الْبَدَنُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَ الْقَلْبُ فَسَدَ الْبَدَنُ كُلُّهُ فَالْخَمْرُ هِيَ دَاءٌ وَمَرَضٌ لِلْقَلْبِ مُفْسِدٌ لَهُ مُضَعْضِعٌ لِأَفْضَلِ خَوَاصِّهِ الَّذِي هُوَ الْعَقْلُ وَالْعِلْمُ وَإِذَا فَسَدَ الْقَلْبُ فَسَدَ الْبَدَنُ كُلُّهُ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فَتَصِيرُ دَاءً لِلْبَدَنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِوَاسِطَةِ كَوْنِهَا دَاءً لِلْقَلْبِ . وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَمْوَالِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْمَسْرُوقَةِ فَإِنَّهُ رُبَّمَا صَلَحَ عَلَيْهَا الْبَدَنُ وَنَبَتَ وَسَمِنَ لَكِنْ يَفْسُدُ عَلَيْهَا الْقَلْبُ فَيَفْسُدُ الْبَدَنُ بِفَسَادِهِ . وَأَمَّا الْمَصْلَحَةُ : الَّتِي فِيهَا فَإِنَّهَا مَنْفَعَةٌ لِلْبَدَنِ فَقَطْ وَنَفْعُهَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ فَهِيَ وَإِنْ أَصْلَحَتْ شَيْئًا يَسِيرًا فَهِيَ فِي جَنْبِ مَا تُفْسِدُهُ كَلَا إصْلَاحٍ . وَهَذَا بِعَيْنِهِ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى { فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } فَهَذَا لَعَمْرِي شَأْنُ جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّ فِيهَا مِنْ الْقُوَّةِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي الْقَلْبِ ثُمَّ الْبَدَنِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا يُرْبِي عَلَى مَا فِيهَا مِنْ مَنْفَعَةٍ قَلِيلَةٍ تَكُونُ فِي الْبَدَنِ وَحْدَهُ فِي الدُّنْيَا خَاصَّةً . عَلَى أَنَّا وَإِنْ لَمْ نَعْلَمْ جِهَةَ الْمَفْسَدَةِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّا نَقْطَعُ أَنَّ فِيهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا يُرْبِي عَلَى مَا نَظُنُّهُ مِنْ الْمَصَالِحِ . فَافْهَمْ هَذَا فَإِنَّ بِهِ يَظْهَرُ فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ وَسِرُّهَا . وَأَمَّا إفْضَاؤُهُ إلَى اعْتِصَارِهَا : فَلَيْسَ بِشَيْءِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَخْذُهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ اعْتِصَارُهَا وَإِنَّمَا الْقَوْلُ إذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً أَنَّ هَذَا مُنْتَقِضٌ بِإِطْفَاءِ الْحَرْقِ بِهَا وَدَفْعِ الْغُصَّةِ إذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا . وَأَمَّا اخْتِصَاصُهَا بِالْحَدِّ : فَإِنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ يُوجِبُ الْحَدَّ فِي الْمَيْتَةِ أَيْضًا وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ لَكِنَّ الْفَرْقَ أَنَّ فِي النُّفُوسِ دَاعِيًا طَبْعِيًّا وَبَاعِثًا إرَادِيًّا إلَى الْخَمْرِ فَنَصْبُ رَادِعٍ شَرْعِيٍّ وَزَاجِرٍ دُنْيَوِيٍّ أَيْضًا لِيَتَقَابَلَا وَيَكُونَ مَدْعَاةً إلَى قِلَّةِ شُرْبِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ غَيْرُهَا مِمَّا لَيْسَ فِي النُّفُوسِ إلَيْهِ كَثِيرُ مَيْلٍ وَلَا عَظِيمُ طَلَبٍ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : مَا رَوَى حَسَّانُ بْنُ مخارق قَالَ : { قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ اشْتَكَتْ بِنْتٌ لِي فَنَبَذْت لَهَا فِي كُوزٍ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَغْلِي فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ فَقُلْت : إنَّ بِنْتِي اشْتَكَتْ فَنَبَذْنَا لَهَا هَذَا فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِي حَرَامٍ } رَوَاهُ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ - وَفِي رِوَايَةٍ { إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } وَصَحَّحَهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ وَهَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ . الْوَجْهُ الرَّابِعُ : مَا رَوَاهُ أَبُو داود فِي السُّنَنِ { أَنَّ رَجُلًا وُصِفَ لَهُ ضُفْدَعٌ يَجْعَلُهَا فِي دَوَاءٍ فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ الضُّفْدَعِ وَقَالَ : إنَّ نَقْنَقَتَهَا تَسْبِيحٌ } فَهَذَا حَيَوَانٌ مُحَرَّمٌ وَلَمْ يُبَحْ لِلتَّدَاوِي وَهُوَ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ . وَلَعَلَّ تَحْرِيمَ الضُّفْدَعِ أَخَفُّ مِنْ تَحْرِيمِ الْخَبَائِثِ غَيْرَهَا فَإِنَّهُ أَكْثَرُ مَا قِيلَ فِيهَا أَنَّ نَقْنَقَتَهَا تَسْبِيحٌ فَمَا ظَنُّك بِالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَهَذَا كُلُّهُ بَيَّنَ لَك اسْتِخْفَافَهُ بِطَلَبِ الطِّبِّ وَاقْتِضَائِهِ وَإِجْرَائِهِ مَجْرَى الرِّفْقِ بِالْمَرِيضِ وَتَطْيِيبِ قَلْبِهِ وَلِهَذَا قَالَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ لِرَجُلِ : قَالَ لَهُ : أَنَا طَبِيبٌ قَالَ : { أَنْتَ رَفِيقٌ وَاَللَّهُ الطَّبِيبُ } . الْوَجْهُ الْخَامِسُ : مَا رُوِيَ أَيْضًا فِي سُنَنِهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ } وَهُوَ نَصٌّ جَامِعٌ مَانِعٌ وَهُوَ صُورَةُ الْفَتْوَى فِي الْمَسْأَلَةِ . الْوَجْهُ السَّادِسُ : الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ : { مَا أُبَالِي مَا أَتَيْت - أَوْ مَا رَكِبْت - إذَا شَرِبْت تِرْيَاقًا أَوْ تَعَلَّقْت تَمِيمَةً أَوْ قُلْت الشِّعْرَ مِنْ نَفْسِي } مَعَ مَا رُوِيَ مِنْ كَرَاهَةِ مَنْ كَرِهَ التِّرْيَاقَ مِنْ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُقَابِلْ ذَلِكَ نَصٌّ عَامٌّ وَلَا خَاصٌّ يَبْلُغُ ذُرْوَةَ الْمَطْلَبِ وَسَنَامَ الْمَقْصِدِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَوْلَا أَنِّي كَتَبْت هَذَا مِنْ حِفْظِي لَاسْتَقْصَيْت الْقَوْلَ عَلَى وَجْهٍ يُحِيطُ بِمَا دَقَّ وَجَلَّ وَاَللَّهُ الْهَادِي إلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ .