مسألة تالية
متن:
( الدَّلِيلُ السَّادِسُ وَهُوَ التَّاسِعُ : الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ سَاجِدًا عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي معيط إلَى قَوْمٍ قَدْ نَحَرُوا جَزُورًا لَهُمْ فَجَاءَ بِفَرْثِهَا وَسَلَاهَا فَوَضَعَهُمَا عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سَاجِدٌ وَلَمْ يَنْصَرِفْ حَتَّى قَضَى صَلَاتَهُ } فَهَذَا أَيْضًا بَيِّنٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْفَرْثَ وَالسَّلَى لَمْ يَقْطَعْ الصَّلَاةَ وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ فِيمَا أَرَى إلَّا عَلَى أَحَدِ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ : إمَّا أَنْ يُقَالَ هُوَ مَنْسُوخٌ وَأَعْنِي بِالنَّسْخِ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مُرْتَفِعٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ ثَبَتَ لِأَنَّهُ بِخِطَابِ كَانَ بِمَكَّةَ . وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِيَقِينِ ; وَأَمَّا بِالظَّنِّ فَلَا يَثْبُتُ النَّسْخُ . وَأَيْضًا فَإِنَّا مَا عَلِمْنَا أَنَّ اجْتِنَابَ النَّجَاسَةِ كَانَ غَيْرَ وَاجِبٍ ثُمَّ صَارَ وَاجِبًا لَا سِيَّمَا مَنْ يَحْتَجُّ عَلَى اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } وَسُورَةُ الْمُدَّثِّرِ فِي أَوَّلِ الْمُنَزَّلِ فَيَكُونُ فَرْضُ التَّطْهِيرِ مِنْ النَّجَاسَاتِ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَوَّلِ الْفَرَائِضِ . فَهَذَا هَذَا . وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ حَمْلِ النَّجَاسَةِ فِي الصَّلَاةِ وَعَامَّةُ مَنْ يُخَالِفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا يَقُولُ بِهَذَا الْقَوْلِ فَيَلْزَمُهُمْ تَرْكُ الْحَدِيثِ . ثُمَّ هَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ لِخِلَافِهِ الْأَحَادِيثَ الصِّحَاحَ فِي دَمِ الْحَيْضِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ . ثُمَّ إنِّي لَا أَعْلَمُهُمْ يَخْتَلِفُونَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ وَأَنَّ إعَادَةَ الصَّلَاةِ مِنْهُ أَوْلَى فَهَذَا هَذَا . لَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يُقَالَ : الْفَرْثُ وَالسَّلَى لَيْسَ بِنَجِسِ وَإِنَّمَا هُوَ طَاهِرٌ ; لِأَنَّهُ فَرْثُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِكَثْرَةِ الْقَائِلِينَ بِهِ وَظُهُورِ الدَّلَائِلِ عَلَيْهِ . وَبِطُولِ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلِينَ يُوجِبُ تَعَيُّنَ هَذَا . ( فَإِنْ قِيلَ فَفِيهِ السَّلَى وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ دَمٌ . قُلْنَا : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَمًا يَسِيرًا بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَسِيرٌ وَالدَّمُ الْيَسِيرُ مَعْفُوٌّ عَنْ حَمْلِهِ فِي الصَّلَاةِ . ( فَإِنْ قِيلَ فَالسَّلَى لَحْمٌ مِنْ ذَبِيحَةِ الْمُشْرِكِينَ وَذَلِكَ نَجِسٌ وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ . قُلْنَا : لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ قَدْ كَانَ حَرَّمَ حِينَئِذٍ ذَبَائِحَ الْمُشْرِكِينَ بَلْ الْمَظْنُونُ أَوْ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ حُرِّمَتْ حِينَئِذٍ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُنَجِّسُونَ ذَبَائِحَ قَوْمِهِمْ . وَكَذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَجْتَنِبُ إلَّا مَا ذُبِحَ لِلْأَصْنَامِ . أَمَّا مَا ذَبَحَهُ قَوْمُهُ فِي دُورِهِمْ لَمْ يَكُنْ يَتَجَنَّبُهُ وَلَوْ كَانَ تَحْرِيمُ ذَبَائِحِ الْمُشْرِكِينَ قَدْ وَقَعَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ لَكَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقَّةِ عَلَى النَّفَرِ الْقَلِيلِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مَا لَا قَبِلَ لَهُمْ بِهِ فَإِنَّ عَامَّةَ أَهْلِ الْبَلَدِ مُشْرِكُونَ وَهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا وَيَشْرَبُوا إلَّا مِنْ طَعَامِهِمْ وَخُبْزِهِمْ . وَفِي أَوَانِيهِمْ لِقِلَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ وَفَقْرِهِمْ . ثُمَّ الْأَصْلُ عَدَمُ التَّحْرِيمِ حِينَئِذٍ فَمَنْ ادَّعَاهُ احْتَاجَ إلَى دَلِيلٍ .