تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)

التحليل الموضوعي

متن:
فَصْلٌ وَأَمَّا الْمُسْلِمُ : إذَا تَرَكَ الْوَاجِبَ قَبْلَ بُلُوغِ الْحُجَّةِ أَوْ مُتَأَوِّلًا مِثْلُ مَنْ تَرَكَ الْوُضُوءَ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ أَوْ مَسِّ الذَّكَرِ أَوْ صَلَّى فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ أَوْ تَرَكَ الصَّلَاةَ جَهْلًا بِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ بَعْدَ إسْلَامِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ : تَارَةً تَكُونُ رِوَايَةً مَنْصُوصَةً وَتَارَةً تَكُونُ وَجْهًا . وَأَصْلُهَا أَنَّ حُكْمَ الْخِطَابِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ هَلْ يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ قَبْلَ بُلُوغِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي مُصَنَّفٍ مُفْرَدٍ . وَفِيهَا وَجْهٌ ثَالِثٌ اخْتَارَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْأَصْحَابِ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْخِطَابِ النَّاسِخِ وَالْخِطَابِ الْمُبْتَدَأِ . فَلَا يَثْبُتُ النَّسْخُ إلَّا بَعْدَ بُلُوغِ النَّاسِخِ ; بِخِلَافِ الْخِطَابِ الْمُبْتَدَأِ . وَقَدْ قَرَّرُوهُ بِالدَّلَائِلِ الْكَثِيرَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا وَأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْخِطَابِ إلَّا بَعْدَ الْبَلَاغِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا . وَلِهَذَا لَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَضَاءِ لِأَبِي ذَرٍّ لَمَّا مَكَثَ مُدَّةً لَا يُصَلِّي مَعَ الْجَنَابَةِ بِالتَّيَمُّمِ وَلَا أَمَرَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي قَضِيَّةِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَلَا أَمَرَ بِإِعَادَةِ الصَّوْمِ مَنْ أَكَلَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الْعِقَالُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْأَسْوَدِ وَنَظَائِرُهُ مُتَعَدِّدَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ . بَلْ إذَا عُفِيَ لِلْكَافِرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ عَمَّا تَرَكَهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ لِعَدَمِ الِاعْتِقَادِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ فَرَضَهَا عَلَيْهِ وَهُوَ مُعَذَّبٌ عَلَى تَرْكِهَا فَلَأَنْ يَعْفُوَ لِلْمُسْلِمِ عَمَّا تَرَكَهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ لِعَدَمِ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ وَهُوَ غَيْرُ مُعَذِّبِهِ عَلَى التَّرْكِ لِاجْتِهَادِهِ أَوْ تَقْلِيدِهِ أَوْ جَهْلِهِ الَّذِي يُعْذَرُ بِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَكَمَا أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ فَالتَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهَا لَا سِيَّمَا تَوْبَةُ الْمَعْذُورِ الَّذِي بَلَغَهُ النَّصُّ أَوْ فَهِمَهُ بَعْدَ إنْ لَمْ يَكُنْ تَمَكَّنَ مِنْ سَمِعَهُ وَفَهِمَهُ وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدًّا إلَى الْغَايَةِ . وَكَذَلِكَ مَا فَعَلَهُ من الْعُقُودِ والقبوض الَّتِي لَمْ يَبْلُغْهُ تَحْرِيمَهَا لِجَهْلِ يُعْذَرُ بِهِ أَوْ تَأْوِيلٍ . فَعَلَى إحْدَى الْقَوْلَيْنِ حُكْمُهُ فِيهَا هَذَا الْحُكْمُ وَأَوْلَى . فَإِذَا عَامَلَ مُعَامَلَةً يَعْتَقِدُ جَوَازَهَا بِتَأْوِيلِ : مِنْ رِبًا أَوْ مَيْسِرٍ أَوْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ وَتَابَ أَوْ تَحَاكَمَ إلَيْنَا أَوْ اسْتَفْتَانَا فَإِنَّهُ يُقَرُّ عَلَى مَا قَبَضَهُ بِهَذِهِ الْعُقُودِ وَيُقَرُّ عَلَى النِّكَاح الَّذِي مَضَى مُفْسِدُهُ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَزَوَّجَ بِلَا وَلِيٍّ أَوْ بِلَا شُهُودٍ مُعْتَقِدًا جَوَازَ ذَلِكَ أَوْ نَكَحَ الْخَامِسَةَ فِي عِدَّةِ الرَّابِعَةِ أَوْ نِكَاحَ تَحْلِيلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ وَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ فِيمَا بَعْدُ فَسَادَ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ يُقَرُّ عَلَيْهِ . أَمَا إذَا كَانَ نَكَحَ بِاجْتِهَادٍ وَتَبَيَّنَ لَهُ الْفَسَادُ بِاجْتِهَادِ فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُنْقَضُ بِالِاجْتِهَادِ لَا فِي الْحُكْمِ وَلَا فِي الْفُتْيَا أَيْضًا فَهَذَا مَأْخَذٌ آخَرُ . وَإِنَّمَا الْغَرَضُ هُنَا أَنَّهُ لَوْ تَيَقَّنَ التَّحْرِيمَ بِالنَّصِّ الْقَاطِعِ . كَتَيَقُّنِ مَنْ كَانَ كَافِرًا صِحَّةَ الْإِسْلَامِ . فَإِنَّا نُقِرُّهُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ وَمِنْ الْمَقْبُوضِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُفْسِدُ قَائِمًا . كَمَا يُقَرُّ الْكُفَّارُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ عَلَى مُنَاكَحَتِهِمْ الَّتِي كَانَتْ مُحَرَّمَةً فِي الْإِسْلَامِ وَأَوْلَى . فَإِنَّ فِعْلَ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ بَابٌ وَاحِدٌ . كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْكَافِرِ . وَهَذَا بَيِّنٌ ; فَإِنَّ الْعَفْوَ وَالْإِقْرَارَ لِلْمُسْلِمِ الْمُتَأَوِّلِ بَعْدَ الرُّجُوعِ عَنْ تَأْوِيلِهِ أَوْلَى مِنْ الْعَفْوِ وَالْإِقْرَارِ عَنْ الْكَافِرِ الْمُتَأَوِّلِ لَكِنْ فِي هَذَا خِلَافٌ فِي الْمَذْهَبِ وَغَيْرِهِ . وَشُبْهَةُ الْخَالِفِ نَظَرُهُ إلَى أَنَّ هَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ وَجَعَلَ الْمُسْلِمِينَ جِنْسًا وَاحِدًا وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُتَأَوِّلِ وَغَيْرِهِ . وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : مَا أَتْلَفَهُ أَهْلُ الْبَغْيِ الْمُتَأَوِّلُونَ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ هَلْ يَضْمَنُونَ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ . إحْدَاهُمَا : يَضْمَنُونَهُ جَعَلَا لَهُمْ كَالْمُحَارِبِينَ وَكَقِتَالِ الْعَصَبِيَّةِ الَّذِي لَا تَأْوِيلَ فِيهِ وَهَذَا نَظِيرُ مَنْ يَجْعَلُ الْعُقُودَ والقبوض الْمُتَأَوَّلَ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَا تَأْوِيلَ فِيهِ . والثانية : لَا يَضْمَنُونَهُ وَعَلَى هَذَا اتَّفَقَ السَّلَفُ كَمَا قَالَ الزُّهْرِيُّ : وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ فَأَجْمَعُوا أَنَّ كُلَّ دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ فَرْجٍ أُصِيبَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ - وَفِي لَفْظٍ - { أَلْحِقُوهُمْ فِي ذَلِكَ بِأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ } . وَلِهَذَا { لَمْ يُضَمِّنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةَ دَمَ الَّذِي قَتَلَهُ بَعْدَ مَا قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } لِأَنَّهُ قَتَلَهُ مُتَأَوِّلًا : أَيْ أَنَّهُمْ وَإِنْ اسْتَحَلُّوا الْمُحَرَّمَ ; لَكِنْ لَمَّا كَانُوا جَاهِلِينَ مُتَأَوِّلِينَ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي عَدَمِ الضَّمَانِ وَإِنْ فَارَقُوهُمْ فِي عَفْوِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ عُفِيَ لَهَا عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ بِخِلَافِ الْكَافِرِ ; فَإِنَّهُ لَا يُغْفَرُ لَهُ الْكُفْرُ الَّذِي أَخْطَأَ فِيهِ .