مسألة تالية
متن:
فَصْلٌ وَلَكِنَّ النَّظَرَ فِي فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَنْ تَرَكَ الْوَاجِبَ أَوْ فَعَلَ الْمُحَرَّمَ لَا بِاعْتِقَادِ وَلَا بِجَهْلِ يُعْذَرُ فِيهِ وَلَكِنْ جَهْلًا وَإِعْرَاضًا عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ أَوْ أَنَّهُ سَمِعَ إيجَابَ هَذَا وَتَحْرِيمَ هَذَا وَلَمْ يَلْتَزِمْهُ إعْرَاضًا . لَا كُفْرًا بِالرِّسَالَةِ فَهَذَانِ نَوْعَانِ يَقَعَانِ كَثِيرًا مَنْ تَرَكَ طَلَبَ الْعَامِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ حَتَّى تَرَكَ الْوَاجِبَ وَفَعَلَ الْمُحَرَّمَ غَيْرَ عَالِمٍ بِوُجُوبِهِ وَتَحْرِيمِهِ أَوْ بَلَغَهُ الْخِطَابُ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَلْتَزِمْ اتِّبَاعَهُ تَعَصُّبًا لِمَذْهَبِهِ . أَوْ اتِّبَاعًا لِهَوَاهُ فَإِنَّ هَذَا تَرَكَ الِاعْتِقَادَ الْوَاجِبَ بِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ . كَمَا تَرَكَ الْكَافِرُ الْإِسْلَامَ . فَإِنَّ الِاعْتِقَادَ هُوَ الْإِقْرَارُ بِالتَّصْدِيقِ وَالِالْتِزَامِ فَقَدْ يَتْرُكُ التَّصْدِيقَ وَالِالْتِزَامَ جَمِيعًا لِعَدَمِ النَّظَرِ الْمُوجِبِ لِلتَّصْدِيقِ وَقَدْ يَكُونُ مُصَدِّقًا بِقَلْبِهِ لَكِنَّهُ غَيْرَ مُقِرٍّ وَلَا مُلْتَزِمٍ اتِّبَاعًا لِهَوَاهُ . فَهَلْ يَكُونُ حَالُ هَذَا إذَا تَابَ وَأَقَرَّ بِالْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ تَصْدِيقًا وَالْتِزَامًا بِمَنْزِلَةِ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ لِأَنَّ التَّوْبَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا كَمَا أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ ؟ فَهَذِهِ الصُّورَةُ أَبْعَدُ مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا فَإِنَّ مَنْ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ عَلَى التَّارِكِ الْمُتَأَوِّلِ وَفَسَخَ الْعَقْدَ وَالْقَبْضَ عَلَى الْمُتَأَوِّلِ الْمَعْذُورِ فَعَلَى هَذَا الْمُذْنِبِ بِتَرْكِ الِاعْتِقَادِ الْوَاجِبِ أَوْلَى . وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ وَجَزَمْنَا بِصِحَّتِهِ فَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ . قَدْ يُقَالُ : هَذَا عَاصٍ ظَالِمٌ بِتَرْكِ التَّعَلُّمِ وَالِالْتِزَامِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْعَفْوِ عَنْ الْمُخْطِئِينَ فِي تَأْوِيلِهِ الْعَفْوُ عَنْ هَذَا . وَقَدْ يُقَالُ وَهُوَ أَظْهَرُ فِي الدَّلِيلِ وَالْقِيَاسِ : لَيْسَ هَذَا بِأَسْوَإِ حَالٍ مِنْ الْكَافِرِ الْمُعَانِدِ الَّذِي تَرَكَ الْقُرْآنَ كِبْرًا وَحَسَدًا وَهَوًى أَوْ سَمِعَهُ وَتَدَبَّرَهُ وَاسْتَيْقَنَتْ نَفْسُهُ أَنَّهُ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَكِنْ جَحَدَ ذَلِكَ ظُلْمًا وَعُلُوًّا : كَحَالِ فِرْعَوْنَ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُكَذِّبُونَك وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ . وَالتَّوْبَةُ كَالْإِسْلَامِ فَإِنَّ الَّذِي قَالَ : { الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ } هُوَ الَّذِي قَالَ : { التَّوْبَةُ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا } وَذَلِكَ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ العاص رَوَاهُ أَحْمَد وَمُسْلِمٌ . فَإِذَا كَانَ الْعَفْوُ عَنْ الْكَافِرِ لِأَجْلِ مَا وَجَدَ مِنْ الْإِسْلَامِ الْمَاحِي وَالْحَسَنَاتُ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ وَلِأَنَّ فِي عَدَمِ الْعَفْوِ تَنْفِيرٌ عَنْ الدُّخُولِ لِمَا يَلْزَمُ الدَّاخِلَ فِيهِ مِنْ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى لِسَانِ هَذَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي التَّوْبَةِ عَنْ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ فَإِنَّ الِاعْتِرَافَ بِالْحَقِّ وَالرُّجُوعَ إلَيْهِ حَسَنَةٌ يَمْحُو اللَّهُ بِهَا السَّيِّئَاتِ وَفِي عَدَمِ الْعَفْوِ تَنْفِيرٌ عَظِيمٌ عَنْ التَّوْبَةِ وَآصَارٌ ثَقِيلَةٌ وَأَغْلَالٌ عَظِيمَةٌ عَلَى التَّائِبِينَ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ يُبَدِّلُ لِعَبْدِهِ التَّائِبِ بَدَلَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً } عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ : { يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } . فَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ الَّتِي تَابَ مِنْهَا صَارَتْ حَسَنَاتٍ لَمْ يَبْقَ فِي حَقِّهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ سَيِّئَةٌ أَصْلًا فَيَصِيرُ ذَلِكَ الْقَبْضُ وَالْعَقْدُ مِنْ بَابِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ وَيَصِيرُ ذَلِكَ التَّرْكُ مِنْ بَابِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ فَلَا يُجْعَلُ تَارِكًا لِوَاجِبِ وَلَا فَاعِلًا لِمُحَرَّمِ وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا } .