مسألة تالية
متن:
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ . أَمَّا بَعْدُ فَهَذِهِ " قَاعِدَةٌ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِالسَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ " مِثْلُ قَصْرِ الصَّلَاةِ وَالْفِطْرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ جَعَلُوهَا نَوْعَيْنِ : نَوْعًا يَخْتَصُّ بِالسَّفَرِ الطَّوِيلِ وَهُوَ : الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ . وَنَوْعًا يَقَعُ فِي الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ كَالتَّيَمُّمِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ هُوَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ وَأَمَّا الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَمِنْ الْأَوَّلِ وَفِي ذَلِكَ نِزَاعٌ . وَالْكَلَامُ فِي مَقَامَيْنِ : أَحَدُهُمَا الْفَرْقُ بَيْنَ السَّفَرِ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ فَيُقَالُ : هَذَا الْفَرْقُ لَا أَصْلَ لَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ الْأَحْكَامُ الَّتِي عَلَّقَهَا اللَّهُ بِالسَّفَرِ عَلَّقَهَا بِهِ مُطْلَقًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الطَّهَارَةِ : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ } وقَوْله تَعَالَى فِي آيَةِ الصِّيَامِ { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } وقَوْله تَعَالَى { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } . وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ } وَقَوْلِ عَائِشَةَ : فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَزِيدَتْ فِي الْحَضَرِ . { وَقَوْلِ عُمَرَ : صَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْجُمْعَةِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ } . وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ } وَقَوْلِ { صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كُنَّا سَفْرًا أَوْ مُسَافِرِينَ أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ إلَّا مِنْ جَنَابَةٍ وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ نَوْمٍ } وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ } وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ مِنْ سَفَرِهِ فَلْيَتَعَجَّلْ الرُّجُوعَ إلَى أَهْلِهِ } فَهَذِهِ النُّصُوصُ وَغَيْرُهَا مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَيْسَ فِيهَا تَفْرِيقٌ بَيْنَ سَفَرٍ طَوِيلٍ وَسَفَرٍ قَصِيرٍ . فَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ فَرْقًا لَا أَصْلَ لَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ مِنْ تَعْلِيقِ الشَّارِعِ الْحُكْمَ بِمُسَمَّى الِاسْمِ الْمُطْلَقِ وَتَفْرِيقِ بَعْضِ النَّاسِ بَيْنَ نَوْعٍ وَنَوْعٍ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ شَرْعِيَّةٍ لَهُ نَظَائِرُ . مِنْهَا أَنَّ الشَّارِعَ عَلَّقَ الطَّهَارَةَ بِمُسَمَّى الْمَاءِ فِي قَوْلِهِ { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَاءٍ وَمَاءٍ وَلَمْ يَجْعَلْ الْمَاءَ نَوْعَيْنِ طَاهِرًا وَطَهُورًا . وَمِنْهَا أَنَّ الشَّارِعَ عَلَّقَ الْمَسْحَ بِمُسَمَّى الْخُفِّ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ خُفٍّ وَخُفٍّ : فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْمَفْتُوقُ وَالْمَخْرُوقُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَيْضًا أَنْ يَثْبُتَ بِنَفْسِهِ . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَثْبَتَ الرَّجْعَةَ فِي مُسَمَّى الطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ وَلَمْ يُقَسِّمْ طَلَاقَ الْمَدْخُولِ بِهَا إلَى طَلَاقٍ بَائِنٍ وَرَجْعِيٍّ . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَثْبَتَ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ بَعْدَ طَلْقَتَيْنِ وَافْتِدَاءٍ وَالِافْتِدَاءُ الْفُرْقَةُ بِعِوَضِ وَجَعْلُهَا مُوجِبَةً لِلْبَيْنُونَةِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ يُحْسَبُ مِنْ الثَّلَاثِ . وَهَذَا الْحُكْمُ مُعَلَّقٌ بِهَذَا الْمُسَمَّى لَمْ يُفَرَّقْ فِيهِ بَيْنَ لَفْظٍ وَلَفْظٍ . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَّقَ الْكَفَّارَةَ بِمُسَمَّى أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فِي قَوْله تَعَالَى { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } وَقَوْلِهِ { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ يَمِينٍ وَيَمِينٍ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَجَعْلُ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ الْمُنْعَقِدَةِ تَنْقَسِمُ إلَى مُكَفِّرَةٍ وَغَيْرِ مُكَفِّرَةٍ مُخَالِفٌ لِذَلِكَ . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَّقَ التَّحْرِيمَ بِمُسَمَّى الْخَمْرِ وَبَيَّنَ أَنَّ الْخَمْرَ هِيَ الْمُسْكِرُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مُسْكِرٍ وَمُسْكِرٍ . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِمُسَمَّى الْإِقَامَةِ كَمَا عَلَّقَهُ بِمُسَمَّى السَّفَرِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مُقِيمٍ وَمُقِيمٍ . فَجَعْلُ الْمُقِيمِ نَوْعَيْنِ : نَوْعًا تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ بِغَيْرِهِ وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِ . وَنَوْعًا تَنْعَقِدُ بِهِ لَا أَصْلَ لَهُ . بَلْ الْوَاجِبُ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ لَمَّا عَلَّقَهَا الشَّارِعُ بِمُسَمَّى السَّفَرِ فَهِيَ تَتَعَلَّقُ بِكُلِّ سَفَرٍ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ السَّفَرُ طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا وَلَكِنْ ثَمَّ أُمُورٌ لَيْسَتْ مِنْ خَصَائِصِ السَّفَرِ بَلْ تُشْرَعُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ فَإِنَّ الْمُضْطَرَّ إلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ لَمْ يَخُصَّ اللَّهُ حُكْمَهُ بِسَفَرٍ لَكِنَّ الضَّرُورَةَ أَكْثَرُ مَا تَقَعُ بِهِ فِي السَّفَرِ فَهَذَا لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ فَلَا يُجْعَلُ هَذَا مُعَلَّقًا بِالسَّفَرِ . وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَهَلْ يَجُوزُ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . ( أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ قِيَاسًا عَلَى الْقَصْرِ . وَ ( الثَّانِي يَجُوزُ كَقَوْلِ مَالِكٍ ; لِأَنَّ ذَلِكَ شُرِعَ فِي الْحَضَرِ لِلْمَرَضِ وَالْمَطَرِ فَصَارَ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ إنَّمَا عِلَّتُهُ الْحَاجَةُ لَا السَّفَرُ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لَيْسَ مُعَلَّقًا بِالسَّفَرِ وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ بِخِلَافِ الْقَصْرِ . وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ بَلْ { اسْتَفَاضَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَتْ بِهِ وَيُوتِرُ عَلَيْهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ } . وَهَلْ يَسُوغُ ذَلِكَ فِي الْحَضَرِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ فَإِذَا جُوِّزَ فِي الْحَضَرِ فَفِي الْقَصْرِ أَوْلَى . وَأَمَّا إذَا مُنِعَ فِي الْحَضَرِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَصْرِ وَالْفِطْرِ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ .