مسألة تالية
متن:
الْمَقَامُ الثَّانِي حَدُّ السَّفَرِ الَّذِي عَلَّقَ الشَّارِعُ بِهِ الْفِطْرَ وَالْقَصْرَ . وَهَذَا مِمَّا اضْطَرَبَ النَّاسُ فِيهِ . قِيلَ : ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ . وَقِيلَ : يَوْمَيْنِ قَاصِدَيْنِ . وَقِيلَ : أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ . حَتَّى قِيلَ : مِيلٌ . وَاَلَّذِينَ حَدَّدُوا ذَلِكَ بِالْمَسَافَةِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا وَقِيلَ : سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ وَقِيلَ : خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ وَقِيلَ أَرْبَعُونَ وَهَذِهِ أَقْوَالٌ عَنْ مَالِكٍ وَقَدْ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي لَا أَعْلَمُ لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَئِمَّةُ وَجْهًا . وَهُوَ كَمَا قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّ التَّحْدِيدَ بِذَلِكَ لَيْسَ ثَابِتًا بِنَصِّ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا قِيَاسٍ . وَعَامَّةُ هَؤُلَاءِ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ السَّفَرِ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ حَدًّا لِلسَّفَرِ الطَّوِيلِ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُسَمِّي سَفَرًا إلَّا مَا بَلَغَ هَذَا الْحَدَّ وَمَا دُونَ ذَلِكَ لَا يُسَمِّيهِ سَفَرًا . فَاَلَّذِينَ قَالُوا : ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ { يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ } وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ { لَا تُسَافِرْ امْرَأَةٌ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ } وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ { مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ } وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { مَسِيرَةَ يَوْمٍ } وَفِي السُّنَنِ " بَرِيدًا " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ سَفَرٌ وَإِذْنُهُ لَهُ فِي الْمَسْحِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إنَّمَا هُوَ تَجْوِيزٌ لِمَنْ سَافَرَ ذَلِكَ وَهُوَ لَا يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ أَقَلُّ السَّفَرِ كَمَا أَذِنَ لِلْمُقِيمِ أَنْ يَمْسَحَ يَوْمًا وَلَيْلَةً . وَهُوَ لَا يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ أَقَلُّ الْإِقَامَةِ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : يَوْمَيْنِ اعْتَمَدُوا عَلَى قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ . وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ عَنْ الصَّحَابَةِ حَتَّى عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ . وَمَا رُوِيَ { يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مِنْ مَكَّةَ إلَى عسفان } إنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَرِوَايَةُ ابْنِ خزيمة وَغَيْرِهِ لَهُ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ عِنْدَ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ . وَكَيْفَ يُخَاطِبُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ مَكَّةَ بِالتَّحْدِيدِ وَإِنَّمَا أَقَامَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ زَمَنًا يَسِيرًا وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ لَا يَحِدُّ لِأَهْلِهَا حَدًّا كَمَا حَدَّهُ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَمَا بَالُ التَّحْدِيدِ يَكُونُ لِأَهْلِ مَكَّةَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . وَأَيْضًا فَالتَّحْدِيدُ بِالْأَمْيَالِ وَالْفَرَاسِخِ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ مِسَاحَةِ الْأَرْضِ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا خَاصَّةُ النَّاسِ . وَمَنْ ذَكَرَهُ فَإِنَّمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ تَقْلِيدًا وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا يُقْطَعُ بِهِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقَدِّرْ الْأَرْضَ بِمِسَاحَةٍ أَصْلًا فَكَيْفَ يُقَدِّرُ الشَّارِعُ لِأُمَّتِهِ حَدًّا لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فِي كَلَامِهِ وَهُوَ مَبْعُوثٌ إلَى جَمِيعِ النَّاسِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِقْدَارُ السَّفَرِ مَعْلُومًا عِلْمًا عَامًّا وَذَرْعُ الْأَرْضِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ ; بَلْ هُوَ إمَّا مُتَعَذَّرٌ وَإِمَّا مُتَعَسِّرٌ ; لِأَنَّهُ إذَا أَمْكَنَ الْمُلُوكَ وَنَحْوَهُمْ مَسْحُ طَرِيقٍ فَإِنَّمَا يَمْسَحُونَهُ عَلَى خَطٍّ مُسْتَوٍ أَوْ خُطُوطٍ مُنْحَنِيَةٍ انْحِنَاءً مَضْبُوطًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسَافِرِينَ قَدْ يَعْرِفُونَ غَيْرَ تِلْكَ الطَّرِيقِ وَقَدْ يَسْلُكُونَ غَيْرَهَا وَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَسَافَةِ صُعُودٌ وَقَدْ يَطُولُ سَفَرُ بَعْضِهِمْ لِبُطْءِ حَرَكَتِهِ وَيَقْصُرُ سَفَرُ بَعْضِهِمْ لِسُرْعَةِ حَرَكَتِهِ وَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ هُوَ نَفْسُ السَّفَرِ لَا نَفْسُ مِسَاحَةِ الْأَرْضِ . وَالْمَوْجُودُ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ فِي تَقْدِيرِ الْأَرْضِ بِالْأَزْمِنَةِ كَقَوْلِهِ فِي الْحَوْضِ { طُولُهُ شَهْرٌ وَعَرْضُهُ شَهْرٌ } وَقَوْلِهِ { بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { إحْدَى أَوْ اثْنَتَانِ أَوْ ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً } فَقِيلَ الْأَوَّلُ بِالسَّيْرِ الْمُعْتَادِ سَيْرُ الْإِبِلِ وَالْأَقْدَامِ وَالثَّانِي سَيْرُ الْبَرِيدِ ; فَإِنَّهُ فِي الْعَادَةِ يُقْطَعُ بِقَدْرِ الْمُعْتَادِ سَبْعَ مَرَّاتٍ . وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ يَقُولُونَ يَوْمٌ تَامٌّ وَيَوْمَانِ ; وَلِهَذَا قَالَ مَنْ حَدَّهُ بِثَمَانِيَةِ وَأَرْبَعِينَ مِيلًا : مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ قَاصِدِينَ بِسَيْرِ الْإِبِلِ وَالْأَقْدَامِ لَكِنَّ هَذَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَقُولُ : كُلُّ اسْمٍ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الشَّرْعِ فَالْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ فَمَا كَانَ سَفَرًا فِي عُرْفِ النَّاسِ فَهُوَ السَّفَرُ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ الشَّارِعُ الْحُكْمَ وَذَلِكَ مِثْلُ سَفَرِ أَهْلِ مَكَّةَ إلَى عَرَفَةَ ; فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسَافَةَ بَرِيدٌ وَهَذَا سَفَرٌ ثَبَتَ فِيهِ جَوَازُ الْقَصْرِ وَالْجَمْعِ بِالسُّنَّةِ ; وَالْبَرِيدُ هُوَ نِصْفُ يَوْمٍ بِسَيْرِ الْإِبِلِ وَالْأَقْدَامِ وَهُوَ رُبُعُ مَسَافَةِ يَوْمَيْنِ وَلَيْلَتَيْنِ وَهُوَ الَّذِي قَدْ يُسَمَّى مَسَافَةَ الْقَصْرِ وَهُوَ الَّذِي يُمْكِنُ الذَّاهِبُ إلَيْهَا أَنْ يَرْجِعَ مِنْ يَوْمِهِ . وَأَمَّا مَا دُونَ هَذِهِ الْمَسَافَةِ إنْ كَانَتْ مَسَافَةُ الْقَصْرِ مَحْدُودَةً بِالْمِسَاحَةِ : فَقَدْ قِيلَ يَقْصُرُ فِي مِيلٍ . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : لَوْ سَافَرْت مِيلًا لَقَصَرْت . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : لَمْ نَجِدْ أَحَدًا يَقْصُرُ فِي أَقَلَّ مِنْ مِيلٍ وَوُجِدَ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ يَقْصُرُونَ فِي هَذَا الْقَدْرِ وَلَمْ يُحِدَّ الشَّارِعُ فِي السَّفَرِ حَدًّا فَقُلْنَا بِذَلِكَ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ الْمُطْلَقَةِ وَلَمْ نَجِدْ أَحَدًا يَقْصُرُ بِمَا دُونَ الْمِيلِ . وَلَكِنْ هُوَ عَلَى أَصْلِهِ وَلَيْسَ هَذَا إجْمَاعًا فَإِذَا كَانَ ظَاهِرُ النَّصِّ يَتَنَاوَلُ مَا دُونَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ أَنْ لَا يَعْرِفَ أَحَدًا ذَهَبَ إلَيْهِ كَعَادَتِهِ فِي أَمْثَالِهِ . وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَا يَقْصُرُ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْصُرُ فِي يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ فَإِمَّا أَنْ تَتَعَارَضَ أَقْوَالُهُ أَوْ تُحْمَلَ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ . وَالْكَلَامُ فِي مَقَامَيْنِ : " الْمَقَامُ الْأَوَّلُ " أَنَّ مَنْ سَافَرَ مِثْلَ سَفَرِ أَهْلِ مَكَّةَ إلَى عَرَفَاتٍ يَقْصُرُ وَأَمَّا إذَا قِيلَ لَيْسَتْ مَحْدُودَةً بِالْمَسَافَةِ بَلْ الِاعْتِبَارُ بِمَا هُوَ سَفَرٌ فَمَنْ سَافَرَ مَا يُسَمَّى سَفَرًا قَصَرَ وَإِلَّا فَلَا . وَقَدْ يَرْكَبُ الرَّجُلُ فَرْسَخًا يَخْرُجُ بِهِ لِكَشْفِ أَمْرٍ وَتَكُونُ الْمَسَافَةُ أَمْيَالًا وَيَرْجِعُ فِي سَاعَةٍ أَوْ سَاعَتَيْنِ وَلَا يُسَمَّى مُسَافِرًا وَقَدْ يَكُونُ غَيْرُهُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمَسَافَةِ مُسَافِرًا بِأَنْ يَسِيرَ عَلَى الْإِبِلِ وَالْأَقْدَامِ سَيْرًا لَا يَرْجِعُ فِيهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ إلَى مَكَانِهِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ . ( أَحَدُهَا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ كَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَفِي أَيَّامِ مِنًى وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ بَعْدَهُ وَكَانَ يُصَلِّي خَلْفَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَلَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِإِتْمَامِ الصَّلَاةِ وَلَا نَقَلَ أَحَدٌ لَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَهْلِ مَكَّةَ - لَمَّا صَلَّى بِالْمُسْلِمِينَ بِبَطْنِ عرنة الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ قَصْرًا وَجَمْعًا : ثُمَّ الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ - يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ . وَلَا أَمَرَهُمْ بِتَأْخِيرِ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَلَا نَقَلَ أَحَدٌ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْحَجِيجِ لَا أَهْلَ مَكَّةَ وَلَا غَيْرَهُمْ صَلَّى خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافَ مَا صَلَّى بِجُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ نَقَلَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عُمَرَ قَالَ فِي هَذَا الْيَوْمِ " يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ " فَقَدْ غَلِطَ وَإِنَّمَا نُقِلَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا فِي جَوْفِ مَكَّةَ لِأَهْلِ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ [ قَالَهُ ] لِأَهْلِ مَكَّةَ لَمَّا صَلَّى فِي جَوْفِ مَكَّةَ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ قَامُوا فَأَتَمُّوا وَصَلَّوْا أَرْبَعًا وَفَعَلُوا ذَلِكَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَبِمِنًى أَيَّامَ مِنًى لَكَانَ مِمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ بِالضَّرُورَةِ ; بَلْ لَوْ أَخَّرُوا صَلَاةَ الْعَصْرِ ثُمَّ قَامُوا دُونَ سَائِرِ الْحُجَّاجِ فَصَلَّوْهَا قَصْرًا لَنُقِلَ ذَلِكَ فَكَيْفَ إذَا أَتَمُّوا الظُّهْرَ أَرْبَعًا دُونَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ إذَا أَخَذُوا فِي إتْمَامِ الظُّهْرِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ شَرَعَ فِي الْعَصْرِ لَكَانَ إمَّا أَنْ يَنْتَظِرَهُمْ فَيُطِيلَ الْقِيَامَ وَإِمَّا أَنْ يَفُوتَهُمْ مَعَهُ بَعْضُ الْعَصْرِ بَلْ أَكْثَرُهَا ; فَكَيْفَ إذَا كَانُوا يُتِمُّونَ الصَّلَوَاتِ ؟ وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَهُوَ عَلَى مَنْ يَقُولُ : إنَّ أَهْلَ مَكَّةَ جَمَعُوا مَعَهُ أَظْهَرُ . وَذَلِكَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ تَنَازَعُوا فِي أَهْلِ مَكَّةَ هَلْ يَقْصُرُونَ وَيَجْمَعُونَ بِعَرَفَةَ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . فَقِيلَ لَا يَقْصُرُونَ وَلَا يَجْمَعُونَ . وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : كَالْقَاضِي فِي " الْمُجَرَّدِ " وَابْنِ عَقِيلٍ فِي " الْفُصُولِ " لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مُعَلَّقٌ بِالسَّفَرِ الطَّوِيلِ ; وَهَذَا قَصِيرٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ وَلَا يَقْصُرُونَ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَمِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَالْمَنْقُولَاتُ عَنْ أَحْمَد تُوَافِقُ هَذَا ; فَإِنَّهُ أَجَابَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بِأَنَّهُمْ لَا يَقْصُرُونَ . وَلَمْ يَقُلْ : لَا يَجْمَعُونَ وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي فِي الْجَمْعِ وَأَحْسَنَ فِي ذَلِكَ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ وَيَقْصُرُونَ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ راهويه وَهُوَ قَوْلُ طَاوُوسٍ وَابْنِ عيينة وَغَيْرِهِمَا : مِنْ السَّلَفِ وَقَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ : كَأَبِي الْخَطَّابِ فِي " الْعِبَادَاتِ الْخَمْسِ " وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد ; فَإِنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ وَمُوَافِقِيهِ رَجَّحُوا الْجَمْعَ لِلْمَكِّيِّ بِعَرَفَةَ . وَأَمَّا " الْقَصْرُ " فَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : الْحُجَّةُ مَعَ مَنْ أَبَاحَ الْقَصْرَ لِكُلِّ مُسَافِرٍ إلَّا أَنْ يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ . وَالْمَعْلُومُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَمْ يَنْعَقِدْ عَلَى خِلَافِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ طَائِفَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ أَصْحَابِ أَحْمَد : كَانَ بَعْضُهُمْ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي مَسِيرَةِ بَرِيدٍ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِخِلَافِهِ لِمَنْ تَبَيَّنَ السُّنَّةَ وَتَدَبَّرَهَا . فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ الْأَحَادِيثَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ وَسِيَاقَهَا عَلِمَ عِلْمًا يَقِينًا أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ صَلَّوْا بِصَلَاتِهِ قَصْرًا وَجَمْعًا وَلَمْ يَفْعَلُوا خِلَافَ ذَلِكَ . وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ قَطُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَا بِعَرَفَةَ وَلَا مُزْدَلِفَةَ وَلَا مِنًى : { يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ } وَإِنَّمَا نُقِلَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي نَفْسِ مَكَّةَ كَمَا رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ عَنْهُ وَقَوْلُهُ ذَلِكَ فِي دَاخِلِ مَكَّةَ دُونَ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى دَلِيلٌ عَلَى الْفَرْقِ . وَقَدْ رُوِيَ مِنْ جِهَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِمِنًى " يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ " وَلَيْسَ لَهُ إسْنَادٌ . وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ قَدْ يُقَالُ إنَّهُ لِأَجْلِ النُّسُكِ كَمَا تَقُولُهُ الْحَنَفِيَّةُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَهُوَ مُقْتَضَى نَصِّهِ ; فَإِنَّهُ يَمْنَعُ الْمَكِّيَّ مِنْ الْقَصْرِ بِعَرَفَةَ وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ الْجَمْعِ وَقَالَ فِي جَمْعِ الْمُسَافِرِ : إنَّهُ يَجْمَعُ فِي الطَّوِيلِ كَالْقَصْرِ عِنْدَهُ وَإِذَا قِيلَ : الْجَمْعُ لِأَجْلِ النُّسُكِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجْمَعُ إلَّا بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ كَمَا تَقُولُهُ الْحَنَفِيَّةُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَجْمَعُ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْجَمْعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَفَرًا وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّلَاثَةِ : مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَقَدْ يُقَالُ : لِأَنَّ ذَلِكَ سَفَرٌ قَصِيرٌ وَهُوَ يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ كَمَا قَالَ هَذَا وَهَذَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فَإِنَّ الْجَمْعَ لَا يَخْتَصُّ بِالسَّفَرِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْمَعُ فِي حَجَّتِهِ إلَّا بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَلَمْ يَجْمَعْ بِمِنًى وَلَا فِي ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ وَلَكِنْ جَمَعَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ بِعَرَفَةَ لِمُجَرَّدِ السَّفَرِ كَمَا قَصَرَ لِلسَّفَرِ ; بَلْ لِاشْتِغَالِهِ بِاتِّصَالِ الْوُقُوفِ عَنْ النُّزُولِ وَلِاشْتِغَالِهِ بِالْمَسِيرِ إلَى مُزْدَلِفَةَ وَكَانَ جَمْعُ عَرَفَةَ لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ وَجَمْعُ مُزْدَلِفَةَ لِأَجْلِ السَّيْرِ الَّذِي جَدَّ فِيهِ وَهُوَ سَيْرُهُ إلَى مُزْدَلِفَةَ وَكَذَلِكَ كَانَ يَصْنَعُ فِي سَفَرِهِ : كَانَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ أَخَّرَ الْأُولَى إلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ ثُمَّ يَنْزِلُ فَيُصَلِّيهِمَا جَمِيعًا كَمَا فَعَلَ بمزدلفة . وَلَيْسَ فِي شَرِيعَتِهِ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ الْقِيَاسِ ; بَلْ الْجَمْعُ الَّذِي جَمَعَهُ هُنَاكَ يُشْرَعُ أَنْ يُفْعَلَ نَظِيرُهُ كَمَا يَقُولُهُ الْأَكْثَرُونَ ; وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولَ هُوَ خَارِجٌ عَنْ الْقِيَاسِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ إذَا لَمْ تَكُنْ لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ دَلَّ عَلَى فَسَادِهَا وَلَيْسَ فِيمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ اخْتِلَافٌ وَلَا تَنَاقُضٌ ; بَلْ حُكْمُ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ وَالْحُكْمُ إذَا ثَبَتَ بِعِلَّةٍ ثَبَتَ بِنَظِيرِهَا . وَأَمَّا " الْقَصْرُ " فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ السَّفَرِ وَلَا تَعَلُّقَ لَا بِالنُّسُكِ وَلَا مُسَوِّغَ لِقَصْرِ أَهْلِ مَكَّةَ بِعَرَفَةَ وَغَيْرِهَا إلَّا أَنَّهُمْ بِسَفَرِ وَعَرَفَةُ عَنْ الْمَسْجِدِ بَرِيدٌ كَمَا ذَكَرَهُ الَّذِينَ مَسَحُوا ذَلِكَ وَذَكَرَهُ الأزرقي فِي " أَخْبَارِ مَكَّةَ " . فَهَذَا قَصْرٌ فِي سَفَرٍ قَدْرُهُ بَرِيدٌ وَهُمْ لَمَّا رَجَعُوا إلَى مِنًى كَانُوا فِي الرُّجُوعِ مِنْ السَّفَرِ وَإِنَّمَا كَانَ غَايَةُ قَصْدِهِمْ بَرِيدًا وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ سَفَرِ أَهْلِ مَكَّةَ إلَى عَرَفَةَ وَبَيْنَ سَفَرِ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ إلَى قَدْرِ ذَلِكَ مِنْ بِلَادِهِمْ وَاَللَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ فِي الصَّلَاةِ رَكْعَتَيْنِ إلَّا لِمُسَافِرِ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُسَافِرِينَ وَالْمُقِيمُ إذَا اقْتَدَى بِمُسَافِرٍ فَإِنَّهُ يُصَلِّي أَرْبَعًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ مَكَّةَ فِي مَكَّةَ { أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ } وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَلَكِنْ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ نِزَاعٌ . الدَّلِيلُ الثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ نَهَى أَنْ تُسَافِرَ الْمَرْأَةُ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ : تَارَةً يُقَدِّرُ . وَتَارَةً يُطْلِقُ . وَأَقَلُّ مَا رُوِيَ فِي التَّقْدِيرِ بَرِيدٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْبَرِيدَ يَكُونُ سَفَرًا . كَمَا أَنَّ الثَّلَاثَةَ الْأَيَّامَ تَكُونُ سَفَرًا وَالْيَوْمَيْنِ تَكُونُ سَفَرًا وَالْيَوْمَ يَكُونُ سَفَرًا . هَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَيْسَ لَهَا مَفْهُومٌ ; بَلْ نَهَى عَنْ هَذَا وَهَذَا وَهَذَا . الدَّلِيلُ الثَّالِثُ : أَنَّ السَّفَرَ لَمْ يَحُدَّهُ الشَّارِعُ وَلَيْسَ لَهُ حَدٌّ فِي اللُّغَةِ فَرَجَعَ فِيهِ إلَى مَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ وَيَعْتَادُونَهُ فَمَا كَانَ عِنْدَهُمْ سَفَرًا فَهُوَ سَفَرٌ وَالْمُسَافِرُ يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ إلَى مَقْصِدِهِ وَيَعُودَ إلَى وَطَنِهِ وَأَقَلُّ ذَلِكَ مَرْحَلَةٌ يَذْهَبُ فِي نِصْفِهَا وَيَرْجِعُ فِي نِصْفِهَا وَهَذَا هُوَ الْبَرِيدُ وَقَدْ حَدُّوا بِهَذِهِ الْمَسَافَةِ " الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ " وَ " كِتَابَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي " وَ " الْعَدْوَ عَلَى الْخَصْمِ " وَ " الْحَضَانَةَ " وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . فَلَوْ كَانَتْ الْمَسَافَةُ مَحْدُودَةً لَكَانَ حَدُّهَا بِالْبَرِيدِ أَجْوَدَ ; لَكِنَّ الصَّوَابَ أَنَّ السَّفَرَ لَيْسَ مُحَدَّدًا بِمَسَافَةِ ; بَلْ يَخْتَلِفُ فَيَكُونُ مُسَافِرًا فِي مَسَافَةِ بَرِيدٍ وَقَدْ يَقْطَعُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَكُونُ مُسَافِرًا . الدَّلِيلُ الرَّابِعُ : أَنَّ الْمُسَافِرَ رَخَّصَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِي رَمَضَانَ وَأَقَلُّ الْفِطْرِ يَوْمٌ وَمَسَافَةُ الْبَرِيدِ يَذْهَبُ إلَيْهَا وَيَرْجِعُ فِي يَوْمٍ فَيَحْتَاجُ إلَى الْفِطْرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَيَحْتَاجُ أَنْ يَقْصُرَ الصَّلَاةَ ; بِخِلَافِ مَا دُونَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى قَصْرٍ وَلَا فِطْرٍ إذَا سَافَرَ أَوَّلَ النَّهَارِ وَرَجَعَ قَبْلَ الزَّوَالِ . وَإِذَا كَانَ غُدُوُّهُ يَوْمًا وَرَوَاحُهُ يَوْمًا فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْقَصْرِ وَالْفِطْرِ وَهَذَا قَدْ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَدْ يُرَخَّصُ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ وَيُفْطِرَ فِي بَرِيدٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ لَا يُرَخَّصُ لَهُ فِي أَكْثَرَ مِنْهُ إذَا لَمْ يُعَدَّ مُسَافِرًا . الدَّلِيلُ الْخَامِسُ : أَنَّهُ لَيْسَ تَحْدِيدُ مَنْ حَدَّ الْمَسَافَةَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِأَوْلَى مِمَّنْ حَدَّهَا بِيَوْمَيْنِ وَلَا الْيَوْمَانِ بِأَوْلَى مِنْ يَوْمٍ فَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ لَهَا حَدٌّ بَلْ كُلُّ مَا يُسَمَّى سَفَرًا يُشْرَعُ [ فِيهِ ذَلِكَ ] . وَقَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الْقَصْرُ فِي مَسَافَةِ بَرِيدٍ فَعُلِمَ أَنَّ فِي الْأَسْفَارِ مَا قَدْ يَكُونُ بَرِيدًا وَأَدْنَى مَا يُسَمَّى سَفَرًا فِي كَلَامِ الشَّارِعِ الْبَرِيدُ . وَأَمَّا مَا دُونَ الْبَرِيدِ كَالْمِيلِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي قباء كُلَّ سَبْتٍ وَكَانَ يَأْتِيهِ رَاكِبًا وَمَاشِيًا } وَلَا رَيْبَ [ أَنَّ ] أَهْلَ قباء وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعَوَالِي كَانُوا يَأْتُونَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ وَلَمْ يَقْصُرْ الصَّلَاةَ هُوَ وَلَا هُمْ وَقَدْ كَانُوا يَأْتُونَ الْجُمُعَةَ مِنْ نَحْوِ مِيلٍ وَفَرْسَخٍ وَلَا يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ وَالْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ وَالنِّدَاءُ قَدْ يُسْمَعُ مِنْ فَرْسَخٍ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ أُبِيحَ لَهُ الْقَصْرُ وَالْعَوَالِي بَعْضُهَا مِنْ الْمَدِينَةِ وَإِنْ كَانَ اسْمُ الْمَدِينَةِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمَسَاكِنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ } وَقَالَ : { مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ } . وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَيُنْظَرُ فِيهِ هَلْ هُوَ ثَابِتٌ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ ثَبَتَ فَالرِّوَايَةُ عَنْهُ مُخْتَلِفَةٌ وَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَعَلَّهُ أَرَادَ إذَا قَطَعْت مِنْ الْمَسَافَةِ مِيلًا وَلَا رَيْبَ أَنْ قباء مِنْ الْمَدِينَةِ أَكْثَرُ مِنْ مِيلٍ وَمَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ وَلَا غَيْرُهُ يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ إذَا ذَهَبُوا إلَى قباء . فَقَصْرُ أَهْلِ مَكَّةَ الصَّلَاةَ بِعَرَفَةَ وَعَدَمُ قَصْرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الصَّلَاةَ إلَى قباء وَنَحْوِهَا مِمَّا حَوْلَ الْمَدِينَةِ دَلِيلٌ عَلَى الْفَرْقِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَالصَّلَاةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ إذَا كَانَتْ مُخْتَصَّةً بِالسَّفَرِ لَا تُفْعَلُ إلَّا فِيمَا يُسَمَّى سَفَرًا ; وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي خُرُوجِهِ إلَى مَسْجِدِ قباء مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ إلَيْهِ رَاكِبًا وَمَاشِيًا وَلَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ الدَّاخِلُونَ مِنْ الْعَوَالِي يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ; وَهَذَا لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسَافَةَ قَرِيبَةٌ كَالْمَسَافَةِ فِي الْمِصْرِ . وَاسْمُ " الْمَدِينَةِ " يَتَنَاوَلُ الْمَسَاكِنَ كُلَّهَا فَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إلَّا أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْأَعْرَابُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْأَعْرَابِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ مَسِيرُهُ إلَى قباء كَأَنَّهُ فِي الْمَدِينَةِ فَلَوْ سُوِّغَ ذَلِكَ سُوِّغَتْ الصَّلَاةُ فِي الْمِصْرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا .