تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ الْمُدَاوَاةِ بِالْخَمْرِ : وَقَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّهَا جَائِزَةٌ . فَمَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِدَوَاءِ } فَاَلَّذِي يَقُولُ تَجُوزُ لِلضَّرُورَةِ فَمَا حُجَّتُهُ وَقَالُوا إنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي قَالَ فِيهِ { إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا } ضَعِيفٌ وَاَلَّذِي يَقُولُ بِجَوَازِ الْمُدَاوَاةِ بِهِ فَهُوَ خِلَافُ الْحَدِيثِ وَاَلَّذِي يَقُولُ ذَلِكَ مَا حُجَّتُهُ ؟ .
1
فَأَجَابَ : وَأَمَّا التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ فَإِنَّهُ حَرَامٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأَئِمَّةِ : كَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { سُئِلَ عَنْ الْخَمْرِ تُصْنَعُ لِلدَّوَاءِ فَقَالَ : إنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِدَوَاءِ } وَفِي سُنَن أَبِي داود عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ } وَالْخَمْرُ أُمُّ الْخَبَائِثِ وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا } وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَاَلَّذِينَ جَوَّزُوا التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ قَاسُوا ذَلِكَ عَلَى إبَاحَةِ الْمُحَرَّمَاتِ : كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ لِلْمُضْطَرِّ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِوُجُوهِ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْمُضْطَرَّ يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ يَقِينًا بِتَنَاوُلِ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّهُ إذَا أَكَلَهَا سَدَّتْ رَمَقَهُ وَأَزَالَتْ ضَرُورَتَهُ وَأَمَّا الْخَبَائِثُ بَلْ وَغَيْرُهَا فَلَا يُتَيَقَّنُ حُصُولُ الشِّفَاءِ بِهَا فَمَا أَكْثَرَ مَنْ يَتَدَاوَى وَلَا يُشْفَى وَلِهَذَا أَبَاحُوا دَفْعَ الْغُصَّةِ بِالْخَمْرِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهَا وَتَعَيُّنِهَا لَهُ بِخِلَافِ شُرْبِهَا لِلْعَطَشِ فَقَدْ تَنَازَعُوا فِيهِ : فَإِنَّهُمْ قَالُوا : إنَّهَا لَا تَرْوِي . الثَّانِي : أَنَّ الْمُضْطَرَّ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى إزَالَةِ ضَرُورَتِهِ إلَّا الْأَكْلُ مِنْ هَذِهِ الْأَعْيَانِ وَأَمَّا التَّدَاوِي فَلَا يَتَعَيَّنُ تَنَاوُلُ هَذَا الْخَبِيثِ طَرِيقًا لِشِفَائِهِ فَإِنَّ الْأَدْوِيَةَ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ وَقَدْ يَحْصُلُ الشِّفَاءُ بِغَيْرِ الْأَدْوِيَةِ كَالدُّعَاءِ وَالرُّقْيَةِ وَهُوَ أَعْظَمُ نَوْعَيْ الدَّوَاءِ . حَتَّى قَالَ بقراط : نِسْبَةُ طِبِّنَا إلَى طِبِّ أَرْبَابِ الْهَيَاكِلِ كَنِسْبَةِ طِبِّ الْعَجَائِزِ إلَى طِبِّنَا . وَقَدْ يَحْصُلُ الشِّفَاءُ بِغَيْرِ سَبَبٍ اخْتِيَارِيٍّ بَلْ بِمَا يَجْعَلُهُ اللَّهُ فِي الْجِسْمِ مِنْ الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . الثَّالِثُ : أَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ وَغَيْرِهِمْ كَمَا قَالَ مَسْرُوقٌ : مَنْ اُضْطُرَّ إلَى الْمَيْتَةِ فَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ . وَأَمَّا التَّدَاوِي فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأَئِمَّةِ . وَإِنَّمَا أَوْجَبَهُ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بَلْ قَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ : أَيُّمَا أَفْضَلُ : التَّدَاوِي ؟ أَمْ الصَّبْرُ ؟ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ { الْجَارِيَةِ الَّتِي كَانَتْ تُصْرَعُ وَسَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ لَهَا فَقَالَ : إنْ أَحْبَبْت أَنْ تَصْبِرِي وَلَك الْجَنَّةُ وَإِنْ أَحْبَبْت دَعَوْت اللَّهَ أَنْ يَشْفِيَك فَقَالَتْ : بَلْ أَصْبِرُ وَلَكِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِي أَلَّا أَتَكَشَّفَ فَدَعَا لَهَا أَلَّا تَتَكَشَّفَ } وَلِأَنَّ خَلْقًا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَمْ يَكُونُوا يَتَدَاوَوْنَ بَلْ فِيهِمْ مَنْ اخْتَارَ الْمَرَضَ . كأبي بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي ذَرٍّ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِمْ تَرْكُ التَّدَاوِي . وَإِذَا كَانَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَاجِبًا وَالتَّدَاوِي لَيْسَ بِوَاجِبِ لَمْ يَجُزْ قِيَاسُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَإِنَّ مَا كَانَ وَاجِبًا قَدْ يُبَاحُ فِيهِ مَا يُبَاحُ فِي غَيْرِ الْوَاجِبِ ; لِكَوْنِ مَصْلَحَةِ أَدَاءِ الْوَاجِبِ تَغْمُرُ مَفْسَدَةَ الْمُحَرَّمِ وَالشَّارِعُ يَعْتَبِرُ الْمَفَاسِدَ وَالْمَصَالِحَ فَإِذَا اجْتَمَعَا قَدَّمَ الْمَصْلَحَةَ الرَّاجِحَةَ عَلَى الْمَفْسَدَةِ الْمَرْجُوحَةِ ; وَلِهَذَا أَبَاحَ فِي الْجِهَادِ الْوَاجِبِ مَا لَمْ يُبِحْهُ فِي غَيْرِهِ حَتَّى أَبَاحَ رَمْيَ الْعَدُوِّ بِالْمَنْجَنِيقِ وَإِنْ أَفْضَى ذَلِكَ إلَى قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَتَعَمُّدُ ذَلِكَ يَحْرُمُ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .