مسألة تالية
متن:
( فَصْلٌ ) " مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ أَنِّي أَطْلُبُ تَفْوِيضَ الْحُكْمِ إلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ " فَهَذَا لَا يَصْلُحُ بَلْ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى ذَلِكَ الشَّخْصِ وَعَلَيَّ وَفَسَادٌ عَامٌّ وَذَلِكَ أَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ عَنْ الْقَاضِي " بَدْرِ الدِّينِ أَنِّي كُنْت مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ مُوَالَاةً لَهُ وَمُنَاصَرَةً وَمُعَاوَنَةً لَهُ وَمُدَافَعَةً لِأَعْدَائِهِ عَنْهُ فِي أُمُورٍ مُتَعَدِّدَةٍ , بَلْ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَكْثَرَ فِي مُخَالَصَةٍ لَهُ وَمُعَاوَنَةٍ .
وَذَلِكَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا لِرَغْبَةِ , وَلَا لِرَهْبَةِ مِنِّي .
وَقِطْعَةٍ قَوِيَّةٍ مِمَّا حَصَلَ لِي مِنْ الْأَذَى -
بِدِمَشْقَ وَبِمِصْرِ أَيْضًا - إنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ انْتِصَارِي لَهُ وَلِنُوَّابِهِ : مِثْلَ الزرعي وَالتَّبْرِيزِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَاشِيَتِهِ وَتَنْوِيهِي بِمَحَاسِنِهِ فِي مِصْرَ أَيْضًا قَدْ عُرِفْت بِذَلِكَ فَإِنَّهُ حِزْبُ الرَّدَى وَغَيْرُهُ يُعَادُونِي عَلَى ذَلِكَ . وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ مَنْزِلَتَهُ عِنْدِي وَمَكَانَتَهُ مِنْ قَلْبِي لَيْسَتْ قَرِيبَةً مِنْ مَنْزِلَةِ غَيْرِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ مِثْلَهَا . وَحَاشَا لِلَّهِ أَنْ يُشَبَّهَ بَدْرُ الدِّينِ بِمَنْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ زَائِدَةٍ . وَفِي سُنَنِ أَبِي داود عَنْ { عَائِشَةَ قَالَتْ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ أَنْ نُنْزِلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ } " . وَعِنْدِي مِنْ أَظْلَمِ النَّاسِ مَنْ يُقْرِنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ بِالشَّامِ أَوْ بِمِصْرِ وَمَا زَالَ بَدْرُ الدِّينِ مَظْلُومًا بِمِثْلِ هَذَا مِنْ الْإِقْرَانِ وَأَنَا أَعْتَقِدُ مِنْ أَعْظَمِ مَا أَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ نَصْرُهُ وَمُوَالَاتُهُ وَمُعَاوَنَتُهُ أَنْتُمْ تَعْرِفُونَ فِي هَذَا خُصُوصًا بِهَذِهِ الدِّيَارِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مُعَاوَنَةً لَهُ وَمُنَاصَرَةً لَهُ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ بِالشَّامِ لِأَنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ النُّفْرَةِ عَنْهُ وَالْكَذِبِ وَالْفُجُورِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهِمْ . فَأَنَا أُحِبُّ وَأَخْتَارُ كُلَّ مَا فِيهِ عُلُوُّ قَدْرِهِ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ . وَلَا أُحِبُّ أَنْ أَجْعَلَهُ غَرَضًا لِسِهَامِ الْأَعْدَاءِ . بَلْ مَا عَمِلْت مَعَهُ وَمَعَ غَيْرِهِ وَمَا أَعْمَلُ مَعَهُمْ فَأَجْرِي فِيهِ عَلَى اللَّهِ الَّذِي يَقُولُ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } { وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } . وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ الطيبرسي الْقُضَاةَ وَأَجْمَلَهُمْ : قُلْت لَهُ إنَّمَا دَخَلَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ " ابْنُ مَخْلُوفٍ وَذَاكَ رَجُلٌ كَذَّابٌ فَاجِرٌ قَلِيلُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ , فَجَعَلَ يَتَبَسَّمُ لَمَّا جَعَلْت أَقُولُ هَذَا كَأَنَّهُ يَعْرِفُهُ وَكَأَنَّهُ مَشْهُورٌ بِقُبْحِ السِّيرَةِ .
وَقُلْت مَا لِابْنِ مَخْلُوفٍ وَالدُّخُولُ فِي هَذَا ؟ هَلْ ادَّعَى أَحَدٌ عَلَيَّ دَعْوَى مِمَّا يَحْكُمُ بِهِ ؟ أَمْ هَذَا الَّذِي تَكَلَّمْت فِيهِ هُوَ مِنْ أَمْرِ الْعِلْمِ الْعَامِّ ؟ : مِثْلَ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَمَعَانِي الْأَحَادِيثِ وَالْكَلَامِ فِي الْفِقْهِ وَأُصُولِ الدِّينِ . وَهَذِهِ الْمَرْجِعُ فِيهَا إلَى مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا وَالتَّقْوَى لِلَّهِ فِيهَا وَإِنْ كَانَ السُّلْطَانُ وَالْحَاكِمُ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ تَكَلَّمَ فِيهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَإِذْ عُزِلَ الْحَاكِمُ لَمْ يَنْعَزِلْ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ ذَلِكَ كَالْإِفْتَاءِ وَنَحْوِهِ وَلَمْ يُقَيَّدْ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ بِالْوِلَايَةِ . وَإِنْ كَانَ السُّلْطَانُ وَالْحَاكِمُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ وَلَا التَّقْوَى فِيهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْكَلَامُ فِيهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ حَاكِمًا . وَابْنُ مَخْلُوفٍ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ وَلَا التَّقْوَى فِيهِ . قُلْت : فَأَمَّا الْقَاضِي بَدْرُ الدِّينِ فَحَاشَا لِلَّهِ . ذَاكَ فِيهِ مِنْ الْفَضِيلَةِ وَالدِّيَانَةِ مَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي هَذَا الْحُكْمِ الْمُخَالِفِ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بِضْعَةٍ وَعِشْرِينَ وَجْهًا . قُلْت وَمَنْ أَصَرَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ الَّذِي حَكَمَ بِهِ ابْنُ مَخْلُوفٍ هُوَ حُكْمُ شَرْعِ مُحَمَّدٍ : فَهُوَ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ كَافِرٌ . فَإِنَّ صِبْيَانَ الْمُسْلِمِينَ يَعْلَمُونَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَا يَرْضَى بِهِ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى فَضْلًا عَنْ الْمُسْلِمِينَ . وَذَكَرْت لَهُ بَعْضَ الْوُجُوهِ الَّذِي يُعْلَمُ بِهَا فَسَادُ هَذَا الْحُكْمِ وَهِيَ مَكْتُوبَةٌ مَعَ " الشَّرَفُ مُحَمَّدٌ . وَكَذَلِكَ نَزَّهْت الْقَاضِيَ شَمْسَ الدِّينِ السروجي عَنْ الدُّخُولِ فِي مِثْلِ هَذَا الْحُكْمِ .
وَقُلْت لَهُ أَنْتُمْ مَا كَانَ مَقْصُودُكُمْ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ , وَإِنَّمَا كَانَ مَقْصُودُكُمْ دَفْعَ
مَا سَمِعْتُمُوهُ مِنْ تُهْمَةِ الْمَلِكِ , وَلَمَّا عَلِمَتْ الْحُكَّامُ أَنَّ فِي الْقَضِيَّةِ أَمْرَ الْمَلِكِ أَحْجَمُوا وَخَافُوا مِنْ الْكَلَامِ خَوْفًا يَعْذُرُهُمْ اللَّهُ فِيهِ أَوْ لَا يَعْذُرُهُمْ .
لَكِنْ لَوْلَا هَذَا لَتَكَلَّمُوا بِأَشْيَاءَ .
وَلَوْ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ شَاذًّا أَوْ فِيهِ غَرَضٌ لِذِي سَيْفٍ لَكَانَ عَجَائِبَ .
فَقَالُوا يَا مَوْلَانَا مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْمَلِكِ .
نَحْنُ مَا نَتَكَلَّمُ .
دَعْنَا مِنْ الْكَلَامِ فِي الْمَلِكِ .
فَقُلْت : أَيُّهَا النَّائِمُ أُخَلِّيكُمْ مِنْ الْمَلِكِ وَهَذِهِ الْفِتْنَةُ الَّتِي قَدْ مَلَأْتُمْ بِهَا الدُّنْيَا هَلْ أَثَارَهَا إلَّا ذَلِكَ وَنَحْنُ قَدْ سَمِعْنَا هَذَا
بِدِمَشْقَ . لَكِنْ مَا اعْتَقَدْنَا أَنَّ عَاقِلًا يُصَدِّقُ بِذَلِكَ . وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ تُهْمَةُ الْمَلِكِ إذَا ذَكَرَ لَهُمْ بَعْضَ مَا يَقُولُهُ الْمُنَازِعُونَ لِي يَسْتَعْظِمُونَهُ جِدًّا وَيَرَوْنَ مُقَابَلَةَ قَائِلِهَا بِأَعْظَمِ الْعُقُوبَةِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } . فَيَعْلَمُ أَنِّي لَوْ أَطْلُبُ هَذَا ذَهَبَتْ الطُّيُورُ بِي وَبِبَدْرِ الدِّينِ كُلَّ مَذْهَبٍ وَقِيلَ إنَّ بَيْنَنَا فِي الْبَاطِنِ اتِّفَاقَاتٍ . فَأَنَا أَعْمَلُ مَعَهُ مَا أَرْجُو جَزَاءَهُ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ يَعْمَلُ بِمُوجِبِ دِينِهِ . وَأَيْضًا " فَبَدْرُ الدِّينِ لَا يَحْتَمِلُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ وَأَذَاهُمْ - مَا يَفْعَلُهُ مِثْلُ هَؤُلَاءِ - رَجُلٌ لَهُ مَنْصِبٌ وَلَهُ أَعْدَاءٌ وَأَنَا - وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ - فَقَدْ فَعَلُوا غَايَةَ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ وَمَا بَقِيَ إلَّا نَصْرُ اللَّهِ الَّذِي وَعَدَ بِهِ رَسُولَهُ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْم يَقُومُ الْأَشْهَادُ .
وَأَيْضًا فَيَعْلَمُ أَنَّ هَذَا إمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْحُكْمِ أَوْ لَا فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْخَصْمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ حُكْمَ حَاكِمٍ مُعَيَّنٍ , بَلْ يَجِبُ إلَى مَنْ يَحْكُمُ بِالْعِلْمِ وَالْعَدْلِ , وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْحَاكِمِ فَذَاكَ أَبْعَدُ .
وَأَيْضًا فَأَنَا لَمْ يُدَّعَ عَلَيَّ دَعْوَى يَخْتَصُّ بِهَا الْحَاكِمُ مِنْ الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ : مِثْلَ قَتْلٍ أَوْ قَذْفٍ أَوْ مَالٍ وَنَحْوِهِ , بَلْ فِي مَسَائِلِ الْعِلْمِ الْكُلِّيَّةِ : مِثْلَ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَهَذَا فِيهِ مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ وَفِيهِ مَا تَنَازَعَتْ فِيهِ .
وَالْأُمَّةُ إذَا تَنَازَعَتْ - فِي مَعْنَى آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ أَوْ حُكْمٍ خَبَرِيٍّ أَوْ طَلَبِيٍّ - لَمْ يَكُنْ صِحَّةُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَفَسَادُ الْآخَرِ ثَابِتًا بِمُجَرَّدِ حُكْمِ حَاكِمٍ , فَإِنَّهُ إنَّمَا يُنَفَّذُ حُكْمُهُ فِي الْأُمُورِ الْمُعَيَّنَةِ دُونَ الْعَامَّةِ .
وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ أَنْ يَحْكُمَ حَاكِمٌ بِأَنَّ
قَوْله تَعَالَى { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } هُوَ الْحَيْضُ وَالْأَطْهَارُ وَيَكُونُ هَذَا حُكْمًا يُلْزِمُ جَمِيعَ النَّاسِ قَوْلَهُ أَوْ يَحْكُمُ بِأَنَّ اللَّمْسَ فِي قَوْله تَعَالَى { أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } هُوَ الْوَطْءُ وَالْمُبَاشَرَةُ فِيمَا دُونَهُ أَوْ بِأَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الزَّوْجُ أَوْ الْأَبُ وَالسَّيِّدُ . وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ . وَكَذَلِكَ النَّاسُ إذَا تَنَازَعُوا فِي قَوْلِهِ : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } فَقَالَ : هُوَ اسْتِوَاؤُهُ بِنَفْسِهِ وَذَاتِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ وَمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ مَعْلُومٌ وَلَكِنَّ كَيْفِيَّتَهُ مَجْهُولَةٌ . وَقَالَ قَوْمٌ : لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ رَبٌّ وَلَا هُنَاكَ شَيْءٌ أَصْلًا . وَلَكِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ : أَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْعَرْشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . لَمْ يَكُنْ حُكْمُ الْحَاكِمِ لِصِحَّةِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَفَسَادِ الْآخَرِ مِمَّا فِيهِ فَائِدَةٌ . وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مَنْ يَنْصُرُ الْقَوْلَ الْآخَرَ يَحْكُمُ بِصِحَّتِهِ إذْ يَقُولُ : وَكَذَلِكَ بَابُ الْعِبَادَاتِ : مِثْلُ كَوْنِ مَسِّ الذَّكَرِ يَنْقُضُ أَوْ لَا وَكَوْنِ الْعَصْرِ يُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهَا أَوْ تَأْخِيرُهَا وَالْفَجْرُ يُقْنَتُ فِيهِ دَائِمًا أَوْ لَا أَوْ يُقْنَتُ عِنْدَ النَّوَازِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَاَلَّذِي عَلَى السُّلْطَانِ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ . إمَّا أَنْ يَحْمِلَهُمْ كُلَّهُمْ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ . لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } . وَإِذَا تَنَازَعُوا فُهِمَ كَلَامُهُمْ : إنْ كَانَ مِمَّنْ يُمْكِنُهُ فَهْمُ الْحَقِّ فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ دَعَا النَّاسَ إلَيْهِ وَأَنْ يُقِرَّ النَّاسَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ . كَمَا يُقِرَّهُمْ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ الْعَمَلِيَّةِ . فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْبِدْعَةُ ظَاهِرَةً - تَعْرِفُ الْعَامَّةُ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلشَّرِيعَةِ - كَبِدْعَةِ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْقَدَرِيَّةِ والجهمية . فَهَذِهِ عَلَى السُّلْطَانِ إنْكَارُهَا ; لِأَنَّ عِلْمَهَا عَامٌّ كَمَا عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ يَسْتَحِلُّ الْفَوَاحِشَ وَالْخَمْرَ وَتَرْكَ الصَّلَاةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَمَعَ هَذَا فَقَدَ يَكْثُرُ أَهْلُ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ فِي بَعْضِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ حَتَّى يَصِيرَ بِسَبَبِ كَثْرَةِ كَلَامِهِمْ مُكَافِئًا - عِنْدَ الْجُهَّالِ - لِكَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ حَتَّى يَشْتَبِهَ الْأَمْرُ عَلَى مَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَ هَؤُلَاءِ فَيَحْتَاجُ حِينَئِذٍ إلَى مَنْ يَقُومُ بِإِظْهَارِ حُجَّةِ اللَّهِ وَتَبْيِينِهَا حَتَّى تَكُونَ الْعُقُوبَةُ بَعْدَ الْحُجَّةِ . وَإِلَّا فَالْعُقُوبَةُ قَبْلَ الْحُجَّةِ لَيْسَتْ مَشْرُوعَةً : قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } . وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ فِي الْبُغَاةِ إنَّ الْإِمَامَ يُرَاسِلُهُمْ فَإِنْ ذَكَرُوا شُبْهَةً بَيَّنَهَا وَإِنْ ذَكَرُوا مَظْلِمَةً أَزَالَهَا كَمَا أَرْسَلَ عَلِيٌّ ابْنَ عَبَّاسٍ إلَى الْخَوَارِجِ فَنَاظَرَهُمْ حَتَّى رَجَعَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَكَمَا طَلَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ دُعَاةَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْخَوَارِجِ فَنَاظَرَهُمْ حَتَّى ظَهَرَ لَهُمْ الْحَقُّ وَأَقَرُّوا بِهِ ثُمَّ بَعْدَ مَوْتِهِ نَقَضَ غَيْلَانُ الْقَدَرِيُّ التَّوْبَةَ فَصُلِبَ . وَأَمَّا إلْزَامُ السُّلْطَانِ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ بِالْتِزَامِ قَوْلٍ بِلَا حُجَّةٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ : فَهَذَا لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُفِيدُ حُكْمُ حَاكِمٍ بِصِحَّةِ قَوْلٍ دُونَ قَوْلٍ فِي مِثْلِ ذَلِكَ إلَّا إذَا كَانَ مَعَهُ حُجَّةٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهَا فَيَكُونُ كَلَامُهُ قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَبَعْدَهَا [ سَوَاءً ] وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْكُتُبِ الَّتِي يُصَنِّفُهَا فِي الْعِلْمِ . نَعَمْ الْوِلَايَةُ قَدْ تُمَكِّنُهُ مِنْ قَوْلِ حَقٍّ وَنَشْرِ عِلْمٍ قَدْ كَانَ يَعْجِزُ عَنْهُ بِدُونِهَا وَبَابُ الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ غَيْرُ بَابِ الِاسْتِحْقَاقِ وَعَدَمِهِ . نَعَمْ لِلْحَاكِمِ إثْبَاتُ مَا قَالَهُ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ مُخْتَصًّا بِهِ كَانَ مِمَّا يَحْكُمُ فِيهِ الْحُكَّامُ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَقْوَالِ الْعَامَّةِ كَانَ مِنْ بَابِ مَذَاهِبِ النَّاسِ . فَأَمَّا كَوْنُ هَذَا الْقَوْلِ ثَابِتًا عِنْدَ زَيْدٍ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ أَوْ خَطٍّ : فَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُكَّامِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ مِثْلَ " بَدْرِ الدِّينِ مِنْ أَعْدَلِ النَّاسِ وَأَحَبِّهِمْ فِي أَهْلِ الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَمِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بُغْضًا لِشُهُودِ الزُّورِ وَلَوْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْهُمْ لَعَمِلَ أَشْيَاءَ فَهَذَا لَوْ اُحْتِيجَ فِيهِ إلَى مِثْلِ بَدْرِ الدِّينِ لَكَانَ هُوَ الْحَاكِمَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَلَّاهُ , دُونَ مَنْ هُوَ مَشْهُورٌ بِالْفُجُورِ .
لَكِنَّ هَذِهِ الْمَحَاضِرَ الَّتِي عِنْدَهُمْ مَا تُسَاوِي مِدَادَهَا وَهُمْ يَعْرِفُونَ كَذِبَهَا وَبُطْلَانَهَا وَأَنَا لَا أَكْرَهُ الْمُحَاقَّةَ عَلَيْهَا عِنْدَهُ لِيَثْبُتَ عِنْدَهُ الْحَقُّ دُونَ الْبَاطِلِ , فَإِنْ كَانَ يُجِيبُ إلَى ذَلِكَ فَيَا حَبَّذَا لَكِنِّي أَخَافُ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ أَذًى فِيَّ بِالْقَدْحِ فِي بَعْضِ النَّاسِ .
فَهُوَ يَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيمَا يَفْعَلُهُ وَاَللَّهُ يُخَيِّرُ لَهُ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ .
بَلْ أَخْتَارُ أَنَا وَغَيْرِي الْمُحَاقَّةَ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ بَعْضِ نُوَّابِهِ كَالْقَاضِي جَمَالِ الدِّينِ الزرعي فَإِنَّهُ مِنْ عُدُولِ الْقُضَاةِ وَإِلَّا فَبَدْرُ الدِّينِ أَجَلُّ قَدْرًا مِنْ أَنْ يُكَلَّفَ ذَلِكَ لَوْ كُنْت مُحْتَاجًا إلَى ذَلِكَ .
فَأَمَّا : وَالْأَمْرُ ظَهَرَ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ فَلَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ كَمَا قُلْت للطيبرسي : الْكِتَابُ مِنْ السُّلْطَانِ الَّذِي كَتَبَ عَلَى لِسَانِ السُّلْطَانِ وَأَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ بِجَمِيعِ مَا أَخْبَرَ مِنْ الْكَذِبِ وَمُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ : أُمُورٌ عَظِيمَةٌ بِنَحْوِ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ وَالْكِتَابُ الَّذِي كُتِبَ عَلَى لِسَانِ غازان كَانَ أَقْرَبَ إلَى الشَّرِيعَةِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي كُتِبَ عَلَى لِسَانِ السُّلْطَانِ .
وَسَوَاءٌ بِأَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ فَإِنِّي أَعْتَقِدُ وَأَدِينُ اللَّهَ بِأَنَّ نَصْرَهُ وَمُعَاوَنَتَهُ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَعَلَى نُفُوذِ صِدْقِهِ وَعَدْلِهِ دُونَ كَذِبِ الْغَيْرِ وَظُلْمِهِ , وَعَلَى رَفْعِ قَدْرِهِ عَلَى الْغَيْرِ مِنْ أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ .
وَقَدْ أَرْسَلَ إلَيَّ الشَّيْخُ نَصْرٌ يَعْرِضُ عَلَيَّ إنْ كُنْت أَخْتَارُ إحْضَارَ الْمَحَاضِرِ لِأَتَمَكَّنَ مِنْ الْقَدْحِ فِيهَا .
فَقُلْت لَهُ فِي الْجَوَابِ : هِيَ أَحْقَرُ وَأَقَلُّ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ دَفْعُهَا إلَى حُضُورِهَا فَإِنِّي قَدْ بَيَّنْت بِضْعَةً وَعِشْرِينَ وَجْهًا أَنَّ هَذَا الْحَاكِمَ خَارِجٌ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ
بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ : أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ .