مسألة تالية
متن:
( فَصْلٌ ) وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ تَعْلَمَهُ : أَنَّ الْقَوْمَ مُسْتَضْعَفُونَ عَنْ الْمُحَاقَّةِ إلَى الْغَايَةِ - ابْنَ مَخْلُوفٍ وَغَيْرَهُ - وَقَدْ أَدَارُوا الرَّأْيَ بَيْنَهُمْ وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ عِنْدَ الْمُحَاقَّةِ مَقْهُورُونَ مُتَهَوِّكُونَ . والطيبرسي طَلَبَ مِنِّي غَيْرَ مَرَّةٍ تَرْكَ الْمُحَاقَّةِ . فَقُلْت لَهُ : أَنَا مَا بَغَيْت عَلَى أَحَدٍ وَلَا قُلْت لِأَحَدِ : وَافِقْنِي عَلَى اعْتِقَادِي وَإِلَّا فَعَلْت بِك وَلَا أَكْرَهْت أَحَدًا بِقَوْلِ وَلَا عَمَلٍ بَلْ مَا كَتَبْت فِي ذَلِكَ شَيْئًا قَطُّ إلَّا أَنْ يَكُونَ جَوَابَ اسْتِفْتَاءٍ بَعْدَ إلْحَاحِ السَّائِلِ وَاحْتِرَاقِهِ وَكَثْرَةِ مُرَاجَعَتِهِ وَلَا عَادَتِي مُخَاطَبَةُ النَّاسِ فِي هَذَا ابْتِدَاءً . وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ دَعَوْا النَّاسَ إلَى مَا دَعَوْهُمْ إلَيْهِ وَأَكْرَمُوهُمْ عَلَيْهِ : فَيُبَيِّنُونَ لِلنَّاسِ مَا الَّذِي أَمَرُوهُمْ بِهِ وَمَا الَّذِي نَهَوْهُمْ عَنْهُ . فَإِنْ كَانُوا أَمَرُوهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ : فَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِمَنْ أَمَرَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ . وَإِنْ كَانُوا أَمَرُوا بِحَقِّ وَبَاطِلٍ وَنَهَوْا عَنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ وَأَمَرُوا وَنَهَوْا عَنْ أُمُورٍ لَا يَعْرِفُونَ حَقِيقَتَهَا . كَانُوا بِذَلِكَ مِنْ الْجَاهِلِينَ الظَّالِمِينَ وَكَانَ الْحَاكِمُ بِذَلِكَ مِنْ الْقَاضِيَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي النَّارِ وَلَمْ تَجُزْ طَاعَتُهُمْ فِي ذَلِكَ بَلْ تَحْرُمُ . وَأَنَا لَوْ شِئْت الْمُحَاقَّةَ كَانَتْ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ لَكِنْ مَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِمَّا قُلْته فَلْيَقُلْ : إنِّي أُنْكِرُ كَذَا وَيَكْتُبُ خَطَّهُ بِمَا أَنْكَرَهُ وَيُوَجَّهُ إنْكَارُهُ لَهُ وَأَنَا أَكْتُبُ خَطِّي بِالْجَوَابِ وَيُعْرَضُ الْكَلَامَانِ عَلَى جَمِيعِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ - شَرْقًا وَغَرْبًا - وَأَنَا قَائِلٌ ذَلِكَ . وَقَدْ قُلْت قَبْلَ ذَلِكَ بِدِمَشْقَ : هَذِهِ الْإِنْكَارَاتُ الْمُجْمَلَةُ لَا تُفِيدُ شَيْئًا بَلْ مَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا فَلْيَكْتُبْ خَطَّهُ بِمَا أَنْكَرَهُ وَبِحُجَّتِهِ وَأَنَا أَكْتُبُ خَطِّي بِجَوَابِ ذَلِكَ وَيَرَى أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ الْكَلَامَيْنِ فَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ . وَأَمَّا الْأَلْفَاظُ الَّتِي لَا تُكْتَبُ فَيَكْثُرُ فِيهَا التَّخْلِيطُ وَالزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ كَمَا قَدْ وَقَعَ وَقَدْ قُلْت فِيمَا قُلْته للطيبرسي : هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي عَمِلْتُمُوهُ فَسَادٌ فِي مِلَّتِكُمْ وَدَوْلَتِكُمْ وَشَرِيعَتِكُمْ وَالْكِتَابُ " السُّلْطَانِيُّ " الَّذِي كُتِبَ عَلَى لِسَانِ السُّلْطَانِ فِيهِ مِنْ الْكَذِبِ عَلَيْكُمْ وَمُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ تَزِيدُ عَلَى عَشَرَةِ أَوْجُهٍ . وَكِتَابُ " غازان الَّذِي قُرِئَ عَلَى مِنْبَرِ الشَّامِ أَقْرَبُ إلَى شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ مِنْ هَذَا الَّذِي كُتِبَ عَلَى لِسَانِ سُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ وَقُرِئَ عَلَى مَنَابِرِ الْإِسْلَامِ فَإِذَا كَانَ بِحُضُورِهِمْ يُكْتَبُ عَلَى الْكَذِبِ عَلَيْكُمْ وَعَلَى الْقُضَاةِ وَيُبَدَّلُ دِينُ الْإِسْلَامِ فَكَيْفَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا غَابَ عَنْكُمْ ؟ وَكَذَلِكَ أَرْسَلْت مَعَ الْفَتَّاحِ إلَى نَائِبِ السُّلْطَانِ أَقُولُ هَذَا الِاعْتِقَادُ عِنْدَكُمْ وَهُوَ الَّذِي بَحَثَهُ عُلَمَاءُ الشَّامِ فَمَنْ كَانَ مُنْكِرًا مِنْهُ شَيْئًا فَلْيُبَيِّنْهُ . وَمِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى النَّاسِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْكِرَ إلَّا بِحُجَّةِ وَبَيَانٍ إذْ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُلْزِمَ أَحَدًا بِشَيْءِ وَلَا يَحْظُرَ عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا بِلَا حُجَّةٍ خَاصَّةٍ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُبَلِّغُ عَنْ اللَّهِ . الَّذِي أَوْجَبَ عَلَى الْخَلْقِ طَاعَتَهُ فِيمَا أَدْرَكَتْهُ عُقُولُهُمْ وَمَا لَمْ تُدْرِكْهُ وَخَبَرُهُ مُصَدَّقٌ فِيمَا عَلِمْنَاهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْهُ وَأَمَّا غَيْرُهُ إذَا قَالَ هَذَا صَوَابٌ أَوْ خَطَأٌ فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ بِمَا يَجِبُ بِهِ اتِّبَاعُهُ فَأَوَّلُ دَرَجَاتِ الْإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ الْمُنْكِرُ عَالِمًا بِمَا يُنْكِرُهُ وَمَا يَقْدِرُ النَّاسُ عَلَيْهِ فَلَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ أَنْ يُبْطِلَ قَوْلًا أَوْ يُحَرِّمَ فِعْلًا إلَّا بِسُلْطَانِ الْحُجَّةِ وَإِلَّا كَانَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { إنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ } وَقَالَ فِيهِ : { الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } . هَذَا وَأَنَا فِي سِعَةِ صَدْرٍ لِمَنْ يُخَالِفُنِي فَإِنَّهُ وَإِنْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ فِيَّ بِتَكْفِيرِ أَوْ تَفْسِيقٍ أَوْ افْتِرَاءٍ أَوْ عَصَبِيَّةٍ جَاهِلِيَّةٍ . فَأَنَا لَا أَتَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ فِيهِ . بَلْ أَضْبُطُ مَا أَقُولُهُ وَأَفْعَلُهُ وَأَزِنُهُ بِمِيزَانِ الْعَدْلِ وَأَجْعَلُهُ مُؤْتَمًّا بِالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ وَجَعَلَهُ هُدًى لِلنَّاسِ حَاكِمًا فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } . وَذَلِكَ أَنَّك مَا جَزَيْت مَنْ عَصَى اللَّهَ فِيك بِمِثْلِ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ { إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يُنْكِرُوا بِمَا شَاءُوا مِنْ حُجَجٍ عَقْلِيَّةٍ أَوْ سَمْعِيَّةٍ فَأَنَا أُجِيبُهُمْ إلَى ذَلِكَ كُلِّهِ وَأُبَيِّنُهُ بَيَانًا يَفْهَمُهُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ أَنَّ الَّذِي أَقُولُهُ : هُوَ الْمُوَافِقُ لِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ وَأَنَّهُ الْمُوَافِقُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَنَّ الْمُخَالِفَ لِذَلِكَ هُوَ الْمُخَالِفُ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ فَلَوْ كُنْت أَنَا الْمُبْتَدِئُ بِالْإِنْكَارِ وَالتَّحْدِيثِ بِمِثْلِ هَذَا : لَكَانَتْ الْحُجَّةُ مُتَوَجِّهَةً عَلَيْهِمْ فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْغَيْرُ هُوَ الْمُبْتَدِئَ بِالْإِنْكَارِ { وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ } الْآيَتَيْنِ { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ } { إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ } { وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } { إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } . وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَعَلَى سَائِرِ الْجَمَاعَةِ وَتَخُصُّ " بَدْرَ الدِّينِ بِأَكْرَمِ تَحِيَّةٍ وَسَلَامٍ وَتُوقِفُهُ عَلَى هَذِهِ الْأَوْرَاقِ إنْ شِئْت , فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ : مَا عَنْ الْمَحْبُوبِ .
سِرٌّ مَحْجُوبٌ وَبَشِّرْ بِكُلِّ مَا يَسَّرَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ وَيَنْتَقِمُ بِهِ مِنْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ , فَإِنِّي أَعْرِفُ جُمَلًا مِمَّا يَتَجَرَّعُهُ هُوَ وَذَوُوه مِنْ أَهْلِ التَّرَؤُّسِ بِالْبَاطِلِ مِنْ ذَوِي الْكَذِبِ وَالْمُحَالِ .
وَاَللَّهُ نَاصِرٌ دِينَهُ وَنَاصِرٌ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مُنَاوِئِيهِمْ بِالْبَاطِلِ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ الْإِخْبَارِ بِتَفَاصِيلَ سَارَّةٍ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .