مسألة تالية
متن:
وَطَرْدُ هَذَا إخْرَاجُ الدَّمِ بِالْحِجَامَةِ وَالْفِصَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَنَازِعُونَ فِي الْحِجَامَةِ هَلْ تُفْطِرُ الصَّائِمَ أَمْ لَا ؟ وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ : " { أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } كَثِيرَةٌ قَدْ بَيَّنَهَا الْأَئِمَّةُ الْحُفَّاظُ . وَقَدْ كَرِهَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَحْتَجِمُ إلَّا بِاللَّيْلِ . وَكَانَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ إذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ أَغْلَقُوا حَوَانِيتَ الْحَجَّامِينَ . وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْحِجَامَةَ تُفْطِرُ مَذْهَبُ أَكْثَرِ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ راهويه وَابْنِ خزيمة وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمْ . وَأَهْلُ الْحَدِيثِ الْفُقَهَاءُ فِيهِ الْعَامِلُونَ بِهِ أَخَصُّ النَّاسِ بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَاَلَّذِينَ لَمْ يَرَوْا إفْطَارَ الْمَحْجُومِ احْتَجُّوا بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ } وَأَحْمَد وَغَيْرُهُ طَعَنُوا فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ : " { وَهُوَ صَائِمٌ } وَقَالُوا : الثَّابِتُ أَنَّهُ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ قَالَ أَحْمَد : قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ : قَالَ شُعْبَةُ : لَمْ يَسْمَعْ الْحَكَمُ حَدِيثَ مقسم فِي الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ يَعْنِي حَدِيثَ شُعْبَةَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مقسم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ } . قَالَ مُهَنَّا : سَأَلْت أَحْمَد عَنْ حَدِيثِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مهران عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ } فَقَالَ : لَيْسَ بِصَحِيحِ وَقَدْ أَنْكَرَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ . قَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ رَدَّ هَذَا الْحَدِيثَ فَضَعَّفَهُ وَقَالَ : كَانَتْ كُتُبُ الْأَنْصَارِيِّ ذَهَبَتْ فِي أَيَّامِ الْمُنْتَصِرِ فَكَانَ بَعْدُ يُحَدِّثُ مَنْ كُتُبِ غُلَامِهِ وَكَانَ هَذَا مِنْ تِلْكَ . وَقَالَ مُهَنَّا : سَأَلْت أَحْمَد عَنْ حَدِيثِ قَبِيصَةَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إلَخْ فَقَالَ : هُوَ خَطَأٌ مِنْ قِبَلِ قَبِيصَةَ . وَسَأَلْت يَحْيَى عَنْ قَبِيصَةَ فَقَالَ : رَجُلُ صِدْقٍ وَالْحَدِيثُ الَّذِي يُحَدِّثُ بِهِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ سَعِيدٍ خَطَأٌ مِنْ قِبَلِهِ . قَالَ مُهَنَّا : سَأَلْت أَحْمَد عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ } فَقَالَ لَيْسَ فِيهِ " صَائِمٌ " إنَّمَا هُوَ " مُحْرِمٌ " ذَكَرَهُ سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طاوس عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { احْتَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ } وَعَنْ طاوس وَعَطَاءٍ مِثْلُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ خثيم عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ وَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يَذْكُرُونَ " صَائِمًا " . قُلْت : وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد هُوَ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَلِهَذَا أَعْرَضَ مُسْلِمٌ عَنْ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَ حِجَامَةَ الصَّائِمِ وَلَمْ يُثْبِتْ إلَّا حِجَامَةَ الْمُحْرِمِ . وَتَأَوَّلُوا أَحَادِيثَ الْحِجَامَةِ بِتَأْوِيلَاتِ ضَعِيفَةٍ كَقَوْلِهِمْ : كَانَا يَغْتَابَانِ وَقَوْلِهِمْ أَفْطَرَ لِسَبَبٍ آخَرَ . وَأَجْوَدُ مَا قِيلَ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرُهُ أَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ كَانَ فِي رَمَضَانَ وَاحْتِجَامُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بَعْدَ رَمَضَانَ . وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ بَلْ هُوَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَحْرَمَ سَنَةَ سِتٍّ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ بِعُمْرَةٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَأَحْرَمَ مِنْ الْعَامِ الْقَابِلِ بِعُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَأَحْرَمَ مِنْ الْعَامِ الثَّالِثِ سَنَةَ الْفَتْحِ مِنْ الْجِعْرَانَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ بِعُمْرَةِ وَأَحْرَمَ سَنَةَ عَشْرٍ بِحَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَاحْتِجَامُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ لَمْ يُبَيَّنْ فِي أَيّ الإحرامات كَانَ . وَاَلَّذِي يُقَوِّي أَنَّ إحْرَامَهُ الَّذِي احْتَجَمَ فِيهِ كَانَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ : قَوْلُهُ " { أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } فَإِنَّهُ كَانَ عَامَ الْفَتْحِ بِلَا رَيْبٍ هَكَذَا فِي أَجْوَدِ الْأَحَادِيثِ . وَرَوَى أَحْمَد بِإِسْنَادِهِ عَنْ ثَوَبَان { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى عَلَى رَجُلٍ يَحْتَجِمُ فِي رَمَضَانَ قَالَ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } . وَقَالَ أَحْمَد : أَنْبَأَنَا إسْمَاعِيلُ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي قلابة عَنْ الْأَشْعَثِ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ . أَنَّهُ مَرَّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الْفَتْحِ عَلَى رَجُلٍ مُحْتَجِمٍ بِالْبَقِيعِ لِثَمَانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ فَقَالَ " { أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : سَأَلْت الْبُخَارِيَّ فَقَالَ : لَيْسَ فِي هَذَا الْبَابِ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ وَحَدِيثِ ثوبان فَقُلْت : وَمَا فِيهِ مِنْ الِاضْطِرَابِ ؟ فَقَالَ : كِلَاهُمَا عِنْدِي صَحِيحٌ لِأَنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ رَوَى عَنْ أَبِي قلابة عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ عَنْ ثوبان عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ عَنْ شَدَّادٍ الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا . قُلْت : وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ أَظْهَرِ الْأَدِلَّةِ عَلَى صِحَّةِ كِلَا الْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ رَوَاهُمَا أَبُو قلابة - إلَى أَنْ قَالَ - وَمِمَّا يُقَوِّي أَنَّ النَّاسِخَ هُوَ الْفِطْرُ بِالْحِجَامَةِ أَنَّ ذَلِكَ رَوَاهُ عَنْهُ خَوَاصُّ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ كَانُوا يُبَاشِرُونَهُ حَضَرًا وَسَفَرًا وَيَطَّلِعُونَ عَلَى بَاطِنِ أَمْرِهِ مِثْلُ بِلَالٍ وَعَائِشَةَ وَمِثْلُ أُسَامَةَ وَثَوَبَان مَوْلَيَاهُ وَرَوَاهُ عَنْهُ الْأَنْصَارُ الَّذِينَ هُمْ بِطَانَتُهُ مِثْلُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَشَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَد عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } قَالَ أَحْمَد : أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ رَافِعٍ وَذَكَرَ أَحَادِيثَ " { أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } إلَى أَنْ قَالَ : ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَلَى أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا : يُفْطِرُ الْمَحْجُومُ دُونَ الْحَاجِمِ ذَكَرَهُ الخرقي ; لَكِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ أَحْمَد وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ الْإِفْطَارُ بِالْأَمْرَيْنِ وَالنَّصُّ دَالٌّ عَلَى ذَلِكَ فَلَا سَبِيلَ إلَى تَرْكِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُفْطِرُ الْمَحْجُومُ الَّذِي يَحْتَجِمُ وَيَخْرُجُ مِنْهُ الدَّمُ وَلَا يُفْطِرُ بِالِافْتِصَادِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى احْتِجَامًا وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ فَالتَّشْرِيطُ فِي الْآذَانِ هَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الْحِجَامَةِ ؟ تَنَازَعَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ . فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : التَّشْرِيطُ كَالْحِجَامَةِ يَقُولُهُ شَيْخُنَا أَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ الْعُلَمَاءِ قَاطِبَةً فَلَيْسَ مِنْهُمْ مَنْ خَصَّ التَّشْرِيطَ بِذِكْرِ وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُمْ لَا يَدْخُلُ فِي الْحِجَامَةِ لَذَكَرُوهُ كَمَا ذَكَرُوا الْفِصَادَ . فَعُلِمَ أَنَّ التَّشْرِيطَ عِنْدَهُمْ مِنْ نَوْعِ الْحِجَامَةِ وَقَالَ شَيْخُنَا أَبُو مُحَمَّدٍ : هَذَا هُوَ الصَّوَابُ . إلَى أَنْ قَالَ : وَالرَّابِعُ : وَهُوَ الصَّوَابُ وَاخْتَارَهُ أَبُو الْمُظَفَّرِ ابْنُ هُبَيْرَةَ الْوَزِيرُ الْعَالِمُ الْعَادِلُ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ يُفْطِرُ بِالْحِجَامَةِ وَالْفِصَادِ وَنَحْوِهِمَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمَوْجُودَ فِي الْحِجَامَةِ مَوْجُودٌ فِي الْفِصَادِ شَرْعًا وَطَبْعًا وَحَيْثُ حَضَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحِجَامَةِ وَأَمَرَ بِهَا فَهُوَ حَضٌّ عَلَى مَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ الْفِصَادِ وَغَيْرِهِ ; لَكِنَّ الْأَرْضَ الْحَارَّةَ تَجْتَذِبُ الْحَرَارَةُ فِيهَا دَمَ الْبَدَنِ فَيَصْعَدُ إلَى سَطْحِ الْجِلْدِ فَيَخْرُجُ بِالْحِجَامَةِ . وَالْأَرْضُ الْبَارِدَةُ يَغُورُ الدَّمُ فِيهَا إلَى الْعُرُوقِ هَرَبًا مِنْ الْبَرْدِ فَإِنَّ شِبْهَ الشَّيْءِ مُنْجَذِبٌ إلَيْهِ كَمَا تَسْخُنُ الْأَجْوَافُ فِي الشِّتَاءِ وَتَبْرُدُ فِي الصَّيْفِ فَأَهْلُ الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ لَهُمْ الْفِصَادُ وَقَطْعُ الْعُرُوقِ كَمَا لِلْبِلَادِ الْحَارَّةِ الْحِجَامَةُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي شَرْعٍ وَلَا عَقْلٍ . وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْفِطْرَ بِالْحِجَامَةِ عَلَى وَفْقِ الْأُصُولِ وَالْقِيَاسِ وَأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْفِطْرِ بِدَمِ الْحَيْضِ وَالِاسْتِقَاءَةِ وبالاستمناء . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَبِأَيِّ وَجْهٍ أَرَادَ إخْرَاجَ الدَّمِ أَفْطَرَ كَمَا أَنَّهُ بِأَيِّ وَجْهٍ أَخْرَجَ الْقَيْءَ أَفْطَرَ سَوَاءٌ جَذَبَ الْقَيْءَ بِإِدْخَالِ يَدِهِ أَوْ بِشَمِّ مَا يُقَيِّئُهُ أَوْ وَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ بَطْنِهِ وَاسْتَخْرَجَ الْقَيْءَ فَتِلْكَ طُرُقٌ لِإِخْرَاجِ الْقَيْءِ وَهَذِهِ طُرُقٌ لِإِخْرَاجِ الدَّمِ وَلِهَذَا كَانَ خُرُوجُ الدَّمِ بِهَذَا وَهَذَا سَوَاءً فِي ( بَابِ الطَّهَارَةِ . فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ كَمَالُ الشَّرْعِ وَاعْتِدَالُهُ وَتَنَاسُبُهُ وَأَنَّ مَا وَرَدَ مِنْ النُّصُوصِ وَمَعَانِيهَا فَإِنَّ بَعْضَهُ يُصَدِّقُ بَعْضًا وَيُوَافِقُهُ { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } . وَأَمَّا الْحَاجِمُ فَإِنَّهُ يَجْتَذِبُ الْهَوَاءَ الَّذِي فِي الْقَارُورَةِ بِامْتِصَاصِهِ وَالْهَوَاءُ يَجْتَذِبُ مَا فِيهَا مِنْ الدَّمِ فَرُبَّمَا صَعِدَ مَعَ الْهَوَاءِ شَيْءٌ مِنْ الدَّمِ وَدَخَلَ فِي حَلْقِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ وَالْحِكْمَةُ إذَا كَانَتْ خَفِيَّةً أَوْ مُنْتَشِرَةً عُلِّقَ الْحُكْمُ بِالْمَظِنَّةِ كَمَا أَنَّ النَّائِمَ الَّذِي تَخْرُجُ مِنْهُ الرِّيحُ وَلَا يَدْرِي يُؤْمَرُ بِالْوُضُوءِ فَكَذَلِكَ الْحَاجِمُ يَدْخُلُ شَيْءٌ مِنْ الدَّمِ مَعَ رِيقِهِ إلَى بَطْنِهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي . وَالدَّمُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُفْطِرَاتِ فَإِنَّهُ حَرَامٌ فِي نَفْسِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ طُغْيَانِ الشَّهْوَةِ وَالْخُرُوجِ عَنْ الْعَدْلِ وَالصَّائِمُ أُمِرَ بِحَسْمِ مَادَّتِهِ فَالدَّمُ يَزِيدُ الدَّمَ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْمَحْظُورِ . فَيُفْطِرُ الْحَاجِمُ لِهَذَا كَمَا يَنْتَقِضُ وُضُوءُ النَّائِمِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَيْقِنْ خُرُوجَ الرِّيحِ مِنْهُ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ وَلَا يَدْرِي وَكَذَلِكَ الْحَاجِمُ قَدْ يَدْخُلُ الدَّمُ فِي حَلْقِهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي . وَأَمَّا الشَّارِطُ فَلَيْسَ بِحَاجِمِ وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ فِيهِ فَلَا يُفْطِرُ الشَّارِطُ وَكَذَلِكَ لَوْ قُدِّرَ حَاجِمٌ لَا يَمُصُّ الْقَارُورَةَ بَلْ يَمْتَصُّ غَيْرَهَا أَوْ يَأْخُذُ الدَّمَ بِطَرِيقٍ أُخْرَى لَمْ يُفْطِرْ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامُهُ خَرَجَ عَلَى الْحَاجِمِ الْمَعْرُوفِ الْمُعْتَادِ . وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ عَامًّا وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ شَخْصًا بِعَيْنِهِ فَيَشْتَرِكُ فِي الْحُكْمِ سَائِرُ النَّوْعِ ; لِلْعَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ أَنَّ مَا ثَبَتَ فِي حَقِّ الْوَاحِدِ مِنْ الْأُمَّةِ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ فَهَذَا أَبْلَغُ فَلَا يَثْبُتُ بِلَفْظِهِ مَا يَظْهَرُ لَفْظًا وَمَعْنًى أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ مَعَ بُعْدِهِ عَنْ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .