مسألة تالية
متن:
وَأَمَّا صَلَاةُ غَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ مُنْفَرِدًا مِثْلُ أَنْ يُقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ أَوْ عُثْمَانَ أَوْ عَلِيٍّ . فَفِيهَا قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَد فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ عَلِيًّا قَالَ لِعُمَرِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك . وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَابْنِ عَقِيلٍ وَالشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ وَلَمْ يَذْكُرُوا فِي ذَلِكَ نِزَاعًا . وَالثَّانِي : الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْهُمَا وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ جَدُّنَا أَبُو الْبَرَكَاتِ فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَا أَعْلَمُ الصَّلَاةَ تَنْبَغِي مِنْ أَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ إلَّا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ مَنْ مَنَعَ : أَمَّا صَلَاتُهُ عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ لَهُ فَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا لِغَيْرِهِ وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى غَيْرِهِ تَبَعًا فَقَدْ يَجُوزُ تَبَعًا مَا لَا يَجُوزُ قَصْدًا . وَمَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ يَحْتَجُّ بِالْخَلِيفَتَيْنِ الرَّاشِدَيْنِ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَبِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ نَهْيٌ عَنْ ذَلِكَ ; لَكِنْ لَا يَجِبُ ذَلِكَ فِي حَقِّ أَحَدٍ كَمَا يَجِبُ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَتَخْصِيصُهُ كَانَ بِالْأَمْرِ وَالْإِيجَابِ لَا بِالْجَوَازِ وَالِاسْتِحْبَابِ . قَالُوا : وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُصَلِّي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَمَا فِي الصَّحِيحِ : { إنَّ الْمَلَائِكَةَ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ } . فَإِذَا كَانَ اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُؤْمِنِ فَلِمَاذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ ؟ . وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهَذَا ذَكَرَهُ لَمَّا صَارَ أَهْلُ الْبِدَعِ يَخُصُّونَ بِالصَّلَاةِ عَلِيًّا أَوْ غَيْرَهُ وَلَا يُصَلُّونَ عَلَى غَيْرِهِمْ . فَهَذَا بِدْعَةٌ بِالِاتِّفَاقِ . وَهُمْ لَا يُصَلُّونَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ مِنْ الْعَبَّاسِيِّينَ وَلَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنْ وَلَدِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَلَا عَلَى أَزْوَاجِهِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ } . فَحِينَئِذٍ لَا حُجَّةَ لِمَنْ خَصَّ بِالصَّلَاةِ [ بَعْضَ ] أَهْلِ الْبَيْتِ دُون سَائِرِ أَهْلِ الْبَيْتِ وَدُونَ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ . وَلَمَّا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ مَنْ قَالَ إنَّ الصَّلَاةَ عَلَى غَيْرِهِ مَمْنُوعٌ مِنْهَا طَرَدَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ الجويني فَقَالُوا : لَا يُسَلَّمُ عَلَى غَيْرِهِ . وَهَذَا لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنْكَرُوهُ . فَإِنَّ السَّلَامَ عَلَى الْغَيْرِ مَشْرُوعٌ سَلَامَ التَّحِيَّةِ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إذَا لَقِيَهُ وَهُوَ إمَّا وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ مُؤَكَّدٌ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَالرَّدُّ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ إمَّا عَلَى الْأَعْيَانِ وَإِمَّا عَلَى الْكِفَايَةِ . وَالْمُصَلِّي إذَا خَرَجَ مِنْ الصَّلَاةِ يَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ . وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ فَيَقُولُوا : { السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ } . فَاَلَّذِينَ جَعَلُوا السَّلَامَ مِنْ خَصَائِصِهِ لَا يَمْنَعُونَ مِنْ السَّلَامِ عَلَى الْحَاضِرِ لَكِنْ يَقُولُونَ : لَا يُسَلَّمُ عَلَى الْغَائِبِ . فَجَعَلُوا السَّلَامَ عَلَيْهِ مَعَ الْغَيْبَةِ مِنْ خَصَائِصِهِ . وَهَذَا حَقٌّ . لَكِنَّ الْأَمْرَ بِذَلِكَ وَإِيجَابَهُ هُوَ مِنْ خَصَائِصِهِ كَمَا فِي التَّشَهُّدِ . فَلَيْسَ فِيهِ سَلَامٌ عَلَى مُعَيَّنٍ إلَّا عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ وَهَذَا يُؤَيِّدُ أَنَّ السَّلَامَ كَالصَّلَاةِ كِلَاهُمَا وَاجِبٌ لَهُ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا . وَغَيْرُهُ فَلَيْسَ وَاجِبًا إلَّا سَلَامُ التَّحِيَّةِ عِنْدَ اللِّقَاءِ فَإِنَّهُ مُؤَكَّدٌ بِالِاتِّفَاقِ . وَهَلْ يَجِبُ أَوْ يُسْتَحَبُّ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَاَلَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ النُّصُوصُ أَنَّهُ وَاجِبٌ . وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خَمْسٌ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ : يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إذَا لَقِيَهُ وَيَعُودُهُ إذَا مَرِضَ وَيُشَيِّعُهُ إذَا مَاتَ وَيُجِيبُهُ إذَا دَعَاهُ وَرُوِيَ وَيُشَمِّتُهُ إذَا عَطَسَ } . وَقَدْ أَوْجَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ . وَالصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ بِإِجْمَاعِهِمْ وَالسَّلَامُ عِنْدَ اللِّقَاءِ أَوْكَدُ مِنْ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ . وَكَذَلِكَ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَالشَّرُّ الَّذِي يَحْصُلُ إذَا لَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلَمْ يَعُدْهُ إذَا مَرِضَ أَعْظَمُ مِمَّا يَحْصُلُ إذَا لَمْ يُجِبْ دَعْوَتَهُ . وَالسَّلَامُ أَسْهَلُ مِنْ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ وَمِنْ الْعِيَادَةِ . وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ لِبَسْطِهَا مَوَاضِعُ أُخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ سَلَامَ التَّحِيَّةِ عِنْدَ اللِّقَاءِ فِي الْمَحْيَا وَفِي الْمَمَاتِ إذَا زَارَ قَبْرَ الْمُسْلِمِ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ كُلِّ مُسْلِمٍ لِكُلِّ مَنْ لَقِيَهُ حَيًّا أَوْ زَارَ قَبْرَهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ . فَالصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّ هَذَا السَّلَامَ عَلَيْهِ عِنْدَ قَبْرِهِ الَّذِي قَالَ فِيهِ : { مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِهِ وَلَا فِيهِ فَضِيلَةٌ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ . بَلْ هُوَ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ كُلِّ مُسْلِمٍ " حَيٍّ وَمَيِّتٍ . وَكُلُّ مُؤْمِنٍ يَرُدُّ السَّلَامَ عَلَى مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ . وَهَذَا لَيْسَ مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ بَلْ إذَا لَقِيَهُ سَلَّمَ عَلَيْهِ . وَهَكَذَا إذَا زَارَ الْقَبْرَ يُسَلِّمُ عَلَى الْمَيِّتِ . لَا أَنَّهُ يَتَكَلَّفُ قَطْعَ الْمَسَافَةِ وَاللِّقَاءِ لِمُجَرَّدِ ذَلِكَ . وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ وَعِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ فَهُوَ مِنْ خَصَائِصِهِ هُوَ مِنْ السَّلَامِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ وَمَنْ سَلَّمَ يُسَلِّمُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا كَمَا يُصَلِّي عَلَيْهِ إذَا صَلَّى عَلَيْهِ عَشْرًا . فَهُوَ الْمَشْرُوعُ الْمَأْمُورُ بِهِ الْأَفْضَلُ الْأَنْفَعُ الْأَكْمَلُ الَّذِي لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ . وَذَاكَ جَهْدٌ لَا يَخْتَصُّ بِهِ وَلَا يُؤْمَرُ بِقَطْعِ الْمَسَافَةِ لِمُجَرَّدِهِ ; بَلْ قَصْدُ نِيَّةِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ وَالدُّعَاءِ هُوَ اتِّخَاذٌ لَهُ عِيدًا وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَتَّخِذُوا بَيْتِي عِيدًا } . فَلِهَذَا كَانَ الْعَمَلُ الشَّائِعُ فِي الصَّحَابَةِ - الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ - أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ مَسْجِدَهُ وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ وَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ كَمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَدْعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ فِي الصَّلَاةِ مِمَّا اخْتَارُوا مِنْ الدُّعَاءِ الْمَشْرُوعِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمَّا عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ قَالَ : { ثُمَّ لِيَتَخَيَّر بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إلَيْهِ } . وَلَمْ يَكُونُوا يَذْهَبُونَ إلَى الْقَبْرِ لَا مِنْ دَاخِلِ الْحُجْرَةِ وَلَا مِنْ خَارِجِهَا ; لَا لِدُعَاءِ وَلَا صَلَاةٍ وَلَا سَلَامٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِهِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي كُلِّ مَكَانٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقْصِدُوهَا لِحَوَائِجِهِمْ كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الشِّرْكِ وَالْبِدَعِ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ يُعْرَفْ فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ لَا عِنْدَ قَبْرِهِ وَلَا قَبْرِ غَيْرِهِ لَا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ وَلَا تَابِعِيهِمْ . فَهَذِهِ الْأُمُورُ إذَا تَصَوَّرَهَا ذُو الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ عَرَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ . وَفَرَّقَ بَيْنَ مَنْ يَعْرِفُ التَّوْحِيدَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِيمَانَ وَمَنْ يَجْهَلُ ذَلِكَ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ وَجُمْهُورَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ وَيُصَلُّونَ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَدِينَةِ وَعِنْدَ الْقُدُومِ مِنْ السَّفَرِ بَلْ يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ فَيُصَلُّونَ فِيهِ وَيُسَلِّمُونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَأْتُونَ الْقَبْرَ وَمَقْصُودُ بَعْضِهِمْ التَّحِيَّةُ .