مسألة تالية
متن:
وَأَمَّا إذَا امْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ بَيْعِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ بَيْعُهُ فَهُنَا يُؤْمَرُونَ بِالْوَاجِبِ وَيُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ فَامْتَنَعَ أَنْ يَبِيعَ إلَّا بِأَكْثَرَ مِنْهُ : فَهُنَا يُؤْمَرُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ; وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ بِلَا رَيْبٍ . وَمَنْ مَنَعَ التَّسْعِيرَ مُطْلَقًا مُحْتَجًّا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ وَأَنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ } " فَقَدْ غَلِطَ ; فَإِنَّ هَذِهِ قَضِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ لَيْسَتْ لَفْظًا عَامًّا وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّ أَحَدًا امْتَنَعَ مِنْ بَيْعٍ يَجِبُ عَلَيْهِ أَوْ عَمَلٍ يَجِبُ عَلَيْهِ ; أَوْ طَلَبَ فِي ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ عِوَضِ الْمِثْلِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّيْءَ إذَا رَغِبَ النَّاسُ فِي الْمُزَايَدَةِ فِيهِ : فَإِذَا كَانَ صَاحِبُهُ قَدْ بَذَلَهُ كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَلَكِنَّ النَّاسَ تَزَايَدُوا فِيهِ فَهُنَا لَا يُسَعَّرُ عَلَيْهِمْ وَالْمَدِينَةُ كَمَا ذَكَرْنَا إنَّمَا كَانَ الطَّعَامُ الَّذِي يُبَاعُ فِيهَا غَالِبًا مِنْ الْجَلَبِ ; وَقَدْ يُبَاعُ فِيهَا شَيْءٌ يُزْرَعُ فِيهَا ; وَإِنَّمَا كَانَ يُزْرَعُ فِيهَا الشَّعِيرُ ; فَلَمْ يَكُنْ الْبَائِعُونَ وَلَا الْمُشْتَرُونَ نَاسًا مُعَيَّنِينَ ; وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَحَدٌ يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَى عَيْنِهِ أَوْ إلَى مَالِهِ ; لِيُجْبَرَ عَلَى عَمَلٍ أَوْ عَلَى بَيْعٍ بَلْ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كُلُّهُمْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْبَالِغِينَ الْقَادِرِينَ عَلَى الْجِهَادِ إلَّا مَنْ يَخْرُجُ فِي الْغَزْوِ وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَغْزُو بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ : أَوْ بِمَا يُعْطَاهُ مِنْ الصَّدَقَاتِ أَوْ الْفَيْءِ ; أَوْ مَا يُجَهِّزُهُ بِهِ غَيْرُهُ وَكَانَ إكْرَاهُ الْبَائِعِينَ عَلَى أَنْ لَا يَبِيعُوا سِلَعَهُمْ إلَّا بِثَمَنِ مُعَيَّنٍ إكْرَاهًا بِغَيْرِ حَقٍّ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ يَجُوزُ إكْرَاهُهُمْ عَلَى أَصْلِ الْبَيْعِ فَإِكْرَاهُهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ الثَّمَنِ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ . وَأَمَّا مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ فَكَاَلَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّرَ لَهُ الثَّمَنَ الَّذِي يَبِيعُ بِهِ وَيُسَعِّرُ عَلَيْهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ ; فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ } " فَهَذَا لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْلِكَ شَرِيكُهُ عِتْقَ نَصِيبِهِ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْهُ لِيُكْمِلَ الْحُرِّيَّةَ فِي الْعَبْدِ قَدْرَ عِوَضِهِ بِأَنْ يُقَوِّمَ جَمِيعَ الْعَبْدِ قِيمَةَ عَدْلٍ لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ ; وَيُعْطِي قِسْطَهُ مِنْ الْقِسْمَةِ ; فَإِنَّ حَقَّ الشَّرِيكِ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ لَا فِي قِيمَةِ النِّصْفِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد ; وَلِهَذَا قَالَ هَؤُلَاءِ : كَلُّ مَا لَا يُمْكِنُ قَسْمُهُ فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُقْسَمُ ثَمَنُهُ إذَا طَلَبَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ ذَلِكَ ; وَيُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى الْبَيْعِ وَحَكَى بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ ذَلِكَ إجْمَاعًا ; لِأَنَّ حَقَّ الشَّرِيكِ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ وَلَا يُمْكِنُ إعْطَاؤُهُ ذَلِكَ إلَّا بِبَيْعِ الْجَمِيعِ فَإِذَا كَانَ الشَّارِعُ يُوجِبُ إخْرَاجَ الشَّيْءِ مِنْ مِلْكِ مَالِكِهِ بِعِوَضِ الْمِثْلِ لِحَاجَةِ الشَّرِيكِ إلَى إعْتَاقِ ذَلِكَ ; وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ الْمُطَالَبَةُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ : فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَتْ حَاجَتُهُ أَعْظَمَ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى إعْتَاقِ ذَلِكَ النَّصِيبِ ؟ مِثْلَ حَاجَةِ الْمُضْطَرِّ إلَى الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَهَذَا الَّذِي أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَقْوِيمُ الْجَمِيعِ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ هُوَ حَقِيقَةُ التَّسْعِيرِ . وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لِلشَّرِيكِ أَنْ يَنْزِعَ النِّصْفَ الْمَشْفُوعَ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي بِمِثْلِ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ ; لَا بِزِيَادَةِ ; لِلتَّخَلُّصِ مِنْ ضَرَرِ الْمُشَارَكَةِ وَالْمُقَاسَمَةِ وَهَذَا ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ وَإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ وَهَذَا إلْزَامٌ لَهُ بِأَنْ يُعْطِيَهُ ذَلِكَ الثَّمَنَ لَا بِزِيَادَةِ ; لِأَجْلِ تَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ التَّكْمِيلِ لِوَاحِدِ : فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ لِلشَّرِيكِ بِمَا شَاءَ ؟ بَلْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ الشَّرِيكِ زِيَادَةً عَلَى الثَّمَنِ الَّذِي حَصَلَ لَهُ بِهِ وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ نَوْعِ التَّوْلِيَةِ ; فَإِنَّ التَّوْلِيَةَ : أَنْ يُعْطِيَ الْمُشْتَرِيَ السِّلْعَةَ لِغَيْرِهِ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ الْبَيْعِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ ; وَمَعَ هَذَا فَلَا يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ لِأَجْنَبِيٍّ غَيْرِ الشَّرِيكِ إلَّا بِمَا شَاءَ ; إذْ لَا حَاجَةَ بِذَاكَ إلَى شِرَائِهِ كَحَاجَةِ الشَّرِيكِ . فَأَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنَّ قَوْمًا اُضْطُرُّوا إلَى سُكْنَى فِي بَيْتِ إنْسَانٍ إذَا لَمْ يَجِدُوا مَكَانًا يَأْوُونَ إلَيْهِ إلَّا ذَلِكَ الْبَيْتَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَكِّنَهُمْ . وَكَذَلِكَ لَوْ احْتَاجُوا إلَى أَنْ يُعِيرَهُمْ ثِيَابًا يَسْتَدْفِئُونَ بِهَا مِنْ الْبَرْدِ ; أَوْ إلَى آلَاتٍ يَطْبُخُونَ بِهَا ; أَوْ يَبْنُونَ أَوْ يَسْقُونَ : يَبْذُلُ هَذَا مَجَّانًا . وَإِذَا احْتَاجُوا إلَى أَنْ يُعِيرَهُمْ دَلْوًا يَسْتَقُونَ بِهِ ; أَوْ قِدْرًا يَطْبُخُونَ فِيهَا ; أَوْ فَأْسًا يَحْفِرُونَ بِهِ : فَهَلْ عَلَيْهِ بَذْلُهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ لَا بِزِيَادَةِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَالصَّحِيحُ وُجُوبُ بَذْلِ ذَلِكَ مَجَّانًا إذَا كَانَ صَاحِبُهَا مُسْتَغْنِيًا عَنْ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ وَعِوَضِهَا ; كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } { الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ } { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } وَفِي السُّنَنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : كُنَّا نَعُدُّ ( الْمَاعُونَ عَارِيَةَ الدَّلْوِ وَالْقِدْرِ وَالْفَأْسِ . وَفَى الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْخَيْلَ قَالَ : " { هِيَ مَا لِرَجُلِ أَجْرٌ وَلِرَجُلِ سِتْرٌ وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ . فَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا ; وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا ظُهُورِهَا } " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مِنْ حَقِّ الْإِبِلِ إعَارَةُ دَلْوِهَا وَإِضْرَابُ فَحْلِهَا } " وَثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " { لَا يَمْنَعَنَّ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ } " وَإِيجَابُ بَذْلِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ مَذْهَبُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ .