تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَلَمَّا كَانَ ( فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ الِابْتِلَاءِ وَالْمِحَنِ مَا يُعَرِّضُ بِهِ الْمَرْءَ لِلْفِتْنَةِ : صَارَ فِي النَّاسِ مَنْ يَتَعَلَّلُ لِتَرْكِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَطْلُبُ السَّلَامَةَ مِنْ الْفِتْنَةِ كَمَا قَالَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } الْآيَةَ . وَقَدْ ذَكَرَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي { الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ لَمَّا أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّجَهُّزِ لِغَزْوِ الرُّومِ - وَأَظُنُّهُ قَالَ : هَلْ لَك فِي نِسَاءِ بَنِي الْأَصْفَرِ ؟ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنِّي رَجُلٌ لَا أَصْبِرُ عَنْ النِّسَاءِ ; وَإِنِّي أَخَافُ الْفِتْنَةَ بِنِسَاءِ بَنِي الْأَصْفَرِ . فائذن لِي وَلَا تَفْتِنِّي } . وَهَذَا الْجَدُّ هُوَ الَّذِي تَخَلَّفَ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ; وَاسْتَتَرَ بِجَمَلِ أَحْمَرَ ; وَجَاءَ فِيهِ الْحَدِيثُ : { أَنَّ كُلَّهُمْ مَغْفُورٌ لَهُ إلَّا صَاحِبَ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } } . يَقُولُ : إنَّهُ طَلَبَ الْقُعُودَ لِيَسْلَمَ مِنْ فِتْنَةِ النِّسَاءِ فَلَا يَفْتَتِنُ بِهِنَّ فَيَحْتَاجُ إلَى الِاحْتِرَازِ مِنْ الْمَحْظُورِ وَمُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ عَنْهُ فَيَتَعَذَّبُ بِذَلِكَ أَوْ يُوَاقِعُهُ فَيَأْثَمُ ; فَإِنَّ مَنْ رَأَى الصُّوَرَ الْجَمِيلَةَ وَأَحَبَّهَا فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهَا إمَّا لِتَحْرِيمِ الشَّارِعِ وَإِمَّا لِلْعَجْزِ عَنْهَا يُعَذِّبُ قَلْبَهُ وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهَا وَفَعَلَ الْمَحْظُورَ هَلَكَ . وَفِي الْحَلَالِ مِنْ ذَلِكَ مِنْ مُعَالَجَةِ النِّسَاءِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ . فَهَذَا وَجْهُ قَوْلِهِ : { وَلَا تَفْتِنِّي } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } يَقُولُ نَفْسُ إعْرَاضِهِ عَنْ الْجِهَادِ الْوَاجِبِ وَنُكُولِهِ عَنْهُ وَضَعْفِ إيمَانِهِ وَمَرَضِ قَلْبِهِ الَّذِي زَيَّنَ لَهُ تَرْكَ الْجِهَادِ : فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ سَقَطَ فِيهَا فَكَيْفَ يَطْلُبُ التَّخَلُّصَ مِنْ فِتْنَةٍ صَغِيرَةٍ لَمْ تُصِبْهُ بِوُقُوعِهِ فِي فِتْنَةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ أَصَابَتْهُ ؟ وَاَللَّهُ يَقُولُ : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } . فَمَنْ تَرَكَ الْقِتَالَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ لِئَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ : فَهُوَ فِي الْفِتْنَةِ سَاقِطٌ بِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ رَيْبِ قَلْبِهِ وَمَرَضِ فُؤَادِهِ وَتَرْكِهِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْجِهَادِ . فَتَدَبَّرْ هَذَا ; فَإِنَّ هَذَا مَقَامٌ خَطَرٌ ; فَإِنَّ النَّاسَ هُنَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ يَأْمُرُونَ وَيَنْهَوْنَ وَيُقَاتِلُونَ ; طَلَبًا لِإِزَالَةِ الْفِتْنَةِ الَّتِي زَعَمُوا وَيَكُونُ فِعْلُهُمْ ذَلِكَ أَعْظَمَ فِتْنَةً ; كَالْمُقْتَتِلِينَ فِي الْفِتْنَةِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ الْأُمَّةِ . وَأَقْوَامٌ يَنْكُلُونَ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْقِتَالِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَتَكُونُ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ; لِئَلَّا يَفْتِنُوا وَهُمْ قَدْ سَقَطُوا فِي الْفِتْنَةِ وَهَذِهِ الْفِتْنَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي " سُورَةِ بَرَاءَةَ " دَخَلَ فِيهَا الِافْتِتَانُ بِالصُّوَرِ الْجَمِيلَةِ ; فَإِنَّهَا سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ . وَهَذِهِ حَالُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَدَيِّنِينَ ; يَتْرُكُونَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَجِهَادٍ يَكُونُ بِهِ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَتَكُونُ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ; لِئَلَّا يَفْتِنُوا بِجِنْسِ الشَّهَوَاتِ ; وَهُمْ قَدْ وَقَعُوا فِي الْفِتْنَةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مِمَّا زَعَمُوا أَنَّهُمْ فَرُّوا مِنْهُ وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ الْقِيَامُ بِالْوَاجِبِ وَتَرْكُ الْمَحْظُورِ . وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ ; وَإِنَّمَا تَرَكُوا ذَلِكَ لِكَوْنِ نُفُوسِهِمْ لَا تُطَاوِعُهُمْ إلَّا عَلَى فِعْلِهِمَا جَمِيعًا أَوْ تَرْكِهِمَا جَمِيعًا : مِثْلَ كَثِيرٍ مِمَّنْ يُحِبُّ الرِّئَاسَةَ أَوْ الْمَالَ وَشَهَوَاتِ الْغَيِّ ; فَإِنَّهُ إذَا فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَجِهَادٍ وَإِمَارَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ الْمَحْظُورَاتِ . فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ أَغْلَبَ الْأَمْرَيْنِ . فَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ تَرْكِ ذَلِكَ الْمَحْظُورِ لَمْ يَتْرُكْ ذَلِكَ لِمَا يُخَافُ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ مَا هُوَ دُونَهُ فِي الْمَفْسَدَةِ ; وَإِنْ كَانَ تَرْكُ الْمَحْظُورِ أَعْظَمَ أَجْرًا لَمْ يَفُوتُ ذَلِكَ بِرَجَاءِ ثَوَابٍ بِفِعْلِ وَاجِبٍ يَكُونُ دُونَ ذَلِكَ ; فَذَلِكَ يَكُونُ بِمَا يَجْتَمِعُ لَهُ مِنْ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ; فَهَذَا هَذَا . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يَطُولُ .