تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَصْلٌ فَإِذَا تَبَيَّنَ بَعْضُ مَعْنَى الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ . فَإِذَا قَرَأَ الْإِنْسَانُ " سُورَةَ الْأَحْزَابِ " وَعَرَفَ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ فِي الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَالْمَغَازِي : كَيْفَ كَانَتْ صِفَةُ الْوَاقِعَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ ثُمَّ اعْتَبَرَ هَذِهِ الْحَادِثَةَ بِتِلْكَ : وُجِدَ مِصْدَاقُ مَا ذَكَرْنَا . وَأَنَّ النَّاسَ انْقَسَمُوا فِي هَذِهِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ إلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ . كَمَا انْقَسَمُوا فِي تِلْكَ . وَتَبَيَّنَ لَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَشَابِهَاتِ . افْتَتَحَ اللَّهُ السُّورَةَ بِقَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } وَذَكَرَ فِي أَثْنَائِهَا قَوْلَهُ : { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا } { وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } ثُمَّ قَالَ : { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا } . فَأَمَرَهُ بِاتِّبَاعِ مَا أَوْحَى إلَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ - الَّتِي هِيَ سُنَّتُهُ - وَبِأَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ . فَبِالْأَوْلَى يُحَقِّقُ قَوْلَهُ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ } . وَبِالثَّانِيَةِ يُحَقِّقُ قَوْلَهُ : { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَقَوْلُهُ : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } . وهذا وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ فِي جَمِيعِ الدِّينِ ; فَإِنَّ ذَلِكَ فِي الْجِهَادِ أَوْكَدُ ; لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُجَاهِدَ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ ; وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِتَأْيِيدِ قَوِيٍّ مِنْ اللَّهِ ; وَلِهَذَا كَانَ الْجِهَادُ سَنَامَ الْعَمَلِ وَانْتَظَمَ سَنَامُ جَمِيعِ الْأَحْوَالِ الشَّرِيفَةِ . فَفِيهِ سَنَامُ الْمَحَبَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ } . وَفِيهِ سَنَامُ التَّوَكُّلِ وَسَنَامُ الصَّبْرِ ; فَإِنَّ الْمُجَاهِدَ أَحْوَجُ النَّاسِ إلَى الصَّبْرِ وَالتَّوَكُّلِ ; وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } { الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } وَقَالَ { قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } . وَلِهَذَا كَانَ الصَّبْرُ وَالْيَقِينُ - اللَّذَيْنِ هَمَّا أَصْلُ التَّوَكُّلِ - يُوجِبَانِ الْإِمَامَةَ فِي الدِّينِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } . وَلِهَذَا كَانَ الْجِهَادُ مُوجِبًا لِلْهِدَايَةِ الَّتِي هِيَ مُحِيطَةٌ بِأَبْوَابِ الْعِلْمِ . كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } فَجَعَلَ لِمَنْ جَاهَدَ فِيهِ هِدَايَةَ جَمِيعِ سُبُلِهِ تَعَالَى ; وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامَانِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا : إذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي شَيْءٍ فَانْظُرُوا مَاذَا عَلَيْهِ أَهْلُ الثَّغْرُ فَإِنَّ الْحَقَّ مَعَهُمْ ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } . وَفِي الْجِهَادِ أَيْضًا : حَقِيقَةُ الزُّهْدِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الدَّارِ الدُّنْيَا . وَفِيهِ أَيْضًا : حَقِيقَةُ الْإِخْلَاصِ . فَإِنَّ الْكَلَامَ فِيمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا فِي سَبِيلِ الرِّيَاسَةِ وَلَا فِي سَبِيلِ الْمَالِ وَلَا فِي سَبِيلِ الْحَمِيَّةِ وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا لِمَنْ قَاتَلَ لِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَلِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا . وَأَعْظَمُ مَرَاتِبِ الْإِخْلَاصِ : تَسْلِيمُ النَّفْسِ وَالْمَالِ لِلْمَعْبُودِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } . وَ ( الْجَنَّةُ اسْمٌ لِلدَّارِ الَّتِي حَوَتْ كُلَّ نَعِيمٍ ) . أَعْلَاهُ النَّظَرُ إلَى اللَّهِ إلَى مَا دُونَ ذَلِكَ مِمَّا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ مِمَّا قَدْ نَعْرِفُهُ وَقَدْ لَا نَعْرِفُهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَعْدَدْت لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ } . فَقَدْ تَبَيَّنَ بَعْضُ أَسْبَابِ افْتِتَاحِ هَذِهِ السُّورَةِ بِهَذَا . ثُمَّ إنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا } . كَانَ مُخْتَصَرُ الْقِصَّةِ : أَنَّ الْمُسْلِمِينَ تَحَزَّبَ عَلَيْهِمْ عَامَّةُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ حَوْلَهُمْ وَجَاءُوا بِجُمُوعِهِمْ إلَى الْمَدِينَةِ لِيَسْتَأْصِلُوا الْمُؤْمِنِينَ . فَاجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ وَحُلَفَاؤُهَا مِنْ بَنِي أَسَدٍ وَأَشْجَعَ وَفَزَارَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ قَبَائِلِ نَجْدٍ . وَاجْتَمَعَتْ أَيْضًا الْيَهُودُ : مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ . فَإِنَّ بَنِي النَّضِيرِ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَجْلَاهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي " سُورَةِ الْحَشْرِ " . فَجَاءُوا فِي الْأَحْزَابِ إلَى قُرَيْظَةَ وَهْم مُعَاهِدُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُجَاوِرُونَ لَهُ قَرِيبًا مِنْ الْمَدِينَةِ - فَلَمْ يَزَالُوا بِهِمْ حَتَّى نَقَضَتْ قُرَيْظَةُ الْعَهْدَ وَدَخَلُوا فِي الْأَحْزَابِ . فَاجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْأَحْزَابُ الْعَظِيمَةُ وَهُمْ بِقَدْرِ الْمُسْلِمِينَ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ . فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذُّرِّيَّةَ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فِي آطَامِّ الْمَدِينَةِ وَهِيَ مِثْلُ الجواسق وَلَمْ يَنْقُلْهُمْ إلَى مَوَاضِعَ أُخَرَ . وَجَعَلَ ظَهْرَهُمْ إلَى سَلْعٍ - وَهُوَ الْجَبَلُ الْقَرِيبُ مِنْ الْمَدِينَةِ مِنْ نَاحِيَةِ الْغَرْبِ وَالشَّامِ - وَجَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ خَنْدَقًا . وَالْعَدُوُّ قَدْ أَحَاطَ بِهِمْ مِنْ الْعَالِيَةِ وَالسَّافِلَةِ . وَكَانَ عَدُوًّا شَدِيدَ الْعَدَاوَةِ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَانَتْ نِكَايَتُهُ فِيهِمْ أَعْظَمَ النِّكَايَاتِ . وَفِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ تَحَزَّبَ هَذَا الْعَدُوُّ مِنْ مَغُولٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ التُّرْكِ وَمِنْ فُرْسٍ وَمُسْتَعْرِبَةٍ وَنَحْوِهِمْ مِنْ أَجْنَاسِ الْمُرْتَدَّةِ وَمِنْ نَصَارَى الْأَرْمَنِ وَغَيْرِهِمْ . وَنَزَلَ هَذَا الْعَدُوُّ بِجَانِبِ دِيَارِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ بَيْنَ الْإِقْدَامِ وَالْإِحْجَامِ مَعَ قِلَّةِ مَنْ بِإِزَائِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . وَمَقْصُودُهُمْ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى الدَّارِ وَاصْطِلَامُ أَهْلِهَا . كَمَا نَزَلَ أُولَئِكَ بِنُوَاحِي الْمَدِينَةِ بِإِزَاءِ الْمُسْلِمِينَ . وَدَامَ الْحِصَارُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عَامَ الْخَنْدَقِ - عَلَى مَا قِيلَ - بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً . وَقِيلَ : عِشْرِينَ لَيْلَةً . وَهَذَا الْعَدُوُّ عَبَرَ الْفُرَاتَ سَابِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخَرِ وَكَانَ أَوَّلُ انْصِرَافِهِ رَاجِعًا عَنْ حَلَبَ لَمَّا رَجَعَ مُقَدِّمُهُمْ الْكَبِيرُ قازان بِمَنْ مَعَهُ : يَوْمَ الِاثْنَيْنِ حَادِي أَوْ ثَانِي عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى يَوْمَ دَخَلَ الْعَسْكَرُ عَسْكَرَ الْمُسْلِمِينَ إلَى مِصْرَ الْمَحْرُوسَةِ . وَاجْتَمَعَ بِهِمْ الدَّاعِي وَخَاطَبَهُمْ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ . وَكَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَلْقَى فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مَا أَلْقَى مِنْ الِاهْتِمَامِ وَالْعَزْمِ : أَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِ عَدُوِّهِمْ الرَّوْعَ وَالِانْصِرَافَ . وَكَانَ عَامَ الْخَنْدَقِ بَرْدٌ شَدِيدٌ وَرِيحٌ شَدِيدَةٌ مُنْكِرَةٌ بِهَا صَرَفَ اللَّهُ الْأَحْزَابَ عَنْ الْمَدِينَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا } . وَهَكَذَا هَذَا الْعَامُ أَكْثَرَ اللَّهُ فِيهِ الثَّلْجَ وَالْمَطَرَ وَالْبَرْدَ عَلَى خِلَافِ أَكْثَرِ الْعَادَاتِ . حَتَّى كَرِهَ أَكْثَرُ النَّاسِ ذَلِكَ . وَكُنَّا نَقُولُ لَهُمْ : لَا تَكْرَهُوا ذَلِكَ ; فَإِنَّ لِلَّهِ فِيهِ حِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ . وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي صَرَفَ اللَّهُ بِهِ الْعَدُوَّ ; فَإِنَّهُ كَثُرَ عَلَيْهِمْ الثَّلْجُ وَالْمَطَرُ وَالْبَرْدُ حَتَّى هَلَكَ مِنْ خَيْلِهِمْ مَا شَاءَ اللَّهُ . وَهَلَكَ أَيْضًا مِنْهُمْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ . وَظَهَرَ فِيهِمْ وَفِي بَقِيَّةِ خَيْلِهِمْ مِنْ الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ بِسَبَبِ الْبَرْدِ وَالْجُوعِ مَا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ مَعَهُ بِقِتَالِ . حَتَّى بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ كِبَارِ الْمُقْدِمِينَ فِي أَرْضِ الشَّامِ أَنَّهُ قَالَ : لَا بَيَّضَ اللَّهُ وُجُوهَنَا : أَعَدَوْنَا فِي الثَّلْجِ إلَى شَعَرِهِ وَنَحْنُ قُعُودٌ لَا نَأْخُذُهُمْ ؟ وَحَتَّى عَلِمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا صَيْدًا لِلْمُسْلِمِينَ لَوْ يَصْطَادُونَهُمْ ; لَكِنْ فِي تَأْخِيرِ اللَّهِ اصْطِيَادَهُمْ حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ . وَقَالَ اللَّهُ فِي شَأْنِ الْأَحْزَابِ : { إذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا } { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } . وَهَكَذَا هَذَا الْعَامُ . جَاءَ الْعَدُوُّ مِنْ نَاحِيَتِي عُلُوِّ الشَّامِ وَهُوَ شَمَالُ الْفُرَاتِ . وَهُوَ قِبْلِيِّ الْفُرَاتِ . فَزَاغَتْ الْأَبْصَارُ زَيْغًا عَظِيمًا وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ; لِعَظْمِ الْبَلَاءِ ; لَا سِيَّمَا لَمَّا اسْتَفَاضَ الْخَبَرُ بِانْصِرَافِ الْعَسْكَرِ إلَى مِصْرَ وَتَقَرَّبَ الْعَدُوُّ وَتَوَجَّهَهُ إلَى دِمَشْقَ . وَظَنَّ النَّاسُ بِاَللَّهِ الظَّنُونَا . هَذَا يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَقِفُ قُدَّامَهُمْ أَحَدٌ مِنْ جُنْدِ الشَّامِ حَتَّى يصطلموا أَهْلَ الشَّامِ . وَهَذَا يَظُنُّ أَنَّهُمْ لَوْ وَقَفُوا لَكَسَرُوهُمْ كَسْرَةً وَأَحَاطُوا بِهِمْ إحَاطَةَ الْهَالَةِ بِالْقَمَرِ . وَهَذَا يَظُنُّ أَنَّ أَرْضَ الشَّامِ مَا بَقِيَتْ تُسْكَنُ وَلَا بَقِيَتْ تَكُونُ تَحْتَ مَمْلَكَةِ الْإِسْلَامِ . وَهَذَا يَظُنُّ إنَّهُمْ يَأْخُذُونَهَا ثُمَّ يَذْهَبُونَ إلَى مِصْرَ فَيَسْتَوْلُونَ عَلَيْهَا فَلَا يَقِفُ قُدَّامَهُمْ أَحَدٌ فَيُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِالْفِرَارِ إلَى الْيَمَنِ وَنَحْوِهَا . وَهَذَا - إذَا أَحْسَنَ ظَنَّهُ - قَالَ : إنَّهُمْ يَمْلِكُونَهَا الْعَامَ كَمَا مَلَكُوهَا عَامَ هُولَاكُو سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ . ثُمَّ قَدْ يَخْرُجُ الْعَسْكَرُ مِنْ مِصْرَ فَيَسْتَنْقِذُهَا مِنْهُمْ كَمَا خَرَجَ ذَلِكَ الْعَامَ . وَهَذَا ظَنُّ خِيَارِهِمْ . وَهَذَا يَظُنُّ أَنَّ مَا أَخْبَرَهُ بِهِ أَهْلُ الْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ وَأَهْلُ التَّحْدِيثِ وَالْمُبَشِّرَاتُ أَمَانِي كَاذِبَةٌ وَخُرَافَاتٌ لَاغِيَةٌ . وَهَذَا قَدْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الرُّعْبُ وَالْفَزَعُ حَتَّى يَمُرَّ الظَّنُّ بِفُؤَادِهِ مَرَّ السَّحَابِ لَيْسَ لَهُ عَقْلٌ يَتَفَهَّمُ وَلَا لِسَانٌ يَتَكَلَّمُ . وَهَذَا قَدْ تَعَارَضَتْ عِنْدَهُ الْأَمَارَاتُ وَتَقَابَلَتْ عِنْدَهُ الْإِرَادَاتُ ; لَا سِيَّمَا وَهُوَ لَا يُفَرِّقُ مِنْ الْمُبَشِّرَاتِ بَيْنَ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ . وَلَا يُمَيِّزُ فِي التَّحْدِيثِ بَيْنَ الْمُخْطِئِ وَالصَّائِبِ . وَلَا يَعْرِفُ النُّصُوصَ الْأَثَرِيَّةَ مَعْرِفَةَ الْعُلَمَاءِ ; بَلْ إمَّا أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِهَا وَقَدْ سَمِعَهَا سَمَاعَ الْعِبَرِ ثُمَّ قَدْ لَا يَتَفَطَّنُ لِوُجُوهِ دَلَالَتِهَا الْخَفِيَّةِ وَلَا يَهْتَدِي لِدَفْعِ مَا يَتَخَيَّلُ أَنَّهُ مُعَارِضٌ لَهَا فِي بَادِئِ الرَّوِيَّةِ . فَلِذَلِكَ اسْتَوْلَتْ الْحِيرَةُ عَلَى مَنْ كَانَ مُتَّسِمًا بِالِاهْتِدَاءِ وَتَرَاجَمَتْ بِهِ الْآرَاءُ تَرَاجِمَ الصِّبْيَانِ بِالْحَصْبَاءِ . { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } . ابْتَلَاهُمْ اللَّهُ بِهَذَا الِابْتِلَاءِ الَّذِي يُكَفِّرُ بِهِ خَطِيئَاتِهِمْ وَيَرْفَعُ بِهِ دَرَجَاتِهِمْ وَزُلْزِلُوا بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ الرَّجَفَاتِ مَا اسْتَوْجَبُوا بِهِ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلَّا غُرُورًا } . وَهَكَذَا قَالُوا فِي هَذِهِ الْفِتْنَةِ فِيمَا وَعَدَهُمْ أَهْلُ الْوِرَاثَةِ النَّبَوِيَّةِ وَالْخِلَافَةُ الرسالية وَحِزْبُ اللَّهِ الْمُحَدِّثُونَ عَنْهُ . حَتَّى حَصَلَ لِهَؤُلَاءِ التَّأَسِّي بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } . فَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَقَدْ مَضَى التَّنْبِيهُ عَلَيْهِمْ . وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ . فَذَكَرُوا هُنَا وَفِي قَوْلِهِ : { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ } وَفِي قَوْلِهِ : { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } . وَذَكَرَ اللَّهُ مَرَضَ الْقَلْبِ فِي مَوَاضِعَ . فَقَالَ تَعَالَى : { إذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ } . وَالْمَرَضُ فِي الْقَلْبِ كَالْمَرَضِ فِي الْجَسَدِ فَكَمَا أَنَّ هَذَا هُوَ إحَالَةٌ عَنْ الصِّحَّةِ وَالِاعْتِدَالِ مِنْ غَيْرِ مَوْتٍ فَكَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ فِي الْقَلْبِ مَرَضٌ يُحِيلُهُ عَنْ الصِّحَّةِ وَالِاعْتِدَالِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمُوتَ الْقَلْبُ سَوَاءٌ أَفْسَدَ إحْسَاسَ الْقَلْبِ وَإِدْرَاكَهُ أَوْ أَفَسَدَ عَمَلَهُ وَحَرَكَتَهُ . وَذَلِكَ - كَمَا فَسَّرُوهُ - : هُوَ مِنْ ضَعْفِ الْإِيمَانِ ; إمَّا بِضَعْفِ عِلْمِ الْقَلْبِ وَاعْتِقَادِهِ وَإِمَّا بِضَعْفِ عَمَلِهِ وَحَرَكَتِهِ . فَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ ضَعُفَ تَصْدِيقُهُ وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْجُبْنُ وَالْفَزَعُ ; فَإِنَّ أَدْوَاءَ الْقَلْبِ مِنْ الشَّهْوَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْحَسَدِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كُلُّهَا أَمْرَاضٌ . وَكَذَلِكَ الْجَهْلُ وَالشُّكُوكُ وَالشُّبُهَاتُ الَّتِي فِيهِ . وَعَلَى هَذَا فَقَوْلٌ : { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } هُوَ إرَادَةُ الْفُجُورِ وَشَهْوَةُ الزِّنَا كَمَا فَسَّرُوهُ بِهِ . وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنْ الْبُخْلِ ؟ } . وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى كِتَابَهُ شِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ } . وَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : { اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ مُنْكَرَاتِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْأَدْوَاءِ } . وَلَنْ يَخَافَ الرَّجُلُ غَيْرَ اللَّهِ إلَّا لِمَرَضِ فِي قَلْبِهِ كَمَا ذَكَرُوا أَنَّ رَجُلًا شَكَا إلَى أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ خَوْفَهُ مِنْ بَعْضِ الْوُلَاةِ فَقَالَ : لَوْ صَحَحْت لَمْ تَخَفْ أَحَدًا . أَيْ خَوْفُك مِنْ أَجْلِ زَوَالِ الصِّحَّةِ مِنْ قَلْبِك . وَلِهَذَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ لَا يَخَافُوا حِزْبَ الشَّيْطَانِ ; بَلْ لَا يَخَافُونَ غَيْرَهُ تَعَالَى فَقَالَ : { إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أَيْ يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ . وَقَالَ لِعُمُومِ بَنِي إسْرَائِيلَ تَنْبِيهًا لَنَا : { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } . وَقَالَ : { فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } وَقَالَ : { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي } وَقَالَ تَعَالَى : { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ } . وَقَالَ : { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ } وَقَالَ : { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إلَّا اللَّهَ } وَقَالَ : { أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ } . فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ - وَهِيَ قَوْله تَعَالَى { إذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } - عَلَى أَنَّ الْمَرَضَ وَالنِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ يُوجِبُ الرَّيْبَ فِي الْأَنْبَاءِ الصَّادِقَةِ الَّتِي تُوجِبُ أَمْنَ الْإِنْسَانِ : مِنْ الْخَوْفِ حَتَّى يَظُنُّوا أَنَّهَا كَانَتْ غُرُورًا لَهُمْ كَمَا وَقَعَ فِي حَادِثَتِنَا هَذِهِ سَوَاءٌ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا } وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَسْكَرَ بِالْمُسْلِمِينَ عِنْدَ سَلْعٍ وَجَعَلَ الْخَنْدَقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ . فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ : لَا مُقَامَ لَكُمْ هُنَا ; لِكَثْرَةِ الْعَدُوِّ . فَارْجِعُوا إلَى الْمَدِينَةِ . وَقِيلَ : لَا مُقَامَ لَكُمْ عَلَى دِينِ مُحَمَّدٍ فَارْجِعُوا إلَى دِينِ الشِّرْكِ . وَقِيلَ : لَا مُقَامَ لَكُمْ عَلَى الْقِتَالِ فَارْجِعُوا إلَى الِاسْتِئْمَانِ وَالِاسْتِجَارَةِ بِهِمْ . وَهَكَذَا لَمَّا قَدِمَ هَذَا الْعَدُوُّ كَانَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مَنْ قَالَ : مَا بَقِيَتْ الدَّوْلَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ تَقُومُ فَيَنْبَغِي الدُّخُولُ فِي دَوْلَةِ التَّتَارِ . وَقَالَ بَعْضُ الْخَاصَّةِ : مَا بَقِيَتْ أَرْضُ الشَّامِ تُسْكَنُ ; بَلْ نَنْتَقِلُ عَنْهَا إمَّا إلَى الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَإِمَّا إلَى مِصْرَ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ الْمَصْلَحَةُ الِاسْتِسْلَامُ لِهَؤُلَاءِ كَمَا قَدْ اسْتَسْلَمَ لَهُمْ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَالدُّخُولُ تَحْتَ حُكْمِهِمْ . فَهَذِهِ الْمَقَالَاتُ الثَّلَاثُ قَدْ قِيلَتْ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ . كَمَا قِيلَتْ فِي تِلْكَ . وَهَكَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ لِأَهْلِ دِمَشْقَ خَاصَّةً وَالشَّامِ عَامَّةً : لَا مُقَامَ لَكُمْ بِهَذِهِ الْأَرْضِ . وَنَفْيُ الْمُقَامِ بِهَا أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْمُقَامِ . وَإِنْ كَانَتْ قَدْ قُرِئَتْ بِالضَّمِّ أَيْضًا . فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَقُومَ بِالْمَكَانِ فَكَيْفَ يُقِيمُ بِهِ ؟ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إنْ يُرِيدُونَ إلَّا فِرَارًا } . وَكَانَ قَوْمٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْمُومِينَ يَقُولُونَ - وَالنَّاسُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ سَلْعٍ دَاخِلُ الْخَنْدَقِ وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ فِي آطَامِّ الْمَدِينَةِ - : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ . أَيْ مَكْشُوفَةٌ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَدُوِّ حَائِلٌ . - وَأَصْلُ الْعَوْرَةِ : الْخَالِي الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى حِفْظٍ وَسِتْرٍ . يُقَالُ : اعْوَرَّ مَجْلِسُك إذَا ذَهَبَ سِتْرُهُ أَوْ سَقَطَ جِدَارُهُ . وَمِنْهُ عَوْرَةُ الْعَدُوِّ - . وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحُسْنُ : أَيْ ضَائِعَةٌ تُخْشَى عَلَيْهَا السُّرَّاقُ . وَقَالَ قتادة : قَالُوا : بُيُوتُنَا مِمَّا يَلِي الْعَدُوَّ فَلَا نَأْمَنُ عَلَى أَهْلِنَا فائذن لَنَا أَنْ نَذْهَبَ إلَيْهَا لِحِفْظِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ } لِأَنَّ اللَّهَ يَحْفَظُهَا { إنْ يُرِيدُونَ إلَّا فِرَارًا } فَهُمْ يَقْصِدُونَ الْفِرَارَ مِنْ الْجِهَادِ وَيَحْتَجُّونَ بِحُجَّةِ الْعَائِلَةِ . وَهَكَذَا أَصَابَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْغُزَاةِ . صَارُوا يَفِرُّونَ مِنْ الثَّغْرِ إلَى الْمَعَاقِلِ وَالْحُصُونِ وَإِلَى الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ كَمِصْرِ . وَيَقُولُونَ : مَا مَقْصُودُنَا إلَّا حِفْظَ الْعِيَالِ وَمَا يُمْكِنُ إرْسَالُهُمْ مَعَ غَيْرِنَا . وَهُمْ يَكْذِبُونَ فِي ذَلِكَ . فَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُمْ جَعْلُهُمْ فِي حِصْنِ دِمَشْقَ لَوْ دَنَا الْعَدُوُّ . كَمَا فَعَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُمْ إرْسَالُهُمْ وَالْمُقَامُ لِلْجِهَادِ . فَكَيْفَ بِمَنْ فَرَّ بَعْدَ إرْسَالِ عِيَالِهِ ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إلَّا يَسِيرًا } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ الْمَدِينَةُ مِنْ جَوَانِبِهَا ثُمَّ طَلَبَتْ مِنْهُمْ الْفِتْنَةَ - وَهِيَ الِافْتِتَانُ عَنْ الدِّينِ بِالْكُفْرِ أَوْ النِّفَاقِ - لَأُعْطُوا الْفِتْنَةَ . وَلَجَئُوهَا مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ . وَهَذِهِ حَالُ أَقْوَامٍ لَوْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْعَدُوُّ الْمُنَافِقُ الْمُجْرِمُ . ثُمَّ طَلَبَ مِنْهُمْ مُوَافَقَتَهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ - وَتِلْكَ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ - لَكَانُوا مَعَهُ عَلَى ذَلِكَ . كَمَا سَاعَدَهُمْ فِي الْعَامِ الْمَاضِي أَقْوَامٌ بِأَنْوَاعِ مِنْ الْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَا بَيْنَ تَرْكِ وَاجِبَاتٍ وَفِعْلِ مُحَرَّمَاتٍ إمَّا فِي حَقِّ اللَّهِ وَإِمَّا فِي حَقِّ الْعِبَادِ . كَتَرْكِ الصَّلَاةِ وَشُرْبِ الْخُمُورِ وَسَبِّ السَّلَفِ وَسَبِّ جُنُودِ الْمُسْلِمِينَ وَالتَّجَسُّسِ لَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَدَلَّالَتِهِمْ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَحَرِيمِهِمْ . وَأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَتَعْذِيبِهِمْ وَتَقْوِيَةِ دَوْلَتِهِمْ الْمَلْعُونَةِ وَإِرْجَافِ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْفِتْنَةِ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا } وَهَذِهِ حَالُ أَقْوَامٍ عَاهَدُوا ثُمَّ نَكَثُوا قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ . فَإِنَّ فِي الْعَامِ الْمَاضِي وَفِي هَذَا الْعَامِ : فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ كَانَ مِنْ أَصْنَافِ النَّاسِ مَنْ عَاهَدَ عَلَى أَنْ يُقَاتِلَ وَلَا يَفِرَّ ثُمَّ فَرَّ مُنْهَزِمًا لَمَّا اشْتَدَّ الْأَمْرُ . ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إلَّا قَلِيلًا } فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ الْفِرَارَ لَا يَنْفَعُ لَا مِنْ الْمَوْتِ وَلَا مِنْ الْقَتْلِ . فَالْفِرَارُ مِنْ الْمَوْتِ كَالْفِرَارِ مِنْ الطَّاعُونِ . وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا وَقَعَ بِأَرْضِ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ } وَالْفِرَارُ مِنْ الْقَتْلِ كَالْفِرَارِ مِنْ الْجِهَادِ . وَحَرْفُ " لَنْ " يَنْفِي الْفِعْلَ فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ . وَالْفِعْلُ نَكِرَةٌ . وَالنَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تَعُمُّ جَمِيعَ أَفْرَادِهَا . فَاقْتَضَى ذَلِكَ : أَنَّ الْفِرَارَ مِنْ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ أَبَدًا . وَهَذَا خَبَرُ اللَّهِ الصَّادِقِ . فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُ فَقَدْ كَذَبَ اللَّهَ فِي خَبَرِهِ . وَالتَّجْرِبَةُ تَدُلُّ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ فَرُّوا فِي هَذَا الْعَامِ لَمْ يَنْفَعْهُمْ فِرَارُهُمْ ; بَلْ خَسِرُوا الدِّينَ وَالدُّنْيَا وَتَفَاوَتُوا فِي الْمَصَائِبِ . وَالْمُرَابِطُونَ الثَّابِتُونَ نَفَعَهُمْ ذَلِكَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا حَتَّى الْمَوْتُ الَّذِي فَرُّوا مِنْهُ كَثُرَ فِيهِمْ . وَقَلَّ فِي الْمُقِيمِينَ . فَمَا مَنَعَ الْهَرَبُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ . وَالطَّالِبُونَ لِلْعَدُوِّ وَالْمُعَاقِبُونَ لَهُ لَمْ يَمُتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَلَا قُتِلَ ; بَلْ الْمَوْتُ قَلَّ فِي الْبَلَدِ مِنْ حِينِ خَرَجَ الْفَارُّونَ . وَهَكَذَا سُنَّةُ اللَّهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إلَّا قَلِيلًا } يَقُولُ : لَوْ كَانَ الْفِرَارُ يَنْفَعُكُمْ لَمْ يَنْفَعْكُمْ إلَّا حَيَاةً قَلِيلَةً ثُمَّ تَمُوتُونَ . فَإِنَّ الْمَوْتَ لَا بُدَّ مِنْهُ . وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْحَمْقَى أَنَّهُ قَالَ : فَنَحْنُ نُرِيدُ ذَلِكَ الْقَلِيلَ . وَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُ بِمَعْنَى الْآيَةِ . فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَقُلْ : إنَّهُمْ يُمَتَّعُونَ بِالْفِرَارِ قَلِيلًا . لَكِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ أَبَدًا . ثُمَّ ذَكَرَ جَوَابًا ثَانِيًا . أَنَّهُ لَوْ كَانَ يَنْفَعُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا مَتَاعٌ قَلِيلٌ . ثُمَّ ذَكَرَ جَوَابًا ثَالِثًا وَهُوَ أَنَّ الْفَارَّ يَأْتِيهِ مَا قُضِيَ لَهُ مِنْ الْمَضَرَّةِ وَيَأْتِي الثَّابِتُ مَا قُضِيَ لَهُ مِنْ الْمَسَرَّةِ . فَقَالَ : { قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا } . وَنَظِيرُهُ : قَوْلُهُ فِي سِيَاقِ آيَاتِ الْجِهَادِ : { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } الْآيَةَ وَقَوْلُهُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } . فَمَضْمُونُ الْأَمْرِ : أَنَّ الْمَنَايَا مَحْتُومَةٌ فَكَمْ مَنْ حَضَرَ الصُّفُوفَ فَسَلَّمَ وَكَمْ مِمَّنْ فَرَّ مِنْ الْمَنِيَّةِ فَصَادَفَتْهُ كَمَا قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ - لَمَّا اُحْتُضِرَ - لَقَدْ حَضَرْت كَذَا وَكَذَا صَفًّا وَأَنَّ بِبَدَنِي بِضْعًا وَثَمَانِينَ مَا بَيْنَ ضَرْبَةٍ بِسَيْفِ وَطَعْنَةٍ بِرُمْحِ وَرَمْيَةٍ بِسَهْمِ . وهأنذا أَمُوتُ عَلَى فِرَاشِي كَمَا يَمُوتُ الْبَعِيرُ . فَلَا نَامَتْ أَعْيُنُ الْجُبَنَاءِ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إلَيْنَا } . قَالَ الْعُلَمَاءُ : كَانَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَرْجِعُ مِنْ الْخَنْدَقِ فَيَدْخُلُ الْمَدِينَةَ فَإِذَا جَاءَهُمْ أَحَدٌ قَالُوا لَهُ : وَيْحَك اجْلِسْ فَلَا تَخْرُجْ . وَيَكْتُبُونَ بِذَلِكَ إلَى إخْوَانِهِمْ الَّذِينَ بِالْعَسْكَرِ : أَنْ ائْتُونَا بِالْمَدِينَةِ فَإِنَّا نَنْتَظِرُكُمْ . يُثَبِّطُونَهُمْ عَنْ الْقِتَالِ . وَكَانُوا لَا يَأْتُونَ الْعَسْكَرَ إلَّا أَلَّا يَجِدُوا بُدًّا . فَيَأْتُونَ الْعَسْكَرَ لِيَرَى النَّاسُ وُجُوهَهُمْ . فَإِذَا غَفَلَ عَنْهُمْ عَادُوا إلَى الْمَدِينَةِ . فَانْصَرَفَ بَعْضُهُمْ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَعِنْدَهُ شِوَاءٌ وَنَبِيذٌ . فَقَالَ : أَنْتَ هَهُنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الرِّمَاحِ وَالسُّيُوفِ ؟ فَقَالَ : هَلُمَّ إلَيَّ فَقَدْ أُحِيطَ بِك وَبِصَاحِبِك . فَوَصَفَ الْمُثَبِّطِينَ عَنْ الْجِهَادِ - وَهُمْ صِنْفَانِ - بِأَنَّهُمْ إمَّا أَنْ يَكُونُوا فِي بَلَدِ الْغُزَاةِ أَوْ فِي غَيْرِهِ فَإِنْ كَانُوا فِيهِ عَوَّقُوهُمْ عَنْ الْجِهَادِ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْعَمَلِ أَوْ بِهِمَا . وَإِنْ كَانُوا فِي غَيْرِهِ رَاسَلُوهُمْ أَوْ كَاتَبُوهُمْ : بِأَنْ يَخْرُجُوا إلَيْهِمْ مِنْ بَلَدِ الْغُزَاةِ لِيَكُونُوا مَعَهُمْ بِالْحُصُونِ أَوْ بِالْبُعْدِ . كَمَا جَرَى فِي هَذِهِ الْغُزَاةِ . فَإِنَّ أَقْوَامًا فِي الْعَسْكَرِ وَالْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمَا صَارُوا يُعَوِّقُونَ مَنْ أَرَادَ الْغَزْوَ وَأَقْوَامًا بُعِثُوا مِنْ الْمَعَاقِلِ وَالْحُصُونِ وَغَيْرِهَا إلَى إخْوَانِهِمْ : هَلُمَّ إلَيْنَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : { وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إلَّا قَلِيلًا أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } أَيّ بُخَلَاءَ عَلَيْكُمْ بِالْقِتَالِ مَعَكُمْ وَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ : بُخَلَاءُ عَلَيْكُمْ بِالْخَيْرِ وَالظَّفَرِ وَالْغَنِيمَةِ . وَهَذِهِ حَالُ مَنْ بَخِلَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ أَوْ شَحَّ عَلَيْهِمْ بِفَضْلِ اللَّهِ : مِنْ نَصْرِهِ وَرِزْقِهِ الَّذِي يُجْرِيهِ بِفِعْلِ غَيْرِهِ . فَإِنَّ أَقْوَامًا يَشُحُّونَ بِمَعْرُوفِهِمْ وَأَقْوَامًا يَشُحُّونَ بِمَعْرُوفِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ . وَهُمْ الْحُسَّادُ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } مِنْ شِدَّةِ الرُّعْبِ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ يُشْبِهُونَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَقْتَ النَّزْعِ . فَإِنَّهُ يَخَافُ وَيُذْهِلُ عَقْلَهُ وَيَشْخَصُ بَصَرُهُ وَلَا يَطْرِفُ . فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ ; لِأَنَّهُمْ يَخَافُونَ الْقَتْلَ . { فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } وَيُقَالُ فِي اللُّغَةِ " صَلَقُوكُمْ " وَهُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْكَلَامِ الْمُؤْذِي . وَمِنْهُ " الصَّالِقَةُ " وَهِيَ الَّتِي تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالْمُصِيبَةِ . يُقَالُ : صَلَقَهُ وَسَلَقَهُ - وَقَدْ قَرَأَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ بِهَا ; لَكِنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ الْمُصْحَفِ - إذَا خَاطَبَهُ خِطَابًا شَدِيدًا قَوِيًّا . وَيُقَالُ : خَطِيبٌ مِسْلَاقٌ : إذَا كَانَ بَلِيغًا فِي خُطْبَتِهِ ; لَكِنَّ الشِّدَّةَ هُنَا فِي الشَّرِّ لَا فِي الْخَيْرِ . كَمَا قَالَ { بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ } وَهَذَا السَّلْقُ بِالْأَلْسِنَةِ الْحَادَّةِ يَكُونُ بِوُجُوهِ : تَارَةً يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ : هَذَا الَّذِي جَرَى عَلَيْنَا بِشُؤْمِكُمْ ; فَإِنَّكُمْ أَنْتُمْ الَّذِينَ دَعَوْتُمْ النَّاسَ إلَى هَذَا الدِّينِ وَقَاتَلْتُمْ عَلَيْهِ وَخَالَفْتُمُوهُمْ ; فَإِنَّ هَذِهِ مَقَالَةُ الْمُنَافِقِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَتَارَةً يَقُولُونَ : أَنْتُمْ الَّذِينَ أَشَرْتُمْ عَلَيْنَا بِالْمُقَامِ هُنَا وَالثَّبَاتِ بِهَذَا الثَّغْرِ إلَى هَذَا الْوَقْتِ وَإِلَّا فَلَوْ كُنَّا سَافَرْنَا قَبْلَ هَذَا لَمَا أَصَابَنَا هَذَا . وَتَارَةً يَقُولُونَ - أَنْتُمْ مَعَ قِلَّتِكُمْ وَضَعْفِكُمْ - تُرِيدُونَ أَنْ تَكْسِرُوا الْعَدُوَّ وَقَدْ غَرَّكُمْ دِينُكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } . وَتَارَةً يَقُولُونَ : أَنْتُمْ مَجَانِينُ لَا . عقل لَكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُهْلِكُوا أَنْفُسَكُمْ وَالنَّاسُ مَعَكُمْ . وَتَارَةً يَقُولُونَ : أَنْوَاعًا مِنْ الْكَلَامِ الْمُؤْذِي الشَّدِيدِ . وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ أَشِحَّةٌ عَلَى الْخَيْرِ أَيْ حُرَّاصٌ عَلَى الْغَنِيمَةِ وَالْمَالِ الَّذِي قَدْ حَصَلَ لَكُمْ . قَالَ قتادة : إنْ كَانَ وَقْتَ قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ بَسَطُوا أَلْسِنَتَهُمْ فِيكُمْ . يَقُولُونَ : أَعْطُونَا فَلَسْتُمْ بِأَحَقَّ بِهَا مِنَّا . فَأَمَّا عِنْدَ الْبَأْسِ فَأَجْبَنُ قَوْمٍ وَأَخْذَلُهُمْ لِلْحَقِّ . وَأَمَّا عِنْدَ الْغَنِيمَةِ فأشح قَوْمٍ . وَقِيلَ : أَشِحَّةٌ عَلَى الْخَيْرِ أَيْ بُخَلَاءُ بِهِ لَا يَنْفَعُونَ لَا بِنُفُوسِهِمْ وَلَا بِأَمْوَالِهِمْ . وَأَصْلُ الشُّحِّ : شِدَّةُ الْحِرْصِ الَّذِي يَتَوَلَّدُ عَنْهُ الْبُخْلُ وَالظُّلْمُ : مَنْ مَنَعَ الْحَقَّ وَأَخَذَ الْبَاطِلَ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إيَّاكُمْ وَالشُّحَّ ; فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ . أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا وَأَمَرَهُمْ بِالظُّلْمِ فَظَلَمُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا } ؟ فَهَؤُلَاءِ أَشِحَّاءُ عَلَى إخْوَانِهِمْ أَيْ بُخَلَاءُ عَلَيْهِمْ وَأَشِحَّاءُ عَلَى الْخَيْرِ أَيْ حُرَّاصٌ عَلَيْهِ . فَلَا يُنْفِقُونَهُ . كَمَا قَالَ : { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إلَّا قَلِيلًا } . فَوَصَفَهُمْ بِثَلَاثَةِ أَوْصَافٍ . أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ لِفَرْطِ خَوْفِهِمْ يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَنْصَرِفُوا عَنْ الْبَلَدِ . وَهَذِهِ حَالُ الْجَبَانِ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ . فَإِنَّ قَلْبَهُ يُبَادِرُ إلَى تَصْدِيقِ الْخَبَرِ الْمُخَوِّفِ وَتَكْذِيبِ خَبَرِ الْأَمْنِ . الْوَصْفُ الثَّانِي : أَنَّ الْأَحْزَابَ إذَا جَاءُوا تَمَنَّوْا أَنْ لَا يَكُونُوا بَيْنَكُمْ ; بَلْ يَكُونُونَ فِي الْبَادِيَةِ بَيْنَ الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ : إيش خَبَرُ الْمَدِينَةِ ؟ وإيش جَرَى لِلنَّاسِ ؟ . وَالْوَصْفُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْأَحْزَابَ إذَا أَتَوْا وَهُمْ فِيكُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا إلَّا قَلِيلًا . وَهَذِهِ الصِّفَاتُ الثَّلَاثُ مُنْطَبِقَةٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ كَمَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَيَعْرِفُهُ مِنْهُمْ مِنْ خَبَرِهِمْ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } . فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الَّذِينَ يُبْتَلَوْنَ بِالْعَدُوِّ كَمَا اُبْتُلِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَهُمْ فِيهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ حَيْثُ أَصَابَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُ . فَلْيَتَأَسَّوْا بِهِ فِي التَّوَكُّلِ وَالصَّبْرِ وَلَا يَظُنُّونَ أَنَّ هَذِهِ نِقَمٌ لِصَاحِبِهَا وَإِهَانَةٌ لَهُ . فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ مَا اُبْتُلِيَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُ الْخَلَائِقِ ; بَلْ بِهَا يُنَالُ الدَّرَجَاتُ الْعَالِيَةُ وَبِهَا يُكَفِّرُ اللَّهُ الْخَطَايَا لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا . وَإِلَّا فَقَدْ يُبْتَلَى بِذَلِكَ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ فِي حَقِّهِ عَذَابًا . كَالْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلَّا إيمَانًا وَتَسْلِيمًا } . قَالَ الْعُلَمَاءُ : كَانَ اللَّهُ قَدْ أَنْزَلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ - مُنْكِرًا عَلَى مَنْ حَسَبَ خِلَافَ ذَلِكَ - أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إلَّا بَعْدَ أَنْ يُبْتَلَوْا مِثْلُ هَذِهِ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ بـ " الْبَأْسَاءِ " وَهِيَ الْحَاجَةُ وَالْفَاقَةُ . وَ " الضَّرَّاءُ " وَهِيَ الْوَجَعُ وَالْمَرَضُ . وَ " الزِّلْزَالُ " وَهِيَ زَلْزَلَةُ الْعَدُوِّ . فَلَمَّا جَاءَ الْأَحْزَابُ عَامَ الْخَنْدَقِ فَرَأَوْهُمْ . قَالُوا : { هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } وَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ قَدْ ابْتَلَاهُمْ بِالزِّلْزَالِ . وَأَتَاهُمْ مِثْلَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا زَادَهُمْ إلَّا إيمَانًا وَتَسْلِيمًا لِحُكْمِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ . وَهَذِهِ حَالُ أَقْوَامٍ فِي هَذِهِ الْغَ�