تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ رَجُلٍ يُدَايِنُ النَّاسَ كُلَّ مِائَةٍ بِمِائَةِ وَأَرْبَعِينَ وَيَجْعَلُ سَلَفًا عَلَى حَرِيرٍ فَإِذَا جَاءَ الْأَجَلُ وَأُعْسِرَ الْمَدْيُونُ عَنْ وَفَائِهِ قَالَ لَهُ : عَامِلْنِي فَيَأْخُذُ رَبُّ الْحَرِيرِ مِنْ عِنْدِهِ وَيَقُولُ لِلْمَدْيُونِ : اشْتَرَيْت مِنْ هَذَا الْحَرِيرِ بِمِائَةِ وَتِسْعِينَ إلَّا أَنَّهُ يَأْتِيهِ عَلَى حِسَابِ كُلِّ مِائَةٍ بِمِائَةِ وَأَرْبَعِينَ . وَإِذَا قَبَضَهُ الْمَدْيُونُ مِنْهُ قَالَ : أَوْفِنِي هَذَا الْحَرِيرَ عَنْ السَّلَفِ الَّذِي لِي عِنْدَك . وَإِذَا جَاءَتْ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ طَالَبَهُ بِالدَّرَاهِمِ الْمَذْكُورَةِ فَأُعْسِرَتْ عَلَيْهِ أَوْ بَعْضُهَا . قَالَ : عَامِلْنِي فَيَحْسِبُ الْمُتَبَقِّيَ وَالْأَصْلَ وَيَجْعَلُ ذَلِكَ سَلَفًا عَلَى حَرِيرٍ . فَمَا يَجِبُ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ ؟
1
فَأَجَابَ : هَذَا هُوَ عَيْنُ الرِّبَا الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ . فَإِنَّهُ كَانَ يَكُونُ لِلرَّجُلِ عَلَى الرَّجُلِ الدَّيْنُ فَيَأْتِي إلَيْهِ عِنْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ فَيَقُولُ : إمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ فَإِنْ وَفَّاهُ وَإِلَّا زَادَهُ الْمَدِينُ فِي الدَّيْنِ وَزَادَهُ الْغَرِيمُ فِي الْأَجَلِ حَتَّى يَتَضَاعَفَ الْمَالُ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } . وَهَذِهِ الْمُعَامَلَةُ الَّتِي يَفْعَلُهَا مِثْلُ هَذَا الْمُرْبِي : مَقْصُودُهَا مَقْصُودُ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الْمُرْبِينَ ; لَكِنْ هَذَا أَظْهَرَ صُورَةَ الْمُعَامَلَةِ وَهَذَا لَا يَنْفَعُهُ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ هَذَا الْمُرْبِي يَبِيعُهُ ذَلِكَ الْحَرِيرَ إلَى أَجَلٍ ; لِيُوَفِّيَهُ إيَّاهُ عَنْ دَيْنِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَبِيعَهُ إيَّاهُ إلَى أَجَلٍ لِيَشْتَرِيَهُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ ; وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ مِثْلِ هَذَا فَقَالَ : هَذَا حَرَامٌ حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَسَأَلَتْ أُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مِثْلِ هَذَا فَقَالَتْ : إنِّي بِعْت مِنْ زَيْدٍ غُلَامًا إلَى الْعَطَاءِ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ ابْتَعْته بِسِتِّمِائَةِ فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ : بِئْسَ مَا اشْتَرَيْت وَبِئْسَ مَا بِعْت . أَخْبِرِي زَيْدًا أَنَّهُ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا أَنْ يَتُوبَ . قَالَتْ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْت إنْ لَمْ أَجِدْ إلَّا رَأْسَ مَالِي . فَقَالَتْ عَائِشَةُ : { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ } . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوْ الرِّبَا } . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ } فَنَهَى أَنْ يَبِيعَ وَيُقْرِضَ لِيُحَابِيَهُ فِي الْبَيْعِ ; لِأَجْلِ الْقَرْضِ . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } فَهَذَانِ الْمُتَعَامِلَانِ إنْ كَانَ قَصْدُهُمَا أَخْذَ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ إلَى أَجَلٍ فَبِأَيِّ طَرِيقٍ تَوَصَّلَ إلَى ذَلِكَ كَانَ حَرَامًا ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حَرَامٌ لَا يَحِلُّ قَصْدُهُ ; بَلْ قَدْ نَهَى السَّلَفُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ سَدًّا لِلذَّرَائِعِ : لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى هَذَا الْمَقْصُودِ . وَهَذَا الْمُرْبِي لَا يَسْتَحِقُّ فِي ذِمَمِ النَّاسِ إلَّا مَا أَعْطَاهُمْ أَوْ نَظِيرَهُ . فَأَمَّا الزِّيَادَاتُ فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْهَا ; لَكِنْ مَا قَبَضَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِتَأْوِيلِ فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ . وَأَمَّا مَا بَقِيَ لَهُ فِي الذِّمَمِ فَهُوَ سَاقِطٌ ; لِقَوْلِهِ : { وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .