وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ رَجُلٍ لَهُ إقْطَاعُ أَرْضٍ يَعْمَلُ لَهُ أَرْبَعَمِائَةِ إرْدَبٍّ فَأَعْطَى الْفَلَّاحِينَ قُوَّةً تُقَارِبُ مِائَتَيْ إرْدَبٍّ فَيُسَجِّلُوهُ بسبعمائة دِرْهَمٍ فَهَلْ ذَلِكَ رِبًا ؟
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ رِبًا ; مِثْلَ أَنْ يُبَايِعَهُ أَوْ يُؤَاجِرَهُ وَيُحَابِيَهُ فِي الْمُبَايَعَةِ وَالْمُؤَاجَرَةِ لِأَجْلِ قَرْضِهِ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ } . فَإِنَّهُ إذَا أَقْرَضَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَبَاعَهُ سِلْعَةً تُسَاوِي مِائَةً بِمِائَةِ وَخَمْسِينَ كَانَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ رِبًا . وَكَذَلِكَ إذَا أَقْرَضَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَاسْتَأْجَرَهُ بِدِرْهَمَيْنِ كُلَّ يَوْمٍ أُجْرَتُهُ تُسَاوِي ثَلَاثَةً ; بَلْ مَا يَصْنَعُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُعَلِّمِينَ بِصَنَائِعِهِمْ يُقْرِضُونَهُمْ لِيُحَابُوهُمْ فِي الْأُجْرَةِ فَهُوَ رِبًا . وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ أَوْ الدَّارُ أَوْ الْحَانُوتُ تُسَاوِي أُجْرَتَهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ فَأَكْرَاهَا بِمِائَةِ وَخَمْسِينَ ; لِأَجْلِ الْمِائَةِ الَّتِي أَقْرَضَهَا إيَّاهُ فَهُوَ رِبًا . وَأَمَّا " الْقُوَّةُ " فَلَيْسَتْ قَرْضًا مَحْضًا ; فَإِنَّهُ يَشْتَرِطُ عَلَيْهِ فِيهَا أَنْ يَبْذُرَهَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ كَانَ عَامِلًا وَإِنْ كَانَ مُسْتَأْجِرًا . فَكَأَنَّهُ أَجَّرَهُ أَرْضًا يُقَوِّيهَا بِالْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ فَإِذَا انْقَضَتْ الْإِجَارَةُ اسْتَرْجَعَ الْأَرْضَ وَنَظِيرُهُ الْقُوَّةُ . وَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الْمَنْفَعَةُ هُنَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْمُقْرِضِ وَالْمُقْرَضِ : فَإِنَّ الْمُقْرِضَ لَهُ غَرَضٌ فِي عِمَارَةِ أَرْضِهِ مِثْلَ " السَّفْتَجَةِ " وَهُوَ أَنْ يُقْرِضَهُ بِبَلَدٍ لِيَسْتَوْفِيَ فِي بَلَدٍ آخَرَ فَيَرْبَحُ الْمُقْرِضُ خَطَرَ الطَّرِيقِ وَمَئُونَةَ الْحَمْلِ وَيَرْبَحُ الْمُقْرَضُ مَنْفَعَةَ الِاقْتِرَاضِ . وَكَذَلِكَ " الْقُوَّةُ " لَيْسَ مَقْصُودُ الْمُقَوِّي يَأْخُذُ زِيَادَةً عَلَى قُوَّتِهِ ; بَلْ مُحْتَاجٌ إلَى إجَارَةِ أَرْضِهِ وَذَلِكَ مُحْتَاجٌ إلَى اسْتِئْجَارِهَا فَلَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهَا إلَّا بِقُوَّةٍ مِنْ الْمُؤَجِّرِ لِحَاجَةِ الْمُسْتَأْجِرِ وَفِي التَّحْقِيقِ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِالْقُوَّةِ الْقَرْضَ بَلْ تَقْوِيَتُهُ بِالْبَذْرِ كَمَا لَوْ قَوَّاهُ بِالْبَقَرِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ مِنْ بَابِ الْقَرْضِ الَّذِي يَجُرُّ مَنْفَعَةً إنَّمَا الْقُوَّةُ مِنْ تَمَامِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ كَمَا لَوْ كَانَ مَعَ الْأَرْضِ بَقَرٌ لِيَحْرُثَ عَلَيْهَا فَيَكُونُ قَدْ أَجَّرَ أَرْضًا وَبَقَرًا : فَهَذَا جَائِزٌ بِلَا رَيْبٍ وَلَكِنَّ الْقُوَّةَ نَفْسَهَا لَا تَبْقَى وَلَكِنْ يَرْجِعُ فِي نَظِيرِهَا كَمَا يَرْجِعُ فِي الْمُضَارَبَةِ فِي نَظِيرِ رَأْسِ الْمَالِ . فَلِهَذَا مَنَعَ مَنْ مَنَعَ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تُرْجِعُ نَفْسَ الْعَيْنِ فِيهَا إلَى الْمُؤَجِّرِ وَالْمُسْتَأْجِرُ قَدْ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ . وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْقَرْضِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهِ إلَّا رَدُّ الْمِثْلِ بِلَا زِيَادَةٍ . وَلَوْ أَجَّرَهُ حِنْطَةً أَوْ نَحْوَهَا لِيَنْتَفِعَ بِهَا ثُمَّ يَرُدَّ إلَيْهِ مِثْلَهَا مَعَ الْأُجْرَةِ : فَهَذَا هُوَ الْقَرْضُ الْمَشْرُوطُ فِيهِ زِيَادَةً عَلَى الْمِثْلِ . وَهَذَا النِّزَاعُ إذَا أَكْرَاهُ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ وَأَقْرَضَهُ الْقُوَّةَ وَنَحْوَهَا مِمَّا يَسْتَعِينُ بِهِ الْمُكْتَرِي كَمَا لَوْ أَكْرَاهُ حَانُوتًا لِيَعْمَلَ فِيهِ صِنَاعَةً أَوْ تِجَارَةً وَأَقْرَضَهُ مَا يُقِيمُ بِهِ صِنَاعَتَهُ أَوْ تِجَارَتَهُ . فَأَمَّا إنْ أَكْرَاهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْمِثْلِ لِأَجْلِ الْقَرْضِ فَهَذَا لَا خَيْرَ فِيهِ ; بَلْ هُوَ الْقَرْضُ الَّذِي يَجُرُّ الرِّبَا .