تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَصْلٌ وَأَمَّا إجَارَةُ الْأَرْضِ بِجِنْسِ الطَّعَامِ الْخَارِجِ مِنْهَا : كَإِجَارَةِ الْأَرْضِ لِمَنْ يَزْرَعُهَا حِنْطَةً أَوْ شَعِيرًا بِمِقْدَارِ مُعَيَّنٍ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ : فَهُوَ أَيْضًا جَائِزٌ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَفِي الْأُخْرَى يَنْهَى عَنْهُ كَقَوْلِ مَالِكٍ . قَالُوا : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِجَارَةِ هُوَ الطَّعَامُ فَهُوَ فِي مَعْنَى بَيْعِهِ بِجِنْسِهِ . وَقَالُوا : هُوَ مِنْ الْمُخَابَرَةِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْمُزَابَنَةِ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَيْعُ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ جُزَافًا . وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ; لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ هُوَ الِانْتِفَاعُ بِالْأَرْضِ ; وَلِهَذَا إذَا تَمَكَّنَ مِنْ الزَّرْعِ وَلَمْ يَزْرَعْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ وَالطَّعَامُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِعَمَلِهِ وَبَذْرِهِ . وَبَذْرُهُ لَمْ يُعْطِهِ إيَّاهُ الْمُؤَجِّرُ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ الرِّبَا فِي شَيْءٍ . وَنَظِيرُ هَذَا : أَنْ يَسْتَأْجِرَ قَوْمًا لِيَسْتَخْرِجُوا لَهُ مَعْدِنَ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ رِكَازًا مِنْ الْأَرْضِ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَلَيْسَ هَذَا كَبَيْعِ الدَّرَاهِمِ بِدَرَاهِمَ . وَكَذَلِكَ مَنْ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَشُقُّ الْأَرْضَ وَيَبْذُرُ فِيهَا وَيَسْقِيهَا بِطَعَامِ مِنْ عِنْدِهِ وَقَدْ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى أَنْ يَبْذُرَ لَهُ طَعَامًا . فَهَذَا مِثْلُ ذَلِكَ . وَالْمُخَابَرَةُ الَّتِي نَهَى عَنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ فَسَّرَهَا رَافِعٌ رَاوِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهَا الْمُزَارَعَةُ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا لِرَبِّ الْأَرْضِ زَرْعُ بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا ; وَلَكِنْ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَعَلَ الْمُزَارَعَةَ كُلَّهَا مِنْ الْمُخَابَرَةِ كَأَبِي حَنِيفَةَ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْمُزَارَعَةُ عَلَى الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ مِنْ الْمُخَابَرَةِ كَالشَّافِعِيِّ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْمُزَارَعَةُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ مِنْ الْمُخَابَرَةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : كِرَاءُ الْأَرْضِ بِجِنْسِ الْخَارِجِ مِنْهَا مِنْ الْمُخَابَرَةِ كَمَالِكِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُخَابَرَةَ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا كَمَا فَسَّرَهَا بِهِ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ : الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ إذَا نَظَرَ فِيهِ ذُو الْبَصِيرَةِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ عَلِمَ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ . وَهَذَا مَذْهَبُ عَامَّةِ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ : كَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ خزيمة وَغَيْرِهِمْ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ أَشْيَاءَ دَاخِلَةً فِيمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ ; فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ فِي كِتَابِهِ الرِّبَا وَالْمَيْسِرَ وَحَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَ الْغَرَرِ فَإِنَّهُ مِنْ نَوْعِ الْمَيْسِرِ وَكَذَلِكَ بَيْعُ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا وَبَيْعُ حَبَلِ الْحَبَلَةِ . وَحَرَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي الرِّبَا . فَصَارَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَظُنُّونَ أَنَّهُ دَخَلَ فِي الْعَامِّ أَوْ عِلَّتُهُ الْعَامَّةُ أَشْيَاءُ وَهِيَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي ذَلِكَ . كَمَا أَدَخَلَ بَعْضُهُمْ ضَمَانَ الْبَسَاتِينِ حَوْلًا كَامِلًا أَوْ أَحْوَالًا لِمَنْ يَسْقِيهَا وَيَخْدِمُهَا حَتَّى تُثْمِرَ فَظَنُّوا أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فَحَرَّمُوهُ ; وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ بَابِ الْإِجَارَةِ : كَإِجَارَةِ الْأَرْضِ . فَلَمَّا نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ وَجَوَّزَ إجَارَةَ الْأَرْضِ لِمَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا حَتَّى تُنْبِتَ . وَكَذَلِكَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا وَلَمْ يَنْهَ أَنْ تُضْمَنَ لِمَنْ يَخْدِمُهَا حَتَّى تُثْمِرَ وَيَحْصُلُ الثَّمَرُ بِخِدْمَتِهِ عَلَى مِلْكِهِ وَبَائِعُ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ عَلَيْهِ سَقْيُهُ إلَى كَمَالِ صَلَاحِهِ خِلَافَ الْمُؤَجِّرِ فَإِنَّهُ لَيْسَ يَسْقِي مَا لِلْمُسْتَأْجِرِ مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ ; بَلْ سَقْيُ ذَلِكَ عَلَى الضَّامِنِ الْمُسْتَأْجِرِ . وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ضَمِنَ حَدِيقَةَ أسيد بْنِ الحضير ثَلَاثَ سِنِينَ وَتَسَلَّفَ كِرَاءَهَا فَوَفَّى بِهِ دَيْنًا كَانَ عَلَيْهِ . وَنَظَائِرُ هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ .