تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
بَابُ الشُّفْعَةِ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابن تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ فَصْلٌ اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ فِي الْعَقَارِ الَّذِي يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ - قِسْمَةَ الْإِجْبَارِ - كَالْقَرْيَةِ وَالْبُسْتَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَتَنَازَعُوا فِيمَا لَا يَقْبَلُ قِسْمَةَ الْإِجْبَارِ ; وَإِنَّمَا يُقْسَمُ بِضَرَرِ أَوْ رَدِّ عِوَضٍ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّرَاضِي . هَلْ تَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . أَحَدُهُمَا : تَثْبُتُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَاخْتَارَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : كَابْنِ سُرَيْجٍ . وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : كَأَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ . وَهِيَ رِوَايَةُ الْمُهَذَّبِ عَنْ مَالِكٍ . وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ . وَالثَّانِي : لَا تَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ نَفْسِهِ وَاخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَهَذَا الْقَوْلُ لَهُ حُجَّتَانِ : أَحَدُهُمَا قَوْلُهُمْ : إنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا شُرِعَتْ لِرَفْعِ ضَرَرِ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ وَمَا لَا تَجِبُ قِسْمَتُهُ لَيْسَ فِيهِ هَذَا الضَّرَرُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ وَجَبَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ لَتَضَرَّرَ الشَّرِيكُ ; فَإِنَّهُ إنْ بَاعَهُ لَمْ يَرْغَبْ النَّاسُ فِي الشِّرَاءِ ; لِخَوْفِهِمْ مِنْ انْتِزَاعِهِ بِالشُّفْعَةِ . وَإِنْ طَلَبَ الْقِسْمَةَ لَمْ تَجِبْ إجَابَتُهُ فَلَا يُمْكِنُهُ الْبَيْعُ وَلَا الْقِسْمَةُ فَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ ضَرَرِ شَرِيكِهِ . فَلَوْ أَثْبَتْنَا فِيهِ الشُّفْعَةَ لِرَفْعِ ضَرَرِ الشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يَبِعْ لَزِمَ إضْرَارُ الشَّرِيكِ الْبَائِعِ . وَالضَّرَرُ لَا يَزَالُ بِالضَّرَرِ . وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ ; فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فِي أَرْضٍ أَوْ رَبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ . فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ فَإِنْ بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ } وَلَمْ يَشْتَرِطْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَرْضِ وَالرَّبْعَةِ وَالْحَائِطِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ : فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ كَلَامِ الرَّسُولِ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ مِنْ كَلَامِهِ ; لَا سِيَّمَا وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا فِي بَابِ تَأْسِيسِ إثْبَاتِ الشُّفْعَةِ . وَلَيْسَ عَنْهُ لَفْظٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي الشُّفْعَةِ أَثْبَتُ مِنْ هَذَا . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَضَى بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ } فَلَمْ يَمْنَعْ الشُّفْعَةَ إلَّا مَعَ إقَامَةِ الْحُدُودِ وَصَرْفِ الطُّرُقِ وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرٍ . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ جَارِهِ يَنْتَظِرُهُ بِهَا . وَإِنْ كَانَ غَائِبًا إذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا } فَإِذَا قَضَى بِهَا لِلِاشْتِرَاكِ فِي الطَّرِيقِ ; فَلَأَنْ يَقْضِيَ بِهَا لِلِاشْتِرَاكِ فِي رَقَبَةِ الْمِلْكِ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي شُفْعَةِ الْجَارِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . أَعْدَلُهَا هَذَا الْقَوْلُ : إنَّهُ إنْ كَانَ شَرِيكًا فِي حُقُوقِ الْمِلْكِ ثَبَتَتْ لَهُ الشُّفْعَةُ وَإِلَّا فَلَا . وَأَيْضًا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ إذَا أَثْبَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ فِيمَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ فَمَا لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ أَوْلَى بِثُبُوتِ الشُّفْعَةِ فِيهِ ; فَإِنَّ الضَّرَرَ فِيمَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ يُمْكِنُ رَفْعُهُ بِالْمُقَاسِمَةِ وَمَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ الْقِسْمَةُ يَكُونُ ضَرَرُ الْمُشَارَكَةِ فِيهِ أَشَدَّ . وَظَنُّ مَنْ ظَنَّ أَنَّهَا تَثْبُتُ لِرَفْعِ الْمُقَاسَمَةِ ; لَا لِضَرَرِ الْمُشَارَكَةِ كَلَامٌ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ ; فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . أَنَّهُ إذَا طَلَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْقِسْمَةَ فِيمَا يَقْبَلُهَا وَجَبَتْ إجَابَتُهُ إلَى الْمُقَاسَمَةِ وَلَوْ كَانَ ضَرَرُ الْمُشَارَكَةِ أَقْوَى لَمْ يَرْفَعْ أَدْنَى الضَّرَرَيْنِ بِالْتِزَامِ أَعْلَاهُمَا وَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الدُّخُولَ فِي الشَّيْءِ الْكَثِيرِ لِرَفْعِ الشَّيْءِ الْقَلِيلِ ; فَإِنَّ شَرِيعَةَ اللَّهِ مُنَزَّهَةٌ عَنْ مِثْلِ هَذَا . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : هَذَا يَسْتَلْزِمُ ضَرَرَ الشَّرِيكِ الْبَائِعِ . فَجَوَابُهُ أَنَّهُ إذَا طَلَبَ الْمُقَاسَمَةَ وَلَمْ يُمْكِنْ قِسْمَةُ الْعَيْنِ ; فَإِنَّ الْعَيْنَ تُبَاعُ وَيُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى الْبَيْعِ وَيُقْسَمُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا . وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ . وَذَكَرَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ . وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي غُلَامٍ وَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَ الْغُلَامِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ } فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ حَقَّ الشَّرِيكِ فِي نِصْفِ قِيمَةِ الْجَمِيعِ ; لَا فِي قِيمَةِ نِصْفِ الْجَمِيعِ ; فَإِنَّهُ إذَا بِيعَ الْعَبْدُ كُلُّهُ سَاوَى أَلْفَ دِرْهَمٍ مَثَلًا وَإِذَا بِيعَ نِصْفُهُ سَاوَى أَقَلَّ مِنْ خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَحَقُّ الشَّرِيكِ نِصْفُ الْأَلْفِ . فَهَكَذَا فِي الْعَقَارِ الَّذِي لَا يُقْسَمُ يَسْتَحِقُّ نِصْفَ قِيمَتِهِ جَمِيعِهِ فَيُبَاعُ جَمِيعُ الْعَقَارِ وَيُعْطَى حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ وَبِهَذَا يَرْتَفِعُ عَنْهُ الضَّرَرُ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ كَمَالُ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَمَا فِيهَا مِنْ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ .