مسألة تالية
متن:
فَصْلٌ وَأَمَّا إبْدَالُ الْمَسْجِدِ بِغَيْرِهِ ; لِلْمَصْلَحَةِ مَعَ إمْكَانِ الِانْتِفَاعِ بِالْأَوَّلِ : فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي ذَلِكَ ; لَكِنَّ الْجَوَازَ أَظْهَرُ فِي نُصُوصِهِ وَأَدِلَّتِهِ . وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَيْسَ عَنْهُ بِهِ نَصٌّ صَرِيحٌ ; وَإِنَّمَا تَمَسَّكَ أَصْحَابُهُ بِمَفْهُومِ خَطِّهِ ; فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يُفْتِي بِالْجَوَازِ لِلْحَاجَةِ وَهَذَا قَدْ يَكُونُ تَخْصِيصًا لِلْجَوَازِ بِالْحَاجَةِ وَقَدْ يَكُونُ التَّخْصِيصُ لِكَوْنِ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي سُئِلَ عَنْهُ وَاحْتَاجَ إلَى بَيَانِهِ . وَقَدْ بَسَطَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ ذَلِكَ فِي " الشَّافِي " الَّذِي اُخْتُصِرَ مِنْهُ " زَادُ الْمُسَافِرِ " فَقَالَ : حَدَّثَنَا الْخَلَّالُ ثِنَا صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ ثِنَا أَبِي ثِنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ثِنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ الْقَاسِمِ قَالَ : لَمَّا قَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى بَيْتِ الْمَالِ كَانَ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ قَدْ بَنَى الْقَصْرَ وَاِتَّخَذَ مَسْجِدًا عِنْدَ أَصْحَابِ التَّمْرِ . قَالَ فَنُقِبَ بَيْتُ الْمَالِ فَأَخَذَ الرَّجُلُ الَّذِي نَقَبَهُ فَكَتَبَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَكَتَبَ عُمَرَ : أَنْ لَا تَقْطَعْ الرَّجُلَ وَانْقُلْ الْمَسْجِدَ وَاجْعَلْ بَيْتَ الْمَالِ فِي قِبْلَتِهِ فَإِنَّهُ لَنْ يَزَالَ فِي الْمَسْجِدِ مُصَلٍّ . فَنَقَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ فَخَطَّ لَهُ هَذِهِ الْخُطَّةَ . قَالَ صَالِحٌ . قَالَ أَبِي : يُقَالُ : إنَّ بَيْتَ الْمَالِ نُقِبَ مِنْ مَسْجِدِ الْكُوفَةِ فَحَوَّلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ الْمَسْجِدَ . فَمَوْضِعُ التَّمَارِينِ الْيَوْمَ فِي مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ الْعَتِيقِ . قَالَ : وَسَأَلْت أَبِي عَنْ رَجُلٍ بَنَى مَسْجِدًا ; ثُمَّ أَرَادَ تَحْوِيلَهُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ ؟ قَالَ : إنْ كَانَ الَّذِي بَنَى الْمَسْجِدَ يُرِيدُ أَنْ يُحَوِّلَهُ خَوْفًا مِنْ لُصُوصٍ أَوْ يَكُونُ مَوْضِعُهُ مَوْضِعَ قَذَرٍ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُحَوِّلَهُ . يُقَالُ : إنَّ بَيْتَ الْمَالِ نُقِبَ وَكَانَ فِي الْمَسْجِدِ فَحَوَّلَ ابْنُ مَسْعُودٍ الْمَسْجِدَ . ثِنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ ثِنَا أَبُو يَحْيَى ثِنَا أَبُو طَالِبٍ : سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ هَلْ يُحَوَّلُ الْمَسْجِدُ ؟ قَالَ : إذَا كَانَ ضَيِّقًا لَا يَسْمَعُ أَهْلُهُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُجْعَلَ إلَى مَوْضِعٍ أَوْسَعَ مِنْهُ . ثِنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ ثِنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ : سَأَلْت أَبِي عَنْ مَسْجِدٍ خَرِبَ : تَرَى أَنْ تُبَاعَ أَرْضُهُ وَتُنْفَقَ عَلَى مَسْجِدٍ آخَرَ أَحْدَثُوهُ ؟ قَالَ : إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ جِيرَانٌ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَعْمُرُهُ فَلَا أَرَى بِهِ بَأْسًا أَنْ يُبَاعَ وَيُنْفَقَ عَلَى الْآخَرِ . ثِنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ثِنَا أَبُو داود قَالَ سَمِعْت أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ مَسْجِدٍ فِيهِ خَشَبَتَانِ لَهُمَا قِيمَةٌ وَقَدْ تَشَعَّثَتْ وَخَافُوا سُقُوطَهُ . أَتُبَاعُ هَاتَانِ الْخَشَبَتَانِ وَيُنْفَقُ عَلَى الْمَسْجِدِ وَيُبَدَّلُ مَكَانَهُمَا جِذْعَيْنِ ؟ قَالَ : مَا أَرَى بِهِ بَأْسًا . وَاحْتَجَّ بِدَوَابِّ الْحَبِيسِ الَّتِي لَا يُنْتَفَعُ بِهَا تُبَاعُ وَيُجْعَلُ ثَمَنُهَا فِي الْحَبِيسِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ فِي كَلَامِهِ مَا يُبَيِّنُ جَوَازَ إبْدَالِ الْمَسْجِدِ لِلْمَصْلَحَةِ وَإِنْ أَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِهِ ; لِكَوْنِ النَّفْعِ بِالثَّانِي أَكْمَلَ وَيَعُودُ الْأَوَّلُ طَلْقًا . وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي " زَادِ الْمُسَافِرِ " : قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صالح : نُقِبَ بَيْتُ الْمَالِ بِالْكُوفَةِ وَعَلَى بَيْتِ الْمَالِ ابْنُ مَسْعُودٍ فَكَتَبَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرَ : أَنْ اُنْقُلْ الْمَسْجِدَ وَصَيِّرْ بَيْتَ الْمَالِ فِي قِبْلَتِهِ ; فَإِنَّهُ لَنْ يَخْلُوَ مِنْ مُصَلٍّ فِيهِ . فَنَقَلَهُ سَعْدٌ إلَى مَوْضِعِ التَّمَارِينِ الْيَوْمَ وَصَارَ سُوقُ التَّمَارِينِ فِي مَوْضِعِهِ وَعَمَلُ بَيْتِ الْمَالِ فِي قِبْلَتِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ تُنْقَلَ الْمَسَاجِدُ إذَا خَرِبَتْ . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ : إذَا كَانَ الْمَسْجِدُ يَضِيقُ بِأَهْلِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُحَوَّلَ إلَى مَوْضِعٍ أَوْسَعَ مِنْهُ . جَوَّزَ تَحْوِيلَهُ لِنَقْصِ الِانْتِفَاعِ بِالْأَوَّلِ ; لَا لِتَعَذُّرِهِ . وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى : وَقَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ : يُحَوَّلُ الْمَسْجِدُ خَوْفًا مِنْ لُصُوصٍ وَإِذَا كَانَ مَوْضِعُهُ قَذِرًا . وَبِالثَّانِي قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي داود فِي مَسْجِدٍ أَرَادَ أَهْلُهُ أَنْ يَرْفَعُوهُ مِنْ الْأَرْضِ ; وَيَجْعَلَ تَحْتَهُ سِقَايَةً وَحَوَانِيتَ وَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ ؟ يُنْظَرُ إلَى قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ وَلَا بَأْسَ بِهِ . قَالَ فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ أَجَازَ أَنْ يُجْعَلَ سُفْلُ الْمَسْجِدِ حَوَانِيتَ وَسِقَايَةً . قَالَ : وَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى أَنَّ الْحَاجَةَ دَعَتْ إلَى ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ تَعُودُ بِالْمَسْجِدِ . قَالَ : وَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ - هُوَ ابْنُ حَامِدٍ - يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ ; وَيَتَأَوَّلُ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ قَبْلَ وَقْفِهِ . قَالَ : وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ عَلَى أَصْلِنَا جَوَازُ ذَلِكَ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِأَنَّا نُجِيزُ بَيْعَهُ وَنَقْلَهُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ . قَالَ : وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ فِي مَسْجِدٍ لَيْسَ بِحَصِينِ مِنْ الْكِلَابِ وَغَيْرِهَا وَلَهُ مَنَارَةٌ فَرُخِّصَ فِي نَقْضِهَا وَيُبْنَى بِهَا حَائِطُ الْمَسْجِدِ لِلْمَصْلَحَةِ . وَمَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي " الْفُصُولِ " إلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ فَقَالَ : هَذَا يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الْحَاجَةَ دَعَتْ إلَى ذَلِكَ كَمَا أَنَّ تَغْيِيرَ الْمَسْجِدِ وَنَقْلَهُ مَا جَازَ عِنْدَهُ إلَّا لِلْحَاجَةِ فَيُحْمَلُ هَذَا الْإِطْلَاقُ عَلَى ذَلِكَ ; لَا عَلَى الْمُسْتَقَرِّ . قَالَ : وَالْأَشْبَهُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَسْجِدٍ يُبْتَدَأُ إنْشَاؤُهُ . وَعَلَى هَذَا فَاخْتَلَفُوا كَيْفَ يُبْنَى ؟ فَأَمَّا بَعْدَ كَوْنِهِ مَسْجِدًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ وَلَا أَنْ يُجْعَلَ سِقَايَةً تَحْتَهُ . وَكَذَلِكَ رَجَّحَ أَبُو مُحَمَّدٍ قَوْلَ ابْنِ حَامِدٍ وَقَالَ : هُوَ أَصَحُّ وَأَوْلَى وَإِنْ خَالَفَ الظَّاهِرَ . قَالَ : فَإِنَّ الْمَسْجِدَ لَا يَجُوزُ نَقْلُهُ وَإِبْدَالُهُ وَبَيْعُ سَاحَتِهِ وَجَعْلُهَا سِقَايَةً وَحَوَانِيتَ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الِانْتِفَاعِ وَالْحَاجَةِ إلَى سِقَايَةٍ وَحَوَانِيتَ لَا يُعَطِّلُ نَفْعَ الْمَسْجِدِ فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهُ فِي ذَلِكَ . قَالَ : وَلَوْ جَازَ جَعْلُ أَسْفَلِ الْمَسْجِدِ سِقَايَةً وَحَوَانِيتَ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ لَجَازَ تَخْرِيبُ الْمَسْجِدِ وَجَعْلُهُ سِقَايَةً وَحَوَانِيتَ وَيُجْعَلُ بَدَلَهُ مَسْجِدٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَهَذَا تَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ لِمُخَالَفَةِ نَصِّهِ ; فَإِنَّ نَصَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمَسْجِدَ إذَا أَرَادُوا رَفْعَهُ مِنْ الْأَرْضِ وَأَنْ يُجْعَلَ تَحْتَهُ سِقَايَةٌ وَحَوَانِيتُ وَأَنَّ بَعْضَهُمْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ أَجَابَ بِأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ . وَلَوْ كَانَ هَذَا عِنْدَ ابْتِدَائِهِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ أَنْ يُنَازِعَ فِي بَنِيهِ إذَا كَانَ جَائِزًا وَلَمْ يَنْظُرْ فِي ذَلِكَ إلَى قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ ; فَإِنَّهُمْ إنْ كَانُوا مُشْتَرِكِينَ فِي الْبِنَاءِ لَمْ يُجْبَرْ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ عَلَى مَا يُرِيدُهُ الْآخَرُونَ إذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا وَلَمْ يَبْنِ إلَّا بِاتِّفَاقِهِمْ . وَلِأَنَّ قَوْلَهُ : أَرَادُوا رَفْعَهُ مِنْ الْأَرْضِ وَأَنْ يُجْعَلَ تَحْتَهُ سِقَايَةٌ : بَيِّنٌ فِي أَنَّهُ مُلْصَقٌ بِالْأَرْضِ فَأَرَادُوا رَفْعَهُ وَجَعْلَ سِقَايَةٍ تَحْتَهُ . وَأَحْمَدُ اعْتَبَرَ اخْتِيَارَ الْأَكْثَرِ مِنْ الْمُصَلِّينَ فِي الْمَسْجِدِ ; لِأَنَّ الْوَاجِبَ تَرْجِيحُ أَصْلَحِ الْأَمْرَيْنِ وَمَا اخْتَارَهُ أَكْثَرُهُمْ كَانَ أَنْفَعَ لِلْأَكْثَرِينَ ؟ فَيَكُونُ أَرْجَحَ . وَأَيْضًا فَلَفْظُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ : قَالَ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْأَشْعَثِ : إذَا بَنَى رَجُلٌ مَسْجِدًا فَأَرَادَ غَيْرُهُ أَنْ يَهْدِمَهُ وَيَبْنِيَهُ بِنَاءً أَجْوَدَ مِنْ الْأَوَّلِ فَأَبَى عَلَيْهِ الْبَانِي الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ إلَى قَوْلِ الْجِيرَانِ وَرِضَاهُمْ : إذَا أَحَبُّوا هَدْمَهُ وَبِنَاءَهُ وَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يَرْفَعُوا الْمَسْجِدَ مِنْ الْأَرْضِ وَيُعْمَلَ فِي أَسْفَلِهِ سِقَايَةٌ فَمَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ مَشَايِخُ ضُعَفَاءُ وَقَالُوا : لَا نَقْدِرُ أَنْ نَصْعَدَ : فَإِنَّهُ يُرْفَعُ وَيُجْعَلُ سِقَايَةً وَلَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ بَأْسًا وَيُنْظَرُ إلَى قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ . فَقَدْ نُصَّ عَلَى هَذَا وَتَبْدِيلُ بِنَائِهِ بِأَجْوَدَ وَإِنْ كَرِهَ الْوَاقِفُ الْأَوَّلُ وَعَلَى جَوَازِ رَفْعِهِ وَعَمَلِ سِقَايَةٍ تَحْتَهُ وَإِنْ مَنَعَهُمْ مَشَايِخُ ضُعَفَاءُ إذَا اخْتَارَ ذَلِكَ الْجِيرَانُ وَاعْتَبَرَ أَكْثَرُهُمْ . قَالَ : وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْحَكَمِ : إذَا كَانَ لِلْمَسْجِدِ مَنَارَةٌ وَالْمَسْجِدُ لَيْسَ بِحَصِينِ : فَلَا بَأْسَ أَنْ تُنْقَضَ الْمَنَارَةُ فَتُجْعَلُ فِي حَائِطِ الْمَسْجِدِ لِتَحْصِينِهِ . قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ : وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ لَوْ صَحَّ لَكَانَ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ غَيْرِ هَذَا الْقَوْلِ فَيَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ . وَقَدْ رَجَّحُوا أَحَدَهُمَا . فَكَيْفَ وَهِيَ حُجَجٌ ضَعِيفَةٌ أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : لَا يَجُوزُ النَّقْلُ وَالْإِبْدَالُ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الِانْتِفَاعِ : فَمَمْنُوعٌ وَلَمْ يَذْكُرُوا عَلَى ذَلِكَ حُجَّةً لَا شَرْعِيَّةً وَلَا مَذْهَبِيَّةً . فَلَيْسَ عَنْ الشَّارِعِ وَلَا عَنْ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ هَذَا النَّفْيُ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ ; بَلْ قَدْ دَلَّتْ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَأَقْوَالُ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ : إذَا كَانَ الْمَسْجِدُ يَضِيقُ بِأَهْلِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُحَوَّلَ إلَى مَوْضِعٍ أَوْسَعَ مِنْهُ . وَضِيقُهُ بِأَهْلِهِ لَمْ يُعَطِّلْ نَفْعَهُ ; بَلْ نَفْعُهُ بَاقٍ كَمَا كَانَ ; وَلَكِنْ النَّاسُ زَادُوا وَقَدْ أَمْكَنَ أَنْ يُبْنَى لَهُمْ مَسْجِدٌ آخَرُ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْمَسْجِدِ أَنْ يَسَعَ جَمِيعَ النَّاسِ . وَمَعَ هَذَا جَوَّزَ تَحْوِيلَهُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ ; لِأَنَّ اجْتِمَاعَ النَّاسِ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ أَفْضَلُ مِنْ تَفْرِيقِهِمْ فِي مَسْجِدَيْنِ ; لِأَنَّ الْجَمْعَ كُلَّمَا كَثُرَ كَانَ أَفْضَلَ ; لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { صَلَاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ وَصَلَاتُهُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ الرَّجُلِ وَمَا كَانَ أَكْثَرَ فَهُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى } " رَوَاهُ أَبُو داود وَغَيْرُهُ . وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ بِنَاءُ مَسْجِدٍ آخَرَ إذَا كَثُرَ النَّاسُ وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مَعَ مَنْعِهِ لِبِنَاءِ مَسْجِدٍ ضِرَارًا . قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ : لَا يُبْنَى مَسْجِدٌ يُرَادُ بِهِ الضِّرَارُ لِمَسْجِدِ إلَى جَانِبِهِ فَإِنْ كَثُرَ النَّاسُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُبْنَى وَإِنْ قَرُبَ . فَمَعَ تَجْوِيزِهِ بِنَاءَ مَسْجِدٍ آخَرَ عِنْدَ كَثْرَةِ النَّاسِ وَإِنْ قَرُبَ أَجَازَ تَحْوِيلَ الْمَسْجِدِ إذَا ضَاقَ بِأَهْلِهِ إلَى أَوْسَعَ مِنْهُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْلَحُ وَأَنْفَعُ ; لَا لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ ; وَلِأَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ : عُمَرَ وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - غَيَّرَا مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِنَقْلِ مَسْجِدِ الْكُوفَةِ إلَى مَكَانٍ آخَرَ وَصَارَ الْأَوَّلُ سُوقَ التَّمَارِينِ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ ; لَا لِأَجْلِ تَعَطُّلِ مَنْفَعَةِ تِلْكَ الْمَسَاجِدِ ; فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَطَّلْ نَفْعُهَا ; بَلْ مَا زَالَ بَاقِيًا . وَكَذَلِكَ خُلَفَاءُ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُمْ : كَالْوَلِيدِ وَالْمَنْصُورِ وَالْمُهْدِي : فَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ بِمَسْجِدَيْ الْحَرَمَيْنِ وَفَعَلَ ذَلِكَ الوليد بِمَسْجِدِ دِمَشْقَ وَغَيْرِهَا مَعَ مَشُورَةِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ وَإِقْرَارِهِمْ حَتَّى أَفْتَى مَالِكٍ وَغَيْرُهُ بِأَنْ يُشْتَرَى الْوَقْفُ الْمُجَاوِرُ لِلْمَسْجِدِ وَيُعَوَّضُ أَهْلُهُ عَنْهُ . فَجَوَّزُوا بَيْعَ الْوَقْفِ وَالتَّعْوِيضَ عَنْهُ لِمَصْلَحَةِ الْمَسْجِدِ ; لَا لِمَصْلَحَةِ أَهْلِهِ . فَإِذَا بِيعَ وَعُوِّضَ عَنْهُ لِمَصْلَحَةِ أَهْلِهِ كَانَ أَوْلَى بِالْجِوَارِ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : لَوْ جَازَ جَعْلُ أَسْفَلِ الْمَسْجِدِ سِقَايَةً وَحَوَانِيتَ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ لَجَازَ تَخْرِيبُ الْمَسْجِدِ وَجَعْلُهُ سِقَايَةً وَحَوَانِيتَ وَيُجْعَلُ بَدَلَهُ مَسْجِدٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . قِيلَ نَقُولُ بِمُوجَبِ ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَحْمَدُ وَرَوَاهُ عَنْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلَيْهِ بَنَى مَذْهَبَهُ . فَإِنَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ خَرَّبَ الْمَسْجِدَ الْأَوَّلَ - مَسْجِدَ الْجَامِعِ الَّذِي كَانَ لِأَهْلِ الْكُوفَةِ - وَجَعَلَ بَدَلَهُ مَسْجِدًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْمَدِينَةِ وَصَارَ مَوْضِعُ الْمَسْجِدِ الْأَوَّلِ سُوقَ التَّمَارِينِ . فَهَذِهِ الصُّورَةُ الَّتِي جَعَلُوهَا نَقْضًا فِي الْمُعَارَضَةِ وَأَصْلًا فِي قِيَاسِهِمْ هِيَ الصُّورَةُ الَّتِي نَقَلَهَا أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَبِهَا احْتَجَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ وَقَالَ أَصْحَابُ أَحْمَدَ : هَذَا يَقْتَضِي إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَيْهَا . فَقَالُوا - وَهَذَا لَفْظُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْمُفْرَدَاتِ فِي مَسْأَلَةِ إبْدَالِ الْمَسْجِدِ - وَأَيْضًا رَوَى يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ : ثِنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ الْقَاسِمِ قَالَ : لَمَّا قَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ كَانَ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ قَدْ بَنَى الْقَصْرَ وَاِتَّخَذَ مَسْجِدًا عِنْدَ أَصْحَابِ التَّمْرِ فَنُقِبَ بَيْتُ الْمَالِ وَأُخِذَ الرَّجُلُ الَّذِي نَقَبَهُ فَكَتَبَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَتَبَ عُمَرَ : لَا تَقْطَعْ الرَّجُلَ وَانْقُلْ الْمَسْجِدَ وَاجْعَلْ بَيْتَ الْمَالِ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ ; فَإِنَّهُ لَنْ يَزَالَ فِي الْمَسْجِدِ مُصَلٍّ . فَنَقَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ فَخَطَّ لَهُ هَذِهِ الْخُطَّةَ . قَالَ أَحْمَدُ : يُقَالُ إنَّ بَيْتَ الْمَالِ نُقِبَ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ فَحَوَّلَ عَبْدُ اللَّهِ الْمَسْجِدَ وَمَوْضِعُ التَّمَارِينِ الْيَوْمَ فِي مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ الْعَتِيقِ . قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : وَهَذَا كَانَ مَعَ تَوَفُّرِ الصَّحَابَةِ : فَهُوَ كَالْإِجْمَاعِ إذَا لَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِمْ لَا يَسْكُتُونَ عَنْ إنْكَارِ مَا يَعُدُّونَهُ خَطَأً ; لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا عَلَى عُمَرَ النَّهْيَ عَنْ المغالات فِي الصَّدُقَاتِ حَتَّى رَدَّتْ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ وَرَدُّوهُ عَنْ أَنْ يَحُدَّ الْحَامِلَ فَقَالُوا : إنْ جَعَلَ اللَّهُ لَك عَلَى ظَهْرِهَا سَبِيلًا فَمَا جَعَلَ لَك عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا سَبِيلًا . وَأَنْكَرُوا عَلَى عُثْمَانَ فِي إتْمَامِ الصَّلَاةِ فِي الْحَجِّ حَتَّى قَالَ : إنِّي دَخَلْت بَلَدًا فِيهِ أَهْلِي . وَعَارَضُوا عَلِيًّا حِينَ رَأَى بَيْعَ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فَلَوْ كَانَ نَقْلُ الْمَسْجِدِ مُنْكَرًا لَكَانَ أَحَقَّ بِالْإِنْكَارِ ; لِأَنَّهُ أَمْرٌ ظَاهِرٌ فِيهِ شَنَاعَةٌ . وَاحْتَجَّ أَيْضًا بِمَا رَوَى أَبُو حَفْصٍ فِي الْمَنَاسِكِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ قِيلَ لَهَا : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ كُسْوَةَ الْكَعْبَةِ قَدْ يُدَاوَلُ عَلَيْهَا ؟ فَقَالَتْ : تُبَاعُ وَيُجْعَلُ ثَمَنُهَا فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ . فَأَمَرَتْ عَائِشَةُ بِبَيْعِ كُسْوَةِ الْكَعْبَةِ مَعَ أَنَّهَا وَقْفٌ وَصَرْفِ ثَمَنِهَا فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ . لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ : وَهَكَذَا قَالَ مَنْ رَجَّحَ قَوْلَ ابْنِ حَامِدٍ فِي وَقْفِ الِاسْتِغْلَالِ كَأَبِي مُحَمَّدٍ : قَالَ : وَإِنْ لَمْ تَتَعَطَّلْ مَنْفَعَةُ الْوَقْفِ بِالْكُلِّيَّةِ ; لَكِنْ قُلْت أَوْ كَانَ غَيْرُهُ أَنْفَعَ مِنْهُ وَأَكْثَرَ رَدًّا عَلَى أَهْلِ الْوَقْفِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ تَحْرِيمُ الْبَيْعِ ; وَإِنَّمَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ صِيَانَةً لِمَقْصُودِ الْوَقْفِ عَنْ الضَّيَاعِ مَعَ إمْكَانِ تَحْصِيلِهِ وَمَعَ الِانْتِفَاعِ بِهِ . وَإِنْ قُلْنَا يَضِيعُ الْمَقْصُودُ . اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ مِنْ قِلَّةِ النَّفْعِ إلَى حَدٍّ لَا يُعَدُّ نَفْعًا فَيَكُونُ وُجُودُ ذَلِكَ كَالْعَدَمِ . فَيُقَالُ : مَا ذَكَرُوهُ مَمْنُوعٌ . وَلَمْ يَذْكُرُوا عَلَيْهِ دَلِيلًا شَرْعِيًّا وَلَا مَذْهَبِيًّا وَإِنْ ذَكَرُوا شَيْئًا مِنْ مَفْهُومِ كَلَامِ أَحْمَدَ أَوْ مَنْطُوقِهِ : فَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ رِوَايَةً عَنْهُ قَدْ عَارَضَهَا رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْهُ هِيَ أَشْبَهُ بِنُصُوصِهِ وَأُصُولِهِ وَإِذَا ثَبَتَ فِي نُصُوصِهِ وَأُصُولِهِ - جَوَازُ إبْدَالِ الْمَسْجِدِ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ فَغَيْرُهُ أَوْلَى . وَقَدْ نَصَّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ غَيْرِهِ أَيْضًا لِلْمَصْلَحَةِ ; لَا لِلضَّرُورَةِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَأَيْضًا فَيُقَالُ لَهُمْ : لَا ضَرُورَةَ إلَى بَيْعِ الْوَقْفِ ; وَإِنَّمَا يُبَاعُ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ وَلِحَاجَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ إلَى كَمَالِ الْمَنْفَعَةِ ; لَا لِضَرُورَةِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ ; فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِكَمَالِ الْمَنْفَعَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُضْطَرِّينَ وَلَوْ كَانَ بَيْعُهُ لَا يَجُوزُ - - لِأَنَّهُ حَرَامٌ - لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لِضَرُورَةِ وَلَا غَيْرِهَا كَمَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْحُرِّ الْمُعْتَقِ وَلَوْ اُضْطُرَّ سَيِّدُهُ الْمُعْتِقُ إلَى ثَمَنِهِ ; وَغَايَتُهُ أَنْ يَتَعَطَّلَ نَفْعُهُ فَيَكُونُ كَمَا لَوْ كَانَ حَيَوَانًا فَمَاتَ . ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ : بَيْعُهُ فِي عَامَّةِ الْمَوَاضِعِ لَمْ يَكُنْ إلَّا مَعَ قِلَّةِ نَفْعِهِ ; لَا مَعَ تَعَطُّلِ نَفْعِهِ بِالْكُلِّيَّةِ ; فَإِنَّهُ لَوْ تَعَطَّلَ نَفْعُهُ بِالْكُلِّيَّةِ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ أَحَدٌ ; لَا الْمُشْتَرِي وَلَا غَيْرُهُ . وَبَيْعُ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لَا يَجُوزُ أَيْضًا . فَغَايَتُهُ أَنْ يُخَرَّبَ وَيَصِيرَ عَرْصَةً وَهَذِهِ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا بِالْإِجَارَةِ بِأَنْ تُكْرَى لِمَنْ يَعْمُرُهَا . وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيه النَّاسُ " الْحِكْرُ " وَيُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ يَسْتَسْلِفَ مَا يَعْمُرُ بِهِ وَيُوَفِّي مِنْ كَرْيِ الْوَقْفِ . وَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَبَرَّعَ مُتَبَرِّعٌ بِالْقَرْضِ ; وَلَكِنْ هَذَا لَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ وَالثَّانِي أَنْ يُؤَجِّرَ إجَارَةً غَيْرَ مَوْصُوفَةٍ فِي الذِّمَّةِ وَتُؤْخَذُ الْأُجْرَةُ فَيَعْمُرُ بِهَا ; لِيَسْتَوْفِيَ الْمُسْتَأْجِرُ الْمُقَابَلَةَ لِلْأُجْرَةِ . وَهَذَانِ طَرِيقَانِ يَكُونَانِ لِلنَّاسِ إذَا خَرِبَ الْوَقْفُ : تَارَةً يُؤَجِّرُونَ الْأَرْضَ وَتَبْقَى حِكْرًا . وَتَارَةً يستسلفون مِنْ الْأُجْرَةِ مَا يَعْمُرُونَ بِهِ وَتَكُونُ تِلْكَ الْأُجْرَةُ أَقَلَّ مِنْهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ سَلَفًا . وَعَامَّةُ مَا يَخْرَبُ مِنْ الْوَقْفِ يُمْكِنُ فِيهِ هَذَا . وَمَعَ هَذَا فَقَدْ جَوَّزُوا بَيْعَهُ وَالتَّعْوِيضَ بِثَمَنِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْلَحُ لِأَهْلِ الْوَقْفِ ; لَا لِلضَّرُورَةِ وَلَا لِتَعَطُّلِ الِانْتِفَاعِ بِالْكُلِّيَّةِ ; فَإِنَّ هَذَا لَا يَكَادُ يَنْفَعُ وَمَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ لَا يَشْتَرِيه أَحَدٌ ; لَكِنْ قَدْ يَتَعَذَّرُ أَلَّا يَحْصُلَ مُسْتَأْجِرٌ وَيَحْصُلَ مُشْتَرٍ ; وَلَكِنْ جَوَازُ بَيْعِ الْوَقْفِ إذَا خَرِبَ لَيْسَ مَشْرُوطًا بِأَلَّا يُوجَدَ مُسْتَأْجِرٌ بَلْ يُبَاعُ وَيُعَوَّضُ عَنْهُ إذَا كَانَ ذَلِكَ أَصْلَحَ مِنْ الْإِيجَارِ ; فَإِنَّهُ إذَا أُكْرِيَتْ الْأَرْضُ مُجَرَّدَةً كَانَ كِرَاؤُهَا قَلِيلًا . وَكَذَلِكَ إذَا اُسْتُسْلِفَتْ الْأُجْرَةُ لِلْعِمَارَةِ قُلْت الْمَنْفَعَةُ فَإِنَّهُمْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهَا مُدَّةَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ الْمُقَابَلَةِ لِمَا عَمَرَ بِهِ ; وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُونَ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ ; وَلَكِنَّ الْأُجْرَةَ الْمُسَلَّفَةَ تَكُونُ قَلِيلَةً فَفِي هَذَا قُلْت مَنْفَعَةُ الْوَقْفِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُسَوَّغَ لِلْبَيْعِ وَالتَّعْوِيضِ نَقْصُ الْمَنْفَعَةِ ; لِكَوْنِ الْعِوَضِ أَصْلَحَ وَأَنْفَعَ ; لَيْسَ الْمُسَوَّغُ تَعْطِيلَ النَّفْعِ بِالْكُلِّيَّةِ . وَلَوْ قُدِّرَ التَّعْطِيلُ لِيَكُنْ ذَلِكَ مِنْ الضَّرُورَاتِ الَّتِي تُبِيحُ الْمُحَرَّمَاتِ وَكُلَّمَا جَوَّزَ لِلْحَاجَةِ لَا لِلضَّرُورَةِ كَتَحَلِّي النِّسَاءِ بِالذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ وَالتَّدَاوِي بِالذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ فَإِنَّمَا أُبِيحَ لِكَمَالِ الِانْتِفَاعِ ; لَا لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ الَّتِي تُبِيحُ الْمَيْتَةَ وَنَحْوَهَا ; وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ فِي هَذَا تَكْمِيلُ الِانْتِفَاعِ ; فَإِنَّ الْمَنْفَعَةَ النَّاقِصَةَ يَحْصُلُ مَعَهَا عَوَزٌ يَدْعُوهَا إلَى كَمَالِهَا . فَهَذِهِ هِيَ الْحَاجَةُ فِي مِثْلِ هَذَا . وَأَمَّا الضَّرُورَةُ الَّتِي يَحْصُلُ بِعَدَمِهَا حُصُولُ مَوْتٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ الْعَجْزُ عَنْ الْوَاجِبَاتِ كَالضَّرُورَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ فَتِلْكَ الضَّرُورَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ لَا تُعْتَبَرُ فِي مِثْلِ هَذَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَلِهَذَا جَوَّزَ طَائِفَةٌ مِنْ الْأَصْحَابِ هَذَا الْمَوْضِعَ ; بَيَّنُوا أَنَّهُ عِنْدَ التَّعْطِيلِ بِالْكُلِّيَّةِ يَنْتَهِي الْوَقْفُ ; وَإِنَّمَا الْكَلَامُ إذَا بَقِيَ مِنْهُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ تيمية قَالَ فِي " تَرْغِيبِ الْقَاصِدِ " : الْحُكْمُ الْخَامِسُ إذَا تَعَطَّلَ الْوَقْفُ فَلَهُ أَحْوَالٌ أَحَدُهَا أَنْ يَنْعَدِمَ بِالْكُلِّيَّةِ ; كَالْفَرَسِ إذَا مَاتَ فَقَدْ انْتَهَتْ الوقفية . الثَّانِيَة : أَنْ يَبْقَى مِنْهُ بَقِيَّةٌ مُتَمَوِّلَةٌ : كَالشَّجَرَةِ إذَا عَطِبَتْ وَالْفَرَسِ إذَا أَعْجَفَ وَالْمَسْجِدِ إذَا خَرِبَ فَإِنَّ ذَلِكَ يُبَاعُ وَيُصْرَفُ فِي تَحْصِيلِ مِثْلِهِ أَوْ فِي شَقِيصٍ مِنْ مَثَلِهِ . الثَّالِثَةُ حُصْرُ الْمَسْجِدِ إذَا بَلِيَتْ وَجُذُوعُهُ إذَا تَكَسَّرَتْ وَتَحَطَّمَتْ فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ وَكَذَلِكَ إذَا أَشْرَفَتْ جُذُوعُهُ عَلَى التَّكْسِيرِ أَوْ دَارِهِ عَلَى الِانْهِدَامِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ لَخَرَجَ عَنْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ فَإِنَّهُ يُبَاعُ . قَالَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي رِوَايَةِ أَبِي داود : إذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ خَشَبَاتٌ لَهَا قِيمَةٌ وَقَدْ تَشَعَّثَتْ جَازَ بَيْعُهَا وَصَرْفُ ثَمَنِهَا عَلَيْهِ . الرَّابِعَةُ إذَا خَرِبَ الْمَسْجِدُ وَآلَتُهُ تَصْلُحُ لِمَسْجِدِ آخَرَ يَحْتَاجُ إلَى مِثْلِهَا فَإِنَّهَا تُحَوَّلُ إلَيْهِ وَأَمَّا الْأَرْضُ فَتُبَاعُ هَذَا إذَا لَمْ يُمْكِنْ عِمَارَتُهُ بِثَمَنِ بَعْضِ آلَتِهِ وَإِلَّا بِيعَ ذَلِكَ وَعُمِرَ بِهِ . نَصَّ عَلَيْهِ . الْخَامِسَةُ إذَا ضَاقَ الْمَسْجِدُ بِأَهْلِهِ أَوْ تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ لِخَرَابِ الْمَحَلَّةِ فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ فِي إنْشَاءِ مَسْجِدٍ آخَرَ ; أَوْ فِي شِقْصٍ فِي مَسْجِدٍ . فَقَدْ بَيَّنَ مَنْ قَالَ هَذَا : أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ بَيْعُهُ مَعَ تَعَطُّلِ الْمَنْفَعَةِ بِالْكُلِّيَّةِ ; بَلْ إذَا أَبْقَى مِنْهُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَحِينَئِذٍ فَالْمَقْصُودُ التَّعْوِيضُ عَنْهُ بِمَا هُوَ أَنْفَعُ لِأَهْلِ الْوَقْفِ مِنْهُ ; وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدٌ مِنْ الْأَصْحَابِ . تَعَذُّرَ إجَارَةِ الْعَرْصَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ يُمْكِنُ إجَارَةُ الْعَرْصَةِ ; لَكِنْ يَحْصُلُ لِأَهْلِ الْوَقْفِ مِنْهَا أَقَلُّ مِمَّا كَانَ يَحْصُلُ لَوْ كَانَ مَعْمُورًا وَإِذَا بِيعَتْ فَقَدْ يُشْتَرَى بِثَمَنِهَا مَا تَكُونُ أُجْرَتُهُ أَنْفَعَ لَهُمْ ; لِأَنَّ الْعَرْصَةَ يَشْتَرِيهَا مَنْ يَعْمُرَهَا لِنَفْسِهِ فَيَنْتَفِعُ بِهَا مِلْكًا وَيَرْغَبُ فِيهَا لِذَلِكَ وَيَشْتَرِي بِثَمَنِهَا مَا تَكُونُ غَلَّتُهُ أَنْفَعَ مِنْ غَلَّةِ الْعَرْصَةِ . فَهَذَا مَحَلُّ الْجَوَازِ الَّذِي اتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَيْهِ . وَحَقِيقَتُهُ تَعُودُ إلَى أَنَّهُمْ عَوَّضُوا أَهْلَ الْوَقْفِ عَنْهُ بِمَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُمْ مِنْهُ فَإِنْ قِيلَ : فَلَفْظُ الخرقي : وَإِذَا خَرِبَ الْوَقْفُ وَلَمْ يَرُدَّ شَيْئًا وَاشْتَرَى بِثَمَنِهِ مَا يَرُدُّ عَلَى أَهْلِ الْوَقْفِ . قِيلَ : هَذَا اللَّفْظُ إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا مِمَّا كَانَ يَرُدُّهُ لِمَا كَانَ مَعْمُورًا : مِثْلَ دُورٍ وَحَوَانِيتَ خَرِبَتْ فَإِنَّهَا لَوْ تَشَعَّثَتْ رَدَّتْ بَعْضَ مَا كَانَتْ تَرُدُّهُ مَعَ كَمَالِ الْعِمَارَةِ ; بِخِلَافِ مَا إذَا خَرِبَتْ بِالْكُلِّيَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَرُدُّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ . وَأَمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ : لَا تَرُدُّ شَيْئًا . لِتَعْطِيلِ نَفْعِهِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ . فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ هُوَ الْأَوَّلَ وَهُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي يَلِيقُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ كَلَامُهُ - فَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا قُلْنَاهُ ; وَلِهَذَا قَالَ بَيْعُ . وَلَوْ تَعَطَّلَ نَفْعُهُ مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ . وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَنَّهُ تَعَطَّلَ عَلَى أَهْلِ الْوَقْفِ انْتِفَاعُهُمْ بِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ; لِتَعَذُّرِ إجَارَةِ الْعَرْصَةِ مَعَ إمْكَانِ انْتِفَاعِ غَيْرِهِمْ بِهَا ; كَمَا قَالَ أَحْمَدُ فِي الْعَبْدِ ; فَإِنْ أَرَادَ هَذِهِ الصُّورَةَ كَانَ مَنْطُوقُ كَلَامِهِ مُوَافِقًا لِمَا تَقَدَّمَ ; وَلَكِنَّ مَفْهُومَهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا أَمْكَنَ أَهْلُ الْوَقْفِ أَنْ يُؤَجِّرُوهُ بِأَقَلِّ أُجْرَةٍ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ . وَهَذَا غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا فِي الْمَذْهَبِ ; لَكِنَّ نُصُوصَ أَحْمَدَ تُخَالِفُ ذَلِكَ فِي بَيْعِ الْمَسْجِدِ وَالْفَرَسِ الْحَبِيسِ وَغَيْرِهِمَا ; كَمَا قَدْ ذَكَرَ الْمَسْجِدَ . وَأَمَّا الْفَرَسُ الْحَبِيسُ إذَا عَطِبَ فَإِنَّ الَّذِي يَشْتَرِيه قَدْ يَشْتَرِيه لِيَرْكَبَهُ أَوْ يُدِيرَهُ فِي الرَّحَى وَيُمْكِنُ أَهْلُ الْجِهَادِ أَنْ يَنْتَفِعُوا بِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ : مِثْلَ الْحَمْلِ عَلَيْهِ وَاسْتِعْمَالِهِ فِي الرَّحَى وَإِجَارَتِهِ وَانْتِفَاعِهِمْ بِأُجْرَتِهِ ; وَلَكِنْ الْمَنْفَعَةُ الْمَقْصُودَةُ لِحَبْسِهِ وَهِيَ الْجِهَادُ عَلَيْهِ تَعَطَّلَتْ وَلَمْ يَتَعَطَّلْ انْتِفَاعُهُمْ بِهِ بِكُلِّ وَجْهٍ .