وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ بِنْتٍ يَتِيمَةٍ لَيْسَ لَهَا أَبٌ ; وَلَا لَهَا وَلِيٌّ إلَّا أَخُوهَا وَسِنُّهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً وَلَمْ تَبْلُغْ الْحُلُمَ ; وَقَدْ عَقَدَ عَلَيْهَا أَخُوهَا بِإِذْنِهَا : فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ : هَذَا الْعَقْدُ صَحِيحٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد الْمَنْصُوصِ عَنْهُ فِي أَكْثَرِ أَجْوِبَتِهِ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا . لَكِنَّ أَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ يَقُولُ : إذَا زُوِّجَتْ بِإِذْنِهَا وَإِذْنِ أَخِيهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَتْ . وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ يَقُولُ : تُزَوَّجُ بِلَا إذْنِهَا وَلَهَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَتْ . وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَيْضًا . ثُمَّ عَنْهُ رِوَايَةٌ : إنْ دَعَتْ حَاجَةٌ إلَى نِكَاحِهَا وَمِثْلُهَا يُوطَأُ جَازَ . وَقِيلَ : تُزَوَّجُ وَلَهَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَتْ . وَقَالَ ابْنُ بَشِيرٍ : اتَّفَقَ الْمُتَأَخِّرُونَ أَنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُهَا إذَا خِيفَ عَلَيْهَا الْفَسَادُ . وَالْقَوْلُ " الثَّالِثُ " وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : أَنَّهَا لَا تُزَوَّجُ حَتَّى تَبْلُغَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَبٌ وَجَدٌّ . قَالُوا : لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا وَلِيٌّ يَجْبُرُ وَفِي نَفْسِهَا لَا إذْنَ لَهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ ; فَتَعَذَّرَ تَزْوِيجُهَا بِإِذْنِهَا وَإِذْنِ وَلَيِّهَا . و " الْقَوْلُ الْأَوَّلُ " أَصَحُّ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالِاعْتِبَارِ ; فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِين مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا } وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْيَتِيمَةِ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلَيِّهَا فَإِنْ كَانَ لَهَا مَالٌ وَجَمَالٌ تَزَوَّجَهَا وَلَمْ يُقْسِطْ فِي صَدَاقِهَا ; فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَالٌ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا فَنُهِيَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا حَتَّى يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِ عَنْ نِكَاحِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَالٌ . وَقَوْلُهُ : { قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ } يُفْتِيكُمْ وَنُفْتِيكُمْ فِي الْمُسْتَضْعَفِينَ . فَقَدْ أَخْبَرَتْ عَائِشَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ : أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْيَتِيمَةِ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلَيِّهَا وَأَنَّ اللَّهَ أَذِنَ لَهُ فِي تَزْوِيجِهَا إذَا أَقْسَطَ فِي صَدَاقِهَا وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهَا فِي حِجْرِهِ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا مَحْجُورٌ عَلَيْهَا . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُنْكَحُ الْيَتِيمَةُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ فَإِنْ سَكَتَتْ فَقَدْ أَذِنَتْ وَإِنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ عَلَيْهَا } فَيَجُوزُ تَزْوِيجُهَا بِإِذْنِهَا وَمَنْعُهُ بِدُونِ إذْنِهَا . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ } وَلَوْ أُرِيدُ " بِالْيَتِيمِ " مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ : فَبِطَرِيقِ الْمَجَازِ ; فَلَا بُدَّ أَنْ يَعُمَّ مَا قَبْلَ الْبُلُوغِ وَمَا بَعْدَهُ . أَمَّا تَخْصِيصُ لَفْظِ " الْيَتِيمِ " بِمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ فَلَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ بِحَالِ ; وَلِأَنَّ الصَّغِيرَ الْمُمَيِّزَ يَصِحُّ لَفْظُهُ مَعَ إذْنِ وَلِيِّهِ كَمَا يَصِحُّ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ وَكَمَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ : عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ : { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ } الْآيَةَ . فَأَمَرَ بِالِابْتِلَاءِ قَبْلَ الْبُلُوغِ ; وَذَلِكَ قَدْ لَا يَأْتِي إلَّا بِالْبَيْعِ - وَلَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ وَتَدْبِيرُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ - وَكَذَلِكَ إسْلَامُهُ ; كَمَا يَصِحُّ صَوْمُهُ وَصَلَاتُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ . فَإِذَا زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ بِإِذْنِهَا مِنْ كُفُؤٍ جَازَ وَكَانَ هَذَا تَصَرُّفًا بِإِذْنِهَا وَهُوَ مَصْلَحَةٌ لَهَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ مُصَحِّحٌ لِتَصَرُّفِ الْمُمَيِّزِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .