وَسُئِلَ   رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى  عَنْ "   الْخُلْعِ " : هَلْ هُوَ طَلَاقٌ مَحْسُوبٌ  مِنْ الثَّلَاثِ ؟ وَهَلْ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ  وَنِيَّتِهِ ؟ 
				
				
				 فَأَجَابَ   رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى  هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ  فِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فَظَاهِرُ مَذْهَبِ  الْإِمَامِ  أَحْمَدَ  وَأَصْحَابِهِ  أَنَّهُ فُرْقَةٌ  بَائِنَةٌ وَفَسْخٌ لِلنِّكَاحِ ; وَلَيْسَ  مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ .  فَلَوْ خَلَعَهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ  كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِعَقْدِ جَدِيدٍ قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ  وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ  الشَّافِعِيِّ  . وَاخْتَارَهُ  طَائِفَةٌ  مِنْ أَصْحَابِهِ وَنَصَرُوهُ ;  وَطَائِفَةٌ نَصَرُوهُ وَلَمْ يَخْتَارُوهُ ;  وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ :  كَإِسْحَاقِ بْنِ راهويه  وَأَبِي ثَوْرٍ  وداود  وَابْنِ الْمُنْذِرِ  وَابْنِ خزيمة  . وَهُوَ ثَابِتٌ عَنْ  ابْنِ عَبَّاسٍ  وَأَصْحَابِهِ :  كطاوس  وَعِكْرِمَةَ  . و " الْقَوْلُ الثَّانِي " :  أَنَّهُ طَلَاقٌ  بَائِنٌ مَحْسُوبٌ  مِنْ الثَّلَاثِ . وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ  مِنْ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ  أَبِي حَنِيفَةَ  وَمَالِكٍ  وَالشَّافِعِيِّ  فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ ;  وَيُقَالُ : إنَّهُ الْجَدِيدُ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ  أَحْمَدَ  . وَيُنْقَلُ  ذَلِكَ عَنْ  عُمَرَ  وَعُثْمَانَ  وَعَلِيٍّ  وَابْنِ مَسْعُودٍ  لَكِنْ ضَعَّفَ  أَحْمَدَ  وَغَيْرُهُ  مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ :  كَابْنِ الْمُنْذِرِ  وَابْنِ خزيمة  والبيهقي  وَغَيْرِهِمْ : النَّقْلَ عَنْ هَؤُلَاءِ ; وَلَمْ يُصَحِّحُوا إلَّا قَوْلَ  ابْنِ عَبَّاسٍ  ; إنَّهُ فَسْخٌ : وَلَيْسَ بِطَلَاقِ .  وَأَمَّا  الشَّافِعِيُّ  وَغَيْرُهُ  فَقَالَ لَا نَعْرِفُ  حَالَ مَنْ رَوَى  هَذَا عَنْ  عُثْمَانَ  : هَلْ هُوَ ثِقَةٌ أَمْ لَيْسَ بِثِقَةِ ؟  فَمَا صَحَّحُوا مَا نُقِلَ عَنْ   الصَّحَابَةِ  ; بَلْ اعْتَرَفُوا  أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ صِحَّتَهُ  وَمَا عَلِمْت  أَحَدًا  مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالنَّقْلِ صَحَّحَ مَا نُقِلَ عَنْ   الصَّحَابَةِ  مِنْ  أَنَّهُ طَلَاقٌ  بَائِنٌ مَحْسُوبٌ  مِنْ الثَّلَاثِ ; بَلْ أَثْبَتُ مَا  فِي  هَذَا عِنْدَهُمْ مَا نُقِلَ   عَنْ  عُثْمَانَ  وَقَدْ نُقِلَ عَنْ  عُثْمَانَ  بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ  أَنَّهُ  أَمَرَ الْمُخْتَلَعَةَ أَنْ تَسْتَبْرِئَ بِحَيْضَةِ .  وَقَالَ : لَا عَلَيْك عِدَّةٌ  .  وَهَذَا يُوجِبُ  أَنَّهُ عِنْدَهُ فُرْقَةٌ  بَائِنَةٌ ; وَلَيْسَ بِطَلَاقِ ;  إذْ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ يُوجِبُ الِاعْتِدَادَ بِثَلَاثِ قُرُوءٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ  بِخِلَافِ الْخُلْعِ ; فَإِنَّهُ قَدْ  ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَآثَارِ   الصَّحَابَةِ  أَنَّ   الْعِدَّةَ  فِيهَا  اسْتِبْرَاءٌ بِحَيْضَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ  إسْحَاقَ  وَابْنِ الْمُنْذِرِ  وَغَيْرِهِمَا وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ  أَحْمَدَ  .   وَقَدْ  رَدَّ  ابْنُ عَبَّاسٍ  امْرَأَةً  عَلَى زَوْجِهَا بَعْدَ طَلْقَتَيْنِ وَخَلَعَ مَرَّةً قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَسَأَلَهُ  إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ بْنِ  أَبِي وَقَّاصٍ  لَمَّا وَلَّاهُ  الزُّبَيْرُ  عَلَى الْيَمَنِ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ  وَقَالَ لَهُ : إنَّ عَامَّةَ طَلَاقِ   أَهْلِ   الْيَمَنِ  هُوَ الْفِدَاءُ ؟  فَأَجَابَهُ  ابْنُ عَبَّاسٍ  بِأَنَّ الْفِدَاءَ لَيْسَ بِطَلَاقِ ;  وَلَكِنَّ النَّاسَ غَلِطُوا  فِي اسْمِهِ .  وَاسْتَدَلَّ  ابْنُ عَبَّاسٍ  بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى  قَالَ :   {   الطَّلَاقُ  مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ  يَخَافَا  أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ  فَإِنْ  خِفْتُمْ  أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ  فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ  بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ  فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ   }   {  فَإِنْ طَلَّقَهَا  فَلَا تَحِلُّ لَهُ  مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ   }  قَالَ  ابْنُ عَبَّاسٍ  . فَقَدْ  ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْفِدْيَةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ مَرَّتَيْنِ  ثُمَّ  قَالَ : {  فَإِنْ طَلَّقَهَا  فَلَا تَحِلُّ لَهُ  مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ   }  وَهَذَا يَدْخُلُ  فِي الْفِدْيَةِ خُصُوصًا وَغَيْرِهَا عُمُومًا فَلَوْ  كَانَتْ الْفِدْيَةُ طَلَاقًا  لَكَانَ الطَّلَاقُ أَرْبَعًا .  وَأَحْمَدُ  فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ هُوَ وَمَنْ تَقَدَّمَ اتَّبَعُوا  ابْنَ عَبَّاسٍ  .  وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ  فِي "   الْمُخْتَلَعَةِ " هَلْ عَلَيْهَا عِدَّةُ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ ؟ أَوْ تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةِ ؟  عَلَى قَوْلَيْنِ : هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ  أَحْمَدَ   إحْدَاهُمَا  تَسْتَبْرِئُ بِحَيْضَةِ  وَهَذَا قَوْلُ  عُثْمَانَ  وَابْنِ عَبَّاسٍ  ;  وَابْنِ عُمَرَ  فِي آخِرِ رِوَايَتَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ  مِنْ السَّلَفِ ; وَمَذْهَبُ  إسْحَاقَ  وَابْنِ الْمُنْذِرِ  وَغَيْرِهِمَا وَرُوِيَ  ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ   صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السُّنَنِ  مِنْ وُجُوهٍ  حَسَنَةٍ  كَمَا قَدْ بُيِّنَتْ طُرُقُهَا  فِي غَيْرِ  هَذَا الْمَوْضِعِ .  وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ  بِهِ مَنْ  قَالَ : إنَّهُ لَيْسَ  مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ  وَقَالُوا لَوْ  كَانَ مِنْهُ  لَوَجَبَ  فِيهِ تَرَبُّصُ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ  وَاحْتَجُّوا  بِهِ  عَلَى ضَعْفِ مَنْ  نَقَلَ عَنْ  عُثْمَانَ  ;  أَنَّهُ  جَعَلَهَا طَلْقَةً  بَائِنَةً ; فَإِنَّهُ قَدْ  ثَبَتَ عَنْهُ بِالْإِسْنَادِ الْمَرْضِيِّ  أَنَّهُ  جَعَلَهَا تَسْتَبْرِئُ بِحَيْضَةِ وَلَوْ  كَانَتْ مُطَلَّقَةً  لَوَجَبَ عَلَيْهَا تَرَبُّصُ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ . وَإِنْ  قِيلَ : بَلْ  عُثْمَانُ  جَعَلَهَا مُطَلَّقَةً تَسْتَبْرِئُ بِحَيْضَةِ .  فَهَذَا لَمْ يَقُلْ  بِهِ أَحَدٌ  مِنْ الْعُلَمَاءِ فَاتِّبَاعُ  عُثْمَانَ  فِي الرِّوَايَةِ الثَّابِتَةِ عَنْهُ الَّتِي يُوَافِقُهُ عَلَيْهَا  ابْنُ عَبَّاسٍ  وَيَدُلُّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ :  أَوْلَى  مِنْ رِوَايَةٍ  رَاوِيهَا مَجْهُولٌ وَهِيَ رِوَايَةُ  جمهان الأسلمي  عَنْهُ  أَنَّهُ  جَعَلَهَا طَلْقَةً  بَائِنَةً . وَأَجْوَدُ مَا عِنْدَ مَنْ  جَعَلَهَا طَلْقَةً  بَائِنَةً  مِنْ النَّقْلِ عَنْ   الصَّحَابَةِ  هُوَ  هَذَا النَّقْلُ عَنْ  عُثْمَانَ  وَهُوَ مَعَ ضَعْفِهِ قَدْ  ثَبَتَ عَنْهُ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ مَا يُنَاقِضُهُ  فَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ; لِمَا  فِي  ذَلِكَ  مِنْ خِلَافِ النَّصِّ  وَالْإِجْمَاعِ  .  وَأَمَّا النَّقْلُ عَنْ  عَلِيٍّ  وَابْنِ مَسْعُودٍ  فَضَعِيفٌ جِدًّا وَالنَّقْلُ عَنْ  عُمَرَ  مُجْمَلٌ لَا دَلَالَةَ  فِيهِ  وَأَمَّا النَّقْلُ عَنْ  ابْنِ عَبَّاسٍ  أَنَّهُ فُرْقَةٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقِ .  فَمِنْ أَصَحِّ النَّقْلِ الثَّابِتِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْآثَارِ  وَهَذَا مِمَّا اعْتَضَدَ  بِهِ  الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ فَسْخٌ :  كَأَحْمَدَ  وَغَيْرِهِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوا مَا نُقِلَ عَنْ   الصَّحَابَةِ  مِنْ  أَنَّهُ طَلْقَةٌ  بَائِنَةٌ  مِنْ الْفُقَهَاءِ ظَنُّوا تِلْكَ نُقُولًا صَحِيحَةً ; وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ  مِنْ نَقْدِ الْآثَارِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ صَحِيحِهَا وَضَعِيفِهَا مَا عِنْدَ  أَحْمَدَ  وَأَمْثَالِهِ  مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ  بِذَلِكَ  فَصَارَ هَؤُلَاءِ يَرَوْنَ  أَنَّ الَّذِينَ خَالَفُوا  ابْنَ عَبَّاسٍ  وَأَمْثَالَهُ  مِنْ   الصَّحَابَةِ  أَجَلُّ مِنْهُ وَأَكْثَرُ عَدَدًا وَلَمْ يَعْلَمُوا  أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ خِلَافُهُ عَنْ أَحَدٍ  مِنْ   الصَّحَابَةِ  مَعَ  أَنَّ النَّبِيَّ   صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  قَالَ :   {   اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ  فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ   }  وَكَانَ مَا اسْتَنْبَطَهُ  فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ  مِنْ الْقُرْآنِ وَاسْتَدَلَّ  بِهِ  مِنْ السُّنَّةِ عَنْ  كَمَالِ فِقْهِهِ  فِي الدِّينِ وَعِلْمِهِ بِالتَّأْوِيلِ وَهُوَ أَكْثَرُ   الصَّحَابَةِ  فُتْيَا .  قِيلَ  لِلْإِمَامِ  أَحْمَدَ  : أَيُّ   الصَّحَابَةِ  أَكْثَرُ فُتْيَا ؟  قَالَ :  ابْنُ عَبَّاسٍ  . وَهُوَ  أَعْلَمُ  وَأَفْقَهُ طَبَقَةً  فِي   الصَّحَابَةِ  وَكَانَ  عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ  يُدْخِلُهُ مَعَ  أَكَابِرِ   الصَّحَابَةِ  -  كَعُثْمَانِ  وَعَلِيٍّ  وَابْنِ مَسْعُودٍ  وَنَحْوِهِمْ -  فِي الشُّورَى وَلَمْ يَكُنْ  عُمَرُ  يَفْعَلُ هَذِهِ بِغَيْرِهِ  مِنْ طَبَقَتِهِ  وَقَالَ  ابْنُ مَسْعُودٍ  لَوْ أَدْرَكَ  ابْنُ عَبَّاسٍ  إسناننا  لَمَا عَشَّرَهُ  مِنَّا أَحَدٌ .  أَيْ مَا بَلَغَ عُشْرَهُ . وَالنَّاقِلُونَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْهُ  أَجَلُّ أَصْحَابِهِ  وَأَعْلَمُهُمْ بِأَقْوَالِهِ : مِثْلَ  طَاوُوسٍ  وَعِكْرِمَةَ  ;  فَإِنَّ هَذَيْنِ  كَانَا يَدْخُلَانِ عَلَيْهِ مَعَ الْخَاصَّةِ بِخِلَافِ  عَطَاءٍ  وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ  وَنَحْوِهِمَا فَقَدْ  كَانُوا يَدْخُلُونَ عَلَيْهِ مَعَ الْعَامَّةِ . وَمَعْلُومٌ  أَنَّ خَوَاصَّ الْعَالِمِ عِنْدَهُمْ  مِنْ عِلْمِهِ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ  كَمَا عِنْدَ خَوَاصِّ الصَّحَابَةِ - مِثْلَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْأَرْبَعَةِ  وَابْن مَسْعُودٍ  وَعَائِشَةَ  وأبي بْنِ كَعْبٍ  وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ  وَغَيْرِهِمْ -  مِنْ الْعِلْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ مَنْ لَيْسَ لَهُ مِثْلُهُمْ  مِنْ الِاخْتِصَاصِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  . وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا :  أَنَّ كَثِيرًا  مِنْ النَّاسِ يَظُنُّ  أَنَّ  ابْنَ عَبَّاسٍ  خَالَفَهُ  فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَثِيرٌ  مِنْ   الصَّحَابَةِ  أَوْ أَكْثَرُهُمْ وَلَا يَعْلَمُونَ  أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ   الصَّحَابَةِ  إلَّا مَا يُوَافِقُ قَوْلَهُ ; لَا مَا يُنَاقِضُهُ .  وَإِنْ قُدِّرَ  أَنَّ بَعْضَهُمْ خَالَفَهُ فَالْمَرْجِعُ فِيمَا  تَنَازَعُوا  فِيهِ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . قَالَ هَؤُلَاءِ : وَالطَّلَاقُ الَّذِي  جَعَلَهُ اللَّهُ ثَلَاثًا هُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ وَكُلُّ طَلَاقٍ  فِي الْقُرْآنِ  فِي الْمَدْخُولِ بِهَا هُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ غَيْرَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ . وَلِذَلِكَ  قَالَ  أَحْمَدُ  فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : تَدَبَّرْت الْقُرْآنَ فَإِذَا كُلُّ طَلَاقٍ  فِيهِ فَهُوَ الرَّجْعِيُّ . قَالَ هَؤُلَاءِ : فَمَنْ قَسَّمَ الطَّلَاقَ الْمَحْسُوبَ  مِنْ الثَّلَاثِ إلَى رَجْعِيٍّ  وَبَائِنٍ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ ; بَلْ كُلُّ مَا  فِيهِ بَيْنُونَةٌ فَلَيْسَ  مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ ; فَإِذَا  سُمِّيَ طَلَاقًا  بَائِنًا وَلَمْ يُجْعَلْ  مِنْ الثَّلَاثِ  فَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ لَا تَنَازُعَ  فِيهِ .  قَالُوا : وَلَوْ  كَانَ الْخُلْعُ طَلَاقًا  لَمَا  جَازَ  فِي الْحَيْضِ  فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ  طَلَاقَ  الْحَائِضِ   وَقَدْ سَلَّمَ لَنَا الْمُنَازِعُونَ أَوْ أَكْثَرُهُمْ  أَنَّهُ يَجُوزُ  فِي الْحَيْضِ ;  وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ  فِي الْحَيْضِ  .  قَالُوا : وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا حَرَّمَ الْمَرْأَةَ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ عُقُوبَةً لِلرَّجُلِ لِئَلَّا يُطَلِّقَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ;  فَإِنَّ الْأَصْلَ  فِي الطَّلَاقِ الْحَظْرُ ; وَإِنَّمَا  أُبِيحَ مِنْهُ قَدْرُ الْحَاجَةِ  وَالْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ بِثَلَاثِ مَرَّاتٍ ; وَلِهَذَا أُبِيحَتْ الْهِجْرَةُ ثَلَاثًا وَالْإِحْدَادُ لِغَيْرِ مَوْتِ الزَّوْجِ ثَلَاثًا وَمُقَامُ الْمُهَاجِرِ   بِمَكَّةَ  بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا .  وَالْأَصْلُ  فِي الْهِجْرَةِ وَمُقَامُ الْمُهَاجِرِ   بِمَكَّةَ  التَّحْرِيمُ  .  ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ . هَلْ  مِنْ شَرْطِ كَوْنِهِ فَسْخًا أَنْ  يَكُونَ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ  وَنِيَّتِهِ ؟  عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ .   أَحَدُهَا  :  أَنَّهُ لَا  بُدَّ أَنْ  يَكُونَ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ  وَنِيَّتِهِ . فَمَنْ  خَالَعَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ أَوْ  نَوَاهُ   فَهُوَ  مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ  وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ  مِنْ   أَصْحَابِ  الشَّافِعِيِّ  وَأَحْمَدَ  ثُمَّ قَدْ يَقُولُ هَؤُلَاءِ : إذَا عَرِيَ عَنْ صَرِيحِ الطَّلَاقِ  وَنِيَّتِهِ فَهُوَ فَسْخٌ .  وَقَدْ يَقُولُونَ : إنَّهُ لَا يَكُونُ فَسْخًا إلَّا إذَا  كَانَ بِلَفْظِ الْخُلْعِ . وَالْفَسْخِ  وَالْمُفَادَاةِ  دُونَ  سَائِرِ الْأَلْفَاظِ : كَلَفْظِ الْفِرَاقِ وَالسَّرَاحِ وَالْإِبَانَةِ وَغَيْرِ  ذَلِكَ  مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا يُفَارِقُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إلَّا بِهَا مَعَ  أَنَّ  ابْنَ عَبَّاسٍ  لَمْ  يُسَمِّهِ إلَّا فِدْيَةً وَفِرَاقًا وَخُلْعًا  وَقَالَ : الْخُلْعُ فِرَاقٌ ; وَلَيْسَ بِطَلَاقِ . وَلَمْ  يُسَمِّهِ  ابْنُ عَبَّاسٍ  فَسْخًا وَلَا جَاءَ  فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَسْمِيَتُهُ " فَسْخًا "  فَكَيْفَ يَكُونُ لَفْظُ الْفَسْخِ صَرِيحًا  فِيهِ  دُونَ لَفْظِ الْفِرَاقِ  وَكَذَلِكَ  أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ  أَكْثَرُ مَا يُسَمِّيهِ " فُرْقَةً " لَيْسَتْ بِطَلَاقِ . وَقَدْ يُسَمِّيهِ " فَسْخًا " أَحْيَانًا ; لِظُهُورِ  هَذَا الِاسْمِ  فِي عُرْفِ الْمُتَأَخِّرِينَ .   وَالثَّانِي  أَنَّهُ إذَا  كَانَ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ كَلَفْظِ " الْخُلْعِ " "  وَالْمُفَادَاةِ " " وَالْفَسْخِ " فَهُوَ فَسْخٌ  سَوَاءٌ  نَوَى  بِهِ الطَّلَاقَ أَوْ لَمْ يَنْوِ .  وَهَذَا الْوَجْهُ  ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ  مِنْ   أَصْحَابِ  الشَّافِعِيِّ  وَأَحْمَدَ  .  وَعَلَى  هَذَا الْقَوْلِ : فَهَلْ هُوَ فَسْخٌ إذَا عَرِيَ عَنْ صَرِيحِ الطَّلَاقِ بِأَيِّ لَفْظٍ  وَقَعَ  مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْكِنَايَاتِ ؟ أَوْ هُوَ  مُخْتَصٌّ بِلَفْظِ الْخُلْعِ وَالْفَسْخِ  وَالْمُفَادَاةِ ؟  عَلَى وَجْهَيْنِ كَالْوَجْهَيْنِ  عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ . وَهَذَا الْقَوْلُ  أَشْبَهُ بِأُصُولِهِمَا  مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ ;  فَإِنَّ اللَّفْظَ إذَا  كَانَ صَرِيحًا  فِي بَابٍ وَوُجِدَ مُعَادًا  فِيهِ لَمْ يَكُنْ كِنَايَةً  فِي غَيْرِهِ ; وَلِهَذَا لَوْ  نَوَى بِلَفْظِ الظِّهَارِ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ  وَعَلَى  هَذَا  دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ .  وَكَذَلِكَ عِنْدَ  أَحْمَدَ  : لَوْ   نَوَى بِلَفْظِ الْحَرَامِ الطَّلَاقَ   لَمْ يَقَعْ ;  لِأَنَّهُ صَرِيحٌ  فِي الظِّهَارِ  ; لاسيما  عَلَى  أَصْلِ  أَحْمَدَ  .  وَأَلْفَاظُ الْخُلْعِ وَالْفَسْخِ وَالْفِدْيَةِ مَعَ الْعِوَضِ صَرِيحَةٌ  فِي الْخُلْعِ  فَلَا تَكُونُ كِنَايَةً  فِي الطَّلَاقِ  فَلَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ بِحَالِ ;  وَلِأَنَّ لَفْظَ الْخُلْعِ  وَالْمُفَادَاةِ وَالْفَسْخِ وَالْعِوَضِ إمَّا أَنْ  تَكُونَ صَرِيحَةً  فِي الْخُلْعِ ; وَصَرِيحَةً  فِي الطَّلَاقِ أَوْ كِنَايَةً  فِيهِمَا  فَإِنْ  قِيلَ بِالْأَوَّلِ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - لَمْ يَقَعْ بِهَا الطَّلَاقُ  وَإِنْ  نَوَاهُ .  وَإِنْ  قِيلَ بِالثَّانِي : لَزِمَ أَنْ  يَكُونَ لَفْظُ الْخُلْعِ وَالْفَسْخِ  وَالْمُفَادَاةِ  مِنْ صَرِيحِ الطَّلَاقِ فَيَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ  كَمَا يَقَعُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ عِنْدَ التَّجَرُّدِ ;  وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ وَلَمْ يَعُدَّهَا أَحَدٌ  مِنْ الصَّرَائِحِ .  فَإِنْ  قِيلَ : هِيَ مَعَ الْعِوَضِ صَرِيحَةٌ  فِي الطَّلَاقِ .  قِيلَ :  هَذَا بَاطِلٌ  عَلَى  أَصْلِ  الشَّافِعِيِّ  فَإِنَّ مَا لَيْسَ بِصَرِيحِ عِنْدَهُ لَا يَصِيرُ صَرِيحًا بِدُخُولِ الْعِوَضِ ; وَلِهَذَا  قَالَ  الشَّافِعِيُّ  وَمَنْ  وَافَقَهُ  مِنْ   أَصْحَابِ  أَحْمَدَ  : إنَّ   النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ بِغَيْرِ لَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ  لِأَنَّ مَا سِوَى  ذَلِكَ كِنَايَةٌ وَالْكِنَايَةُ تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ وَالنِّيَّةُ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِإِشْهَادِ عَلَيْهَا  وَالنِّكَاحُ لَا  بُدَّ  فِيهِ  مِنْ الشَّهَادَةِ ; فَإِذَا  قَالَ : مَلَّكْتُكهَا بِأَلْفِ وَأَعْطَيْتُكهَا بِأَلْفِ وَنَحْوَ  ذَلِكَ أَوْ وَهَبْتُكهَا لَمْ يُجْعَلْ دُخُولُ الْعِوَضِ قَرِينَةً  فِي كَوْنِهِ نِكَاحًا :  لِاحْتِمَالِ تَمْلِيكِ الرَّقَبَةِ .  كَذَلِكَ لَفْظُ  الْمُفَادَاةِ يَحْتَمِلُ  الْمُفَادَاةَ  مِنْ الْأَسْرِ .  وَلَفْظُ الْفَسْخِ إنْ  كَانَ طَلَاقًا مَعَ  الْعِوَضِ فَهُوَ طَلَاقٌ بِدُونِ الْعِوَضِ ; وَلَمْ  يُقَلْ أَحَدٌ  مِنْ   أَصْحَابِ  الشَّافِعِيِّ  : إنَّهُ صَرِيحٌ  فِي الطَّلَاقِ بِدُونِ الْعِوَضِ بَلْ غَايَتُهُ أَنْ  يَكُونَ كِنَايَةً . وَهَذَا الْقَوْلُ مَعَ كَوْنِهِ  أَقْرَبَ  مِنْ الْأَوَّلِ : فَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ .   الْقَوْلُ الثَّالِثُ  أَنَّهُ فَسْخٌ بِأَيِّ لَفْظٍ  وَقَعَ ; وَلَيْسَ  مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ . وَأَصْحَابُ  هَذَا الْقَوْلِ لَمْ يَشْتَرِطُوا لَفْظًا مُعَيَّنًا وَلَا عَدَمَ نِيَّةِ الطَّلَاقِ ;  وَهَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ  ابْنِ عَبَّاسٍ  وَأَصْحَابِهِ ; وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ  أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ  وَقُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ  فِي الخلوع بَيْنَ لَفْظٍ وَلَفْظٍ ; لَا لَفْظَ الطَّلَاقِ وَلَا غَيْرِهِ ; بَلْ أَلْفَاظُهُمْ صَرِيحَةٌ  فِي  أَنَّهُ فُسِخَ بِأَيِّ لَفْظٍ  كَانَ  أَصْرَحَ  مِنْ لَفْظِ الطَّلَاقِ  فِي مَعْنَاهُ الْخَالِصِ . وَأَمَّا  الشَّافِعِيُّ  فَلَمْ يَقُلْ عَنْ أَحَدٍ  مِنْ السَّلَفِ  أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ لَفْظِ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ بَلْ  لَمَّا  ذَكَرَ قَوْلَ  ابْنِ عَبَّاسٍ  وَغَيْرِهِ وَأَصْحَابِهِ  ذَكَرَ   عَنْ  عِكْرِمَةَ  أَنَّهُ  قَالَ : كُلّ ما  أَجَازَهُ الْمَالُ فَلَيْسَ بِطَلَاقِ .  قَالَ :  وَأَحْسَبُ مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ طَلَاقًا إنَّمَا يَقُولُ  ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ  .